شبكات الاختراق المدني في ضوء تقرير راند 2007م (1/3)

Cover Image for شبكات الاختراق المدني في ضوء تقرير راند 2007م (1/3)
نشر بتاريخ

قبل البدء…

 ترددت كثيرا في نشر هذه الورقة البحثية التي انتهيت من صياغتها قبل سنة من الآن، لاعتبارات عدة، أهمها أن موضوع البحث “الاختراق المنظم للمجتمعات الإسلامية عن طريق بوابة المجتمع المدني” قد لا يتقبله الكثيرون ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة دونا عمن لا يستسيغ ذكرا لوجود أياد أخرى تعبث من وراء الستار، كما لن يستسيغ تفاصيله كل من دجنت عقولهم على قبول فكرة النبل والمثالية التي دمغ بها المجتمع المدني، خاصة وأنه صبغ بصفات الخيرية والإحسان والتطوع في الصالح العام… ولأني أعي جيدا واقعنا الفكري الذي جعل من المجتمع المدني معتقدا ومقدسا، وقاعدة أخلاقية مفروضة ومنزهة، فإني ارتأيت عدم نشر الورقة البحثية لولا ما استجد من تطبيع مدان مع كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي رفع اللثام عما كان يعتمل في الخفاء من مشاريع اختراق وتطبيع مجتمعي، تتكشف بعض تفاصيله يوما بعد يوم، آخرها توقيع اتفاقية لمحاربة معاداة إسرائيل والصهيونية في المغرب بين رئيس جمعية ميمونة وبين نائبة المبعوث الأمريكي لمراقبة ومحاربة معاداة السامية، إيلي كوهانيم. وهو ما يؤكد أن اختراق المجتمعات الإسلامية عن طريق المجتمع المدني كان ولا يزال خيارا ناجعا لقوى الاستكبار العالمي، بل وأعدت لذلك تقريرا مفصلا وخطة معلنة، نعرض بعضا من تفاصيلها فيما يلي:

خلق التقرير الصادر سنة 2007 عن مؤسسة راند بعنوان “بناء شبكات الاعتدال الإسلامي” موجة من الانتقادات في أوساط بعض المثقفين والباحثين والسياسيين، ولايزال، وذلك لما تضمنه من تصريح وإفصاح عن خطط واستراتيجيات وتوصيات برنامجية معدة للإجهاز عما يسمى بالإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي، عبر بوابة المجتمع المدني بمؤسساته المستقلة وشبه المستقلة، من جمعيات ومنظمات غير حكومية وإعلام وهيئات ومراكز يصعب عدها، على غرار المخطط الناجز في مرحلة الحرب الباردة التي استمرت أزيد من أربعة عقود، والذي استهدف القضاء على الشيوعية من الداخل، حين شكلت خطرا وتهديدا يقض مضجع الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها الاستراتيجية ونفوذها الدولي.

وعلى الرغم من أن الجينات الفكرية والاقتراحية والاستشرافية التي يحملها هذا التقرير تعد  خطرا يهدد مستقبل العالم العربي والإسلامي، فإن التفاعل مع أفكاره الاستخباراتية وخططه بعيدة المدى يكاد يكون منعدما، ما عدا بعض المحاولات النقدية المحمودة وبعض الإشارات من هنا وهناك، والتي لم تخلق وعيا كافيا يستنفر الفكر والرؤية الاستشرافية للفاعل العربي والسياسي على حد سواء، للتصدي لما يحاك ضد أمة لم تستوعب درس التاريخ، حين كان انهيار الشيوعية هدفا تخطط له أياد متخصصة وتعد له مشاريع وخطط مداها عقود، يستبعدها العقل الساذج والسادر في غيه، حتى  صارت واقعا وغدت حقيقة لا ينفع معها الندم.

فمنذ عقود ونيف، وبحجة الحرب الشاملة على الارهاب، ولغرض القضاء على المد الإسلامي المتنامي، الذي قض مضجع الرأسمالية الجشعة المتحالفة مع منظومة الاستكبار العالمي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، المسكونة بروح جاهلية، “التي حاكت في الماضي مخططات الإفساد في الأرض ولا تزال تحيك” 1، وبتنسيق مع شركائها الغربيين، قد عملت على اختراق الدول العربية والإسلامية على المستوى الرسمي والمستوى المجتمعي القاعدي، من خلال برامج ومخططات ومشاريع رسمية حكومية، تتبناها الحكومات المحلية، وأخرى حرة مستقلة، يتم تنزيلها في فضاء المجتمع المدني (الحر)، وتهدف جميعها إلى خلخلة منظومة القيم وبعثرة المشهد السياسي بما يخدم الولاء الدائم للسيادة الأمريكية الصهيونية، والتطبيع مع نمط ثقافي منفتح ومتحرر من كل القيود، لا يؤمن بضوابط الشرع وخصوصيات الأعراف والتقاليد السائدة، كما تهدف هذه المخططات المعلنة إلى اختراق المجتمعات المحلية وتفتيت الروابط القائمة على مبدأ الأخوة الجامعة إلى روابط عقدية وأيديولوجية، تُقسم المجتمعات المسلمة بشكل مقصود إلى تيارات توصف بالمتشددة والمعتدلة، وأخرى بالليبرالية والعلمانية… وهو توصيف مقصود لواقع ما كان ليتمايز حد التنافر والتناقض لولا التحريض الممنهج للأيادي شبه الخفية التي تخطط بعلانية ووضوح 2، وتنفذ باستقلالية وحرية عن مصدر القرار والتمويل.

