شذرات من تصوف المرأة

Cover Image for شذرات من تصوف المرأة
نشر بتاريخ

تنعمت المرأة المسلمة بطيب المقام ورفعة الدرجة في عصر وصفه الحبيب المصطفى بأنه خير العصور، وهو أمر موثق ومحفوظ في دواوين الحديث النبوي الشريف وأجزاء كثيرة من روايات الصحابة الكرام. كانت المرأة بحق شقيقة الرجل في البيت والمسجد، في السلم والحرب، في التّقى والصلاح ودرجات الكمال الخلقي والإيماني، مما دل على أن النصف الثاني من المجتمع كان حاضرا وبقوة في النسيج المجتمعي في العقود الأولى من تاريخ المسلمين، وأن الإسلام بريء من أي تهميش أو إقصاء طالها فيما بعد، بالدليل والحجة. في هذه البيئة النبوية برزت فاعلية المرأة المسلمة ومشاركتها في بناء أسس وصنع حضارة الإسلام.

إلا أن الأمر ما لبث أن تغير، وتقهقر دور المرأة بعد الانكسار التاريخي الذي عرفه المجتمع المسلم بعد الفتنة الكبرى ومقتل ثالث الخلفاء الراشدين؛ سيدنا عثمان، رضي الله عنهم أجمعين.

لم تسلم المرأة المسلمة من تبعات هذا التغيير التاريخي، خصوصا بعد سيادة الفقه المنحبس الذي حال بينها وبين أحكام الفقه الصحيح، فكان من الطبيعي ظهور تيارات ومذاهب تنحى منحى مخالفا لهذا الوضع المتردي السائد، تحاول الحفاظ على حقيقه ولبّ الدين الصحيح.

فظهرت حركة التصوف بالعالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي كنزعات فردية تدعو إلى الزهد؛ الذي تمثلَ في العبادة والنسك والانقطاع عن الدنيا، ثم تطور حتى صار ظاهرة إسلامية ومنطلقا مهما من منطلقات الإسلام، فأصبح اتجاها نفسيا وعقليا وسلوكيا، عملا وعبادة، ومدرسة أنجبت منذ أن نشأت شخصيات تركت بصمات على التراث الديني.

أسباب تصوف النساء

أشرنا بداية إلى أن المرأة المسلمة كان لها دور مهم وبارز في الحياة العامة في فجر تاريخ الإسلام، لذلك لم يكن من الصعب عليها الخوض في الحياة الصوفية وتحمل شدة طرقاتها، خصوصا وأن الميدان انفرد به الرجال زمانا، حتى ليُظن أن علم التصوف هو علم الرجال، لما يتميز به من مجاهدة ومصابرة وقطع العلائق والتقلل من أسباب الدنيا.. وكل ذلك مما لا تطيقه المرأة بطبيعة فطرتها وما جبلت عليه.

فظهرت نماذج، كان سلوكهن هذا التوجه نابعا من إيمانهن القوي بالحق وثبات شخصيتهن، فكن يعبرن عن ذلك عن  طريق الشعر والأمثال والحكم، مما ينبئ عن شدة حبهن لله وزهدهن في الدنيا، رغم قلة ما وصلنا وضياع العديد منه بانعدام التدوين.

نشأت معظم النساء الصوفيات في بيوت صوفية معروفة، بصحبة قامات روحية عالية بصفتهن إما زوجات أو أخوات أو بنات، فهذه أخت إبراهيم بن أدهم (ت 160 هـ/876 م) كانت تسلك مسلك أخيها إبراهيم في الزهد والتقلل والورع والتوكل 1. وهذه زبدة أخت بشر الحافي (227 هـ/741 م) سلكت أيضا مسلك أخيها، فكان مما قالت: «أثقل شيء على العبد الذنوب وأخفه عليه التوبة، فما له يدفع أثقل شيء بأخف شيء» 2.

وقد أورد أبو عبد الرحمن السلمي كلاما لبعض الصوفيات، منه: «تقول العابدة مؤمنة بنت بهلول (ق 3) وقد سئلت من أين استفدت هذه الأحوال؟ قالت: عن اتباع أمر الله، على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» 3.

كما أن انتشار مؤسسات التنشئة الصوفية (الزوايا والتكيات، الرباطات أو الرابطات الخانقاه) ساعدت على انتشار ونشأة أجيال من الزاهدات والمتصوفات، كان لهن أدوار ووظائف في الحياة العامة والخاصة.

معظم النساء الصوفيات، ساهم المحيط والبيئة التي عشن فيها في تصوفهن، فالإنسان ابن بيئته، وكان بعضهن ينتسبن إلى أسر عرفت بالصلاح بأكملها. وكذلك كان للقبيلة دور في تصوف المرأة، حيث عرفت قبائل كبرى في بلاد المغرب بالتصوف؛ مثل قبائل: صنهاجة 4 ورݣراݣة 5 وهسكورة 6 وغيرها من القبائل.

إن المتتبع لتاريخ المرأة الصوفية يستشف حيفا وظلما كبيرا،  فقد عانت من ضياع الجزء الأكبر من إنتاجاتها؛ إما بضياع النصوص المدونة أو بعدم التدوين أصلا والاقتصار على التناقل أو الموروث الشفهي، مما أدى إلى ضياع الكثير منه إلا ما بقي من أحبار مخزونة في موسوعات التاريخ؛ مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي وتاريخ دمشق لابن عساكر، وفي كتب التراجم والطبقات، وغير ذلك، مما ينبئ عن تاريخ مضيء يحكي عن وجودهن بقوة في هذا المجال، وعن حسن الطريق الذي سلكته هؤلاء النسوة، وأن حالهن في ذلك كان مبنيا على الحق، وما قُمن به كان امتثالا لأمر الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.


[1] السلمي أبو عبد الرحمن: ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات، ص: 9.
[2]  ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي: صفه الصفوة، ص: 514.
[3] السلمي أبو عبد الرحمن: ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات، ص: 34.
[4] صنهاجة: اختلف النسابة والمؤرخون حول أصل القبيلة فمنهم من يرجعها إلى العرب القحطانية.
[5] رݣراݣة: وهي بطن من بطون مصمودة، وهي أول قبيلة اعتنقت الإسلام بالمغرب.
[6] هسكورة: وهي قبيلة بربرية اختلف المؤرخون في أصلها؛ حيث يرجعهم البعض إلى مصمودة والبعض الآخر إلى صنهاجة.