شذرات في التربية

Cover Image for شذرات في التربية
نشر بتاريخ

استقبل الفلاح يومه بالدعاء والتضرع إلى الله ليهبه من فضله العظيم ورزقه الكريم، توجه صوب حرثه الذي طالما تعهده بالعناية مدة ليست باليسيرة حاملا عدته في جرابه وعزما وتصميما في قلبه. أقبل وهو يناجي ربه بالتسبيح والتهليل تارة وبالحمد والثناء عليه تارة أخرى.

كانت الأرض صالحة لاستقبال البذرة الجديدة وعلى أهبة واستعداد تامَّين لاحتضانها بين صعيدها الطيب حيث دأب المزارع الطيب على تسميدها بعد أن زودها بأجود أنواع التربة الخصبة الغنية بالأملاح والمعادن.

توكل على مولاه وقام بزرع البذرة في جوف حفرة أعدها من قبل ثم أهال عليها التراب وصب عليها الماء حتى ارتوت، ثم جلس بقربها ولم يزح ناظريه عنها لفترة وهو يذكر الله لا يفتأ. يجول ببصره يمنة ويسرة كأنه يتوجس خيفة أن يغدره طائر عابر أو قارض ماكر فيخطف البذرة ويخطف معها كل الآمال.

بعد مدة من الصبر والاصطبار مع التعهد والانتظار، ظهرت بوادر الأمل تلوح من فجوة شق صغير مسفرة عن برعم أخضر صغير يحاول بعنفوان الانسلال من الظلمة إلى عالم النور. برعم فتي أخضر ندي، لا حول له ولا قوة يغادر في مشقة وعناء رحم الأرض التي احتوت نواته لبرهة من الزمن ثم يلتفت يمينا وشمالا باحثا عن حضن جديد في هذا العالم الغريب الفريد، لكن ما لبث أن ضعف وخانته قواه فمال على جنبه مطأطأ رأسه مستسلما للقدر.

لاحظ المزارع المصلح الصالح هذا الأمر وكأنما فطن إليه مسبقا، فما كان منه إلا أن فتح جرابه وأخرج قصبة قصيرة وقطعا صغيرة من الحبال. ثبت أحد طرفي القصبة بالأرض بمحاذاة البرعم الصغير ثم استخدم قطع الحبال الصغيرة لتثبيته عليها دون شد عنيف فيكسر عوده أو لين كثير فيكون بدون جدوى. أحس البرعم حينئذ بالحماية والأمان إذ أمّنت له القصبة الدعامة و قِطَعُ الحبل الاطمئنان، فاشرأب بجيده والبنان وأطلق لنفسه العنان يتطاول بعرفه في الزمان والمكان.

مرت الشهور والأعوام وأصبح الفرع صلبا لا يرام، واشتد العود وفاق القصبة في الطول والقوام، فجاء الفلاح عندها بقصبة أخرى تفوق أختها ارتفاعا، ربما شبرا أو ذراعا، وحبالا أخرى متينة شدّها للجذع الفتي في لين وحنو لا يقصم الظهر ويقهر وغير مرخى فيتقهقر.

وظل على تلك الحال برهة من الزمن حتى اشتد العود وكبر ونمت له أغصان وفي الأرض تجدّر. أزال المزارع القصبة والحبال ورفع يديه داعيا في ابتهال، حمِد الله على حسن صنيعه وخرّ ساجدا وقال : “الحمد لله الذي وهبنيه من غير حول مني ولا قوة”.

أصبح البرعم الصغير شجيرة تلوح بفروعها الفتِية في وجه الرياح الموسمية وتلاعب أشعة الشمس البهية أو تمازح الفراشات والعناكب المتدلية. لكن بعض النباتات المتطفلة أخذت تنمو هنا وهناك تتسلق الجذع الأعزل دون استئذان فتحجب عنه نور المكان وتمنعه من الحركة بأمان. وقبل أن ينادي مستغيثا من ينقذه من هذه البراثن التي تكبله وتقيد حريته جاء الفلاح الذي لم يبرح المكان بسلم ومشذب وأخذ يقلم هنا وهناك فأزال كل الأعشاب الضارة ليحرر موهوبه ويخلصه من أولئك المتطفلين سيئي السمعة الذين لا همّ لهم سوى بث الذعر في النفوس الطيبة الباقية على الفطرة. وما لبثت الشجيرة أن أضحت شجرة فارهة الطول ممتدة الفروع مخضرة الأغصان، تأتيها الطيور من كل حدب وصوب وتستظل تحت عروشها الكائنات.

حمل الفلاح جرابه على ظهره وأشاح بوجهه ميمما جهة المغيب تاركا خلفه عمله الصالح الذي أفنى حياته في العناية به والسهر طويلا كي لا يمسه السوء منتشيا بحلاوة وطلاوة ما عملت يداه.