سيدتنا هاجر مدرسة في اليقين

Cover Image for سيدتنا هاجر مدرسة في اليقين
نشر بتاريخ

الأنبياء صفوة خلق الله، صنعتهم ورعتهم العناية الإلهية، فهم الكمال في أبهى صورة، وما يرتبط بهم من زوجات وأبناء. هم القدوة الحية لتعليم الناس وتربيتهم على معاني الإيمان، ومكارم الأخلاق.

نعرج في معرض حديثنا هذا، على سيرة آل سيدنا إبراهيم الخليل، ونخص بالذكر زوجه الطاهرة الزكية؛ سيدتنا هاجر عليهما السلام.

ضربت أروع الأمثلة في دروس الصبر والمصابرة، وكمال الرضى، وحسن اليقين والتوكل على الله، والأمومة الحانية، فخلدت ذكرها  في الأولين والآخرين.

فما سر قوة يقينها، الذي مكنها من تجاوز ضروب المحن والابتلاءات؟

 من أين اكتسبت كمال يقينها؟ وهل اليقين يتعلم؟ إذا كيف يمكننا وصول مرتبة اليقين؟

أولا:  “إذن لا يضيعنا”

هاجر القبطية هبة من ملك مصر لسارة زوج إبراهيم عليهم السلام، وذلك بعد أن عصمتها العناية الإلهية من أن يمس شرفها. ولما أيقنت بعقمها وهبتها لسيدنا إبراهيم عليه السلام.

حملت سيدتنا هاجر بسيدنا إسماعيل، واستجاب الله دعاء سيدنا إبراهيم، وحقق أمنية سيدتنا سارة، لكن سرعان ما دبت الغيرة في أوصالها، فلم تعد تطيق رؤيتها، فأوحى الله لنبيه الكريم بهجرة زوجه الشابة وابنها لمكة المكرمة.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق ماء زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء. فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء.

ثم قفي إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت” [ابن كثير].

ما أن اختفى عن ناظرهم عليه السلام، وصار عند الثنية، حتى استقبل بوجهه البيت، ورفع يده بهذا الدعاء: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [سورة إبراهيم، الآية: 37].

موقف جلل عاشته سيدتنا هاجر؛ وحيدة مع رضيع في صحراء موحشة، ومقفرة، لكنها بثبات الجبال، ورباطة جأش الرجال، وصدق يقينها في الله، سلمت أمرها للباري، وتيقنت أنه لن يضيعها.

ولما انتهت مؤونتها، واشتد عطشها وعطش ابنها، أسرعت مهرولة بين جبلي الصفا والمرة لعلها تجد ماء، سعت سعي الملهوف على ضياع كبدها موتا، فجاء المدد والفرج من السماء، بتفجر ماء زمزم عند قدم ابنها سيدنا إسماعيل، فروت وارتوت، وانقلبت محنتها إلى منحة ربانية خالدة.

ما إن بلغ سيدنا إسماعيل مرحلة الفتوة، وقد تعلم الفروسية، والفصاحة، من إحدى القبائل التي طلبت جوارهم، حتى جاء ابتلاء الذبح، برؤيا أريها سيدنا إبراهيم في المنام.

تنجح الأسرة كاملة في الامتحان العسير، ويكون موقفها مرة أخرى التسليم والرضى وحسن الظن بالله، واليقين في رحمته وحكمته ولطفه. فكان جواب الابن البار: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُومَرُ [سورة الصافات، الآية 102]. وأجابت سيدتنا هاجر زوجها حين أخبرها الخبر: لعل الله يحدث أمرا، فصدقت نبوتها، وفدي بذبح عظيم، صار شعيرة من شعائر الدين التعبدية، كما أصبح سعيها بين الصفا والمروة، ركنا ركينا من أركان الحج.

ثانيا: سيدتنا هاجر درس في اليقين

ابتليت سيدتنا هاجر بلاء شديدا، لكنها لما علمت أنه أمر الله تعالى أذعنت، وامتثلت وخضعت له، موقنة بحكمته ورحمته ولطفه وحسن تدبيره.

فما سر يقينها؟ وكيف اكتسبته؟ وهل هو مرتبة من مراتب الدين؟

اليقين لغة هو العلم وإزاحة الشيء، وتحقيق الأمر. أما اصطلاحا فيقول ذو النون المصري: “هو النظر إلى الله في كل شيء، والرجوع إليه في كل أمر، والاستعانة به في كل حال” [مدارج السالكين].

