سيدتنا مريم ابنة عمران

Cover Image for سيدتنا مريم ابنة عمران
نشر بتاريخ

في ذكرى ميلاد نبي الله عيسى عليه السلام، سلم الله عليك بما أوتيت من الحكمة، وبما أوتيت من البركة، وبما أوتيت من الكرامات، وأكبر منها، وأعظم منها، وأسمى منها، طوبى لك بأم اصطفاها الله على نساء العالمين، وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَسورة آل عمران الآية42. 

امرأة طاهرة نقية، عابدة زكية، عليك سلام الله سيدتنا مريم بنت عمران، بما زكاك ربك وسمى بك ورفعك الدرجات العلى.

فمن هي هذه السيدة الطاهرة العفيفة التي اختارها الله لنيل هذا الشرف العظيم؟

نبحث في طيات التاريخ، ونتنور بأنوار القصص القرآني والسنة النبوية لنعيش مع سيدتنا مريم بنت عمران حياتها وأسرار اصطفائها علنا نتنور ببعض من أنوار صحبتها، ونتلمس طريق السلوك الرباني الذي سلكته حتى نالت ما نالت. 

1- نسب طاهر نقي مبارك

سيدتنا مريم عليها السلام فرع من أصل طاهر نقي وهم آل عمران الذين اصطفاهم الله تعالى فقال فيهم:  إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سورة آل عمران الآيتين: 33- 34.

ومن مظاهر هذا الاصطفاء أن بيتهم كان بيت تقوى وصلاح، ثم إن عمران عليه السلام كان رجلا تقيا صالحا عابدا عالما، وكان يعلم الناس مبادئ الدين والعبادة والصلاح إذ كان من أحبار اليهود وصالحيهم، وكذا إكرام سلالتهم الطاهرة بالنبوة، فنبي الله عيسى هو من ذرية آل عمران، ونبي الله يحيى ابن خالته أيضا من هذه السلالة الطاهرة النقية ذرية بعضها من بعض

2- ولادتها كرامة وامتحان من الله تعالى

كانت أم سيدتنا مريم عليها السلام حنة بنت فاقوذا زوجة عمران عاقراً لم تلد، إلى أن عجزت، فبينما هي في ظلّ شجرة أبصرت بطائر يطعم فرخاً له، فتحرّكت عاطفتها للولد وتمنّته فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محررا- أي: خالصا- مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس، فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمآل عمران الآية 35. أولى الكرامات، استجابة الله تعالى لامرأة عاقر وتهييئا لولادة سيدة نساء العالمين.

أما أولى الامتحانات فهو أن المولود الذي ظنت زوجة عمران أن يكون ذكرا، لأن الذكر هو المؤهل لخدمة بيت المقدس ولم تكن البنات تقمن بهذه المهمة، فاعتذرت أم مريم عليها السلام لله تعالى فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. آل عمران الآية 36. لكن رحمة الله بأهل هذا البيت المبارك وتهييئا للسيدة الطاهرة التي ستلد نبي الله كانت أوسع من الامتحان، فتقبل الله النذر  وجعله نذرا مباركا رغم أن المولود أنثى فتقبلها ربها بقبول حسن.

3- اختيار رباني للكفيل

كان عمران أب سيدتنا مريم من صالحي اليهود، وله مكانة عظيمة عند قومه، فقد كان يعلم الناس دينهم، ويوجههم إلى طريق الخير، وبما أنه توفي قبل ولادة ابنته مريم عليها السلام، فقد تنافس أهل القبيلة وتسابقوا حول كفالتها وتربيتها اعترافا منهم بأفضال سيدنا عمران عليهم. فاتفقوا أن يقفوا على مجرى النهر ويرموا أقلامهم (اختاروا القلم لأن أبو مريم كان يعلمهم بالقلم)، آخر قلم يبقى في النهر دون أن ينجرف هو الذي يكفلها. فرموا أقلامهم وجُرفت أقلامهم ووقف قلم زكريا أي أنه لم يكن آخر واحد ولكن وقف تماماً في النهر. فرموا مرة ثانية وحدث نفس ماحدث في المرة الأولى أي أن قلم زكريا وقف في النهر. رموا المرة الثالثة فوقف القلم في النهر مرة أخرى ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ سورة آل عمران، الآية 44. أم النبي عليهما السلام لن يكفلها إلا نبي عليهم جميعا سلام الله تعالى. اختيار رباني.