 من الشيوعية إلى الإسلام حرب مصالح

راكمت وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية التجربة والخبرة في طريقة تعاملها مع قضايا ما يسمى بالخطر الأخضر، من خلال تجربتها أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي منذ أربعينيات القرن الماضي، حيث استطاعت احتواء المد الشيوعي المتنامي آنذاك، بفعل سياسات الاحتواء التي تمارسها الولايات المتحدة، عن طريق خلق وإنشاء مؤسسات حرة وديمقراطية موازية، تنافس الهيمنة السوفياتية على المجتمع المدني حين كان الفكر الشيوعي منتشرا وممتدا في مناطق مختلفة من العالم، حيث تشكل الفكر الشيوعي في كيانات حزبية قوية وحركات مجتمعية مؤثرة، بدا أنها توشك على الوصول إلى السلطة من خلال الوسائل الديمقراطية 3.

فبالإضافة إلى المقاربة العسكرية؛ عملت الإدارة الأمريكية عبر شركائها من منظمات المجتمع المدني وعبر سياسة الدبلوماسية الناعمة، على خوض حرب احتواء طويلة النفس، ولجت خلالها إلى المعاقل الشعبية الشيوعية، عبر بوابة الأحياء الشعبية والاتحادات العمالية والمنظمات الطلابية وشبكات الجمعيات المحلية، بالموازاة مع خلق موجة من الأفكار والرؤى المناقضة والمجابهة للفكر الشيوعي، وتدعيم النخب والأطر ذوي التوجه الليبرالي الديمقراطي، وذلك عن طريق تنظيم وتمويل مجموعة من المؤتمرات الثقافية والفكرية التي تحظى بتغطية إعلامية منقطعة النظير، يتم الترويج لها على نطاق واسع، وبمشاركة مكثفة للنخب الفكرية والثقافية والسياسية، ليتم الترويج بذلك للنمط الفكري والثقافي المراد تعميمه، والذي ينبني على نقيض ما تدعو إليه الشيوعية السوفياتية المنافسة، والتي شكلت خطرا داهما للولايات المتحدة الأمريكية آنذاك.

وبنفس المنطق عملت الولايات المتحدة على توظيف الحركات الإسلامية في عهد الرئيس ريغان لاحتواء المد الشيوعي في أفغانستان وزودتهم بالدعم اللوجستيكي والمالي والإعلامي، 4 في عملية اختراق داخلية تروم تقويض أساس المد الشيوعي بآليات ووسائل محلية، تغني الولايات المتحدة الأمريكية من تداعيات الانخراط المباشر في مخططات الاختراق والانغماس المفضوح في قضايا محلية، لن تقبل بها الشعوب مهما قُدِّم لها من تبريرات.

إن التحدي البارز الذي واجه السياسات الأمريكية المراوغة والمخادعة في عملية الاختراق، والذي نجحت فيه إلى حد بعيد، هو خلق رأي عام شعبي من داخل المنظومة الشيوعية، ينتصر لمنظومة القيم الليبرالية، كالحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، وينتفض ضد القبضة الحديدية التي اتسم بها الحكم الشيوعي الذي سيطر على كل وسائل الإنتاج، وجند الناس كالعبيد يساقون إلى الموت باسم نظريات الاشتراكية العلمية، ويبيعهم وهم الجنة الأرضية التي انهارت أساساتها في أنفس الناس وفي آفاق المجتمع من أول خطوة 5، حين تم استغلال تناقضات المذهب الشيوعي وتم إبراز مثالبه وتم تسليط الضوء على نقائصه التصورية والعملية، التي سهلت عملية تقويض وتفتيت الدعامات الأساسية للمجتمع الشيوعي ومؤسساته الاجتماعية والسياسية.

يتبع..


[1] عبد السلام ياسين رحمه الله – سنة الله
[2] مؤسسة راند، نموذج لمنظمة غير ربحية وخلية تفكير أمريكية تأسست سنة 1948م، تساهم في خلق وتوجيه السياسات الأمريكية وصناعة القرار من خلال تقارير وأبحاث محكمة تهم بالخصوص موضوع الإسلام، أو ما يوصف بالخطر الإسلامي، وقد أصدرت مجموعة من الأبحاث والتقارير، من بينها “الإسلام المدني الديمقراطي” 2005م، و”بناء شبكات الاعتدال الإسلامي” 2007م
[3] بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، سلسلة تقارير مؤسسة راند
[4] كتاب: نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني، وقائع مؤتمر
[5] بلغ عدد ضحايا شعوب الاتحاد السوفياتي الشيوعي في عهد ستالين وحده نحو 20 مليون إنسان!!!