وهو مرتبة من مراتب الدين السامقة، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “ومنزلة اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد… به تفاضل العلماء، وإليه شمر العاملون، وفيه تنافس المتنافسون” [مدارج السالكين].

 وهو على ثلاثة أنواع، كما ضرب لذلك مثلا ابن القيم رحمه الله بقوله: “من أخبرك أن عنده عسلا وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددت يقينا، ثم ذقت منه، فالأول علم اليقين، والثاني عين اليقين، والثالث حق اليقين” [مدارج السالكين].

والسؤال التربوي العملي: هو كيف نتعلم اليقين؟

عن خالد بن معدان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه، فإني أتعلمه” [كتاب اليقين لابن أبي الدنيا، ص 34].

يأمرنا المعلم الرحيم صلى الله عليه وسلم، من خلال الحديث النبوي الشريف بضرورة تعلم اليقين، كما نتعلم آيات القرآن الكريم، ويحفزنا صلى الله عليه وسلم بقوله: “فإني أتعلمه”.

ذكر العلماء وسائل عديدة لتعلم اليقين، نذكر بعضا منها:                                      

ـ العبادة والتفكر: قال تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [سورة الحجر، الآية 99]، فيأمرنا الحق بعبادته، والمداومة عليه، حتى يأتينا الأجل، فنحظى بنداء: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [سورة الفجر، الآية 30].

وكذلك التفكر في آلاء الله، لقوله تعالى: وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [سورة الأنعام، الآية 65]، وسر طلب سيدنا إبراهيم ربه ليريه كيف يحيي الموتى، كان بقصد تحقق المشاهدة والمعاينة ليطمئن قلبه ويحصل له اليقين.                                     

ـ الدعاء الصادق: وهي وصية نبوية، لأن اليقين درجة إيمانية يهبها الله لمن يشاء.

جاء في مسند أحمد أن أبا بكر رضي الله عنه خطب في الناس يوما فقال: قال صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس إن الناس لم يعطوا في الدنيا خيرا من اليقين والمعافاة، فسلوهما الله عز وجل” [أخرجه أحمد، 1/8، 38].

ومن الدعاء المأثور: “اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا…” [أخرجه الترمذي].

ـ الصحبة الصالحة: اليقين علم قلبي يقذفه الله في قلوب أوليائه، لذا لا يمكن تعلمه إلا من قلوب الرجال الصادقين الوارثين لسر النبوة، فبصحبة الصالحين، والتلمذة عليهم، نتشرب معاني اليقين، ونرتقي في مراتب الدين.

يقول الأستاذ عبدالسلام ياسين رحمه الله: (ذاق الصحابة حلاوة الإيمان، وطعموا طعمه، فحصل لهم اليقين. ذوقوا طعم الإيمان تابعيهم، وذوق تابعوهم تابعيهم، والجداول النورانية حية لا تزال، متدفقة ينور الله بها عباده، ويحيي بها أرض القلوب كما يحيي بغيث السحاب أرض الزرع ) [تنوير المومنات، ج 2، ط 2018/1، ص 19].

ومن ذاق اليقين، عليه لزوم عتبته، والعض عليه بالنواجذ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا حارثة رضي الله عنه: “كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: فانظر ما تقول فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا وسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. قال صلى الله عليه وسلم: يا حارثة عرفت فالزم (قالها ثلاثا)، رجل نور الله قلبه”.

تعلمت أمنا هاجر عليها السلام اليقين من مشكاة نبوة سيدنا إبراهيم، الذي ضرب المثل في كمال الصبر واليقين، فخرق الله له معجزات عظيمة، على قدر صبره على المحن، فصير النار بردا وسلاما عليه.

وكذلك الشأن في مدارس النبوة، فها هو سيدنا موسى عليه السلام، لما أدركه فرعون بجنوده، وتيقن قومه بالهلاك لا محالة، أجابهم وهو متيقن بمعية الله ونصرته، قال عليه السلام: كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الشعراء، الآية 62]. فنجاهم من فرعون وجنوده بمعجزة شق البحر بعصاه السحرية.

واضطرب سيدنا أبو بكر، حينما كان صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار ثور، والكفار فوق رؤوسهم، فطمأنه الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [سورة التوبة، الآية 40].

فما أحوجنا اليوم إلى تعلم اليقين، وتمثله سلوكا قلبيا، يشعرنا بمعية الله سبحانه وتعالى، وبقرب موعود الله بنصرة دينه، والتمكين لعباده المتقين، ولو بعد حين، مصداقا لقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة، الآية 24].