4- نشأة طاهرة في مكان طاهر

نشأت أم نبي الله في بيت الله كما نذرت لها أمها، كان بيتها المسجد، فيه خلوتها، وفيه عبادتها، وفيه تبتلها. 

فتاة صائمة قائمة عابدة، خادمة لبيت الله يتولاها الله تعالى فكان يأتيها طعامها من الغيب كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب آل عمران الآية 37. فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. عناية ربانية.

5- والملائكة تتنزل عليها وتكلمها 

اصطفاء رباني آخر: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ  يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.آل عمران الآية 42. كان جبريل عليه السلام يزور سيدتنا مريم بمعية الملائكة يبشرونها باصطفاء الله تعالى لها وتهييئها للمعجزة التي يخبؤها لها القدر. لطف رباني.

6- المعجزة والكرامة الكبرى

كانت سيدتنا مريم تتعبد في المسجد حينما جاءها سيدنا جبريل أمين الوحي على هيأة رجل ليبشرها بسيدنا المسيح ولدا لها فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّاسورة مريم الآية 17. ففزعت منه، وكان تعوذها بالرحمن قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا سورة مريم الآيات :من 18 إلى 21. طمأنة من أمين الوحي وتأكيد على قدرة الله تعالى، وعلى إمضاء مشيئته وحملت سيدتنا مريم بنبي الله، حتى جاء وقت الوضع وهي تحمل هما كالجبال، ماذا تقول لأهلها وقبيلتها، وكيف تشرح أمرا لن يفهمه ولن يصدقه بشر، فما كان منها إلا أن خرجت من مكان تعبدها في بيت المقدس لتتوارى عن الأنظار حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّاسورة مريم الآية 22، حتى جاء وقت الوضع وقد وصل بها الحزن أقصاه، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا سورة مريم الآية 23. تمنت الموت لأنها تعرف ما ستلقاه من قومها، لكن الله تعالى حاشا أن يترك عبده المؤمن دون ابتلاء ابتلاه به، وناداها من تحتها ألا تحزني، قد جعل ربك تحتك سرياسورة مريم الآية 24.  وقيل أن الله تعالى أجرى تحتها نهرا لتروي ظمأها، ثم ما كان منها إلا أن تمس جذع النخلة لتساقط عليها التمار التي ستسد بها رمقها. ثم تأتي سيدتنا مريم قومها ونبي الله بين يديها، دون أن تتكلم، لكنها أشارت إلى آية الله تعالى التي اصطفاها بها، فيتكلم النبي الرضيع في المهد وهو حديث الولادة، اصطفاء بعد اصطفاء، وكرامة بعد كرامة…قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّاسورة مريم الآيات: من 30 إلى 33. فسلام عليك نبي الله وسلام على السيدة الطاهرة العابدة الصابرة وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى في كتاب تنوير المومنات: إلى مريم ابنة عمران وصويْحباتها في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر. وإلى الأكملين المرسلين تَرْنُو أعين المومنات والمومنين، تتعلم الأجيال أن تقتحم، سِباقا مع أبناء الدنيا، عقبات كسب القوة في الدنيا، وعين القلب على من جعلهم الله لنا أسوة. تلك التعبئة الجهادية وحدها تَعزّ بها الأمة، ويشرُفُ بها مثوى المومنات والمومنين في جنات ونهَرٍ في مقعد صدق عند مليك مقتدر. اللهم ألحقنا بالصالحين.