سعادة المؤمنين

Cover Image for سعادة المؤمنين
نشر بتاريخ

سبحانك خالقي ورازقي ومولاي، يا من أسبغت علينا جزيل عطاياك وعظيم كرمك وجميل سترك رغم ذنوبنا وتقصيرنا في حقك، يا من سبق حبك لنا حبنا لك حين قلت وقولك الحق في سورة المائدة: “يحبهم ويحبونه”.

أجل سيدي ومولاي تحبنا، بل خلقتنا لأنك تحبنا وأسعدتنا حبا فينا، وأسعدتنا حين جعلتنا من أمة خير الأنام فقلت في سورة آل عمران: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164)، وأسعدتنا بالقرآن فقلت سبحانك في سورة طه: طه* مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (1 – 2).

أن نتنعم بالكينونة في أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ونسعد بالقرآن، منة لا تقدر بثمن إلا أن يتغمدنا الله برحمته ويؤدي عنا شكر النعم.

في مسند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وددتُ أنِّي لقيتُ إخواني، قالَ: فقالَ أصحابُ النَّبيِّ – صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ – أوليسَ نحنُ إخوانَكَ؟ قالَ: بل أنتُم أصحابي ولكنْ إخواني الَّذينَ آمَنوا بي ولم يرَوني” (1).

هذا الحبيب الذي اشتاق لأمته التي تأتي بعده، وتمنى رؤية إخوانه الذين آمنوا به واتبعوا هديه ولم يروه قط؛ شغفوا حبا به وبسيرته الغراء، يبادلونه الشوق أشواقا ولهفة لرؤيته يوم الحشر، والشرب من يده الشريفة، ونيل شفاعته يوم الزحام .

نال سيدنا محمد من ربه مكانة عظمى وشرفا أسمى ظلل من آمن به في حياته وبعد مماته صلوات ربي  عليه، بأبي هو وأمي حين يقول في الحديث الذي أخرجه البزار  بسند صحيح عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: “حَياتي خَيرٌ لكم، ووَفاتي خَيرٌ لكم، تُعرَضُ علَيَّ أعمالُكم، فما رأيتُ مِن خَيرٍ حَمِدتُ اللهَ عليه، وما رأيتُ مِن شَرٍّ استَغفَرتُ اللهَ لكم”.

نسألك اللهم بحبنا من تحب – سيدنا محمد – أن تغفر لنا خطايانا وتشفعه فينا، وتكون أمانا لنا يوم القيامة. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الأنفال، 33).

 هو الحبيب الذي يستوجب من أمته التأدب، وأول هذه الآداب تعظيمه في الأنفس، ومحبته الموصولة بمحبة الله لا تنفك، ومن الآداب أن نهدي ثواب صلاتنا عليه لروحه الشريفة، ومنها أن نكثر من الصلاة عليه يوم الجمعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي”.

وفي دعائه صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري رضي الله عنه قال: “اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب”.

 يقول الإمام عبد السلام ياسين: (في ثنايا قول المعلم صلى الله عليه وسلم: “أحبوا الله لما يغذوكم به” الخ الحديث، وفي ثنايا دعائه أن يجعل الله له ما رزقه قوة فيما يحب الله، تعليم رقيق يأخذ بيد النفس البشرية الضعيفة ليتدرج بها من تقدير الأرزاق إلى تعظيم الرزاق، ومن الارتياح للنعم إلى حب المنعم، ومن صرف قوة العطاء في خدمة الأهداف الدنيوية إلى توظيفها في اقتحام العقبة إلى مَحاب الله وإلى حب الله.

نِعَم وأرزاق مجسدة فيما يغذونا به الرزاق المنعم سبحانه من غذاء الأجسام وكسوتها ونفقتها ورخائها. هذه الماديات، التي هي من ضروريات الحياة وكمالياتها، تصبح وسيلة ومرقاة للعروج من عالم الماديات الصماء العمياء إلى عالم الكمال الإيماني الإحساني.

كيف تكون إذاً قيمة النعْمة العظمى والوسيلة الأرقى إذا تعلقنا بأذيال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحببناه! حبه أصل من أصول الإيمان. حبه دين. حبه وسيلة لحب الله.

جاءه رجل فسأله عن الساعة متى هي؟ قال صلى الله عليه وسلم: “ما أعددتَ لها؟ قال: لا شيء غير أنني أحب الله ورسوله. فقال: أنت مع من أحببت». متفق عليه من طريق أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: فما فَرِحْنا بشيء فَرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم” (2).

فاللهم اجمعنا مع الأحبة؛ محمد وصحبه. آمين.

وفي معنى قوله تعالى في سوره طه: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى يقول الإمام ابن باز: “الله ما أنزل القرآن ليشقى الرسول ﷺ ويتعب، ولكن أنزله تذكرة، للتذكرة والعمل والاستفادة، الله أنزل كتابه العظيم تذكرةً للمؤمنين، ولنبيه ﷺ؛ حتى يعملوا به ويستقيموا عليه، وفيه الراحة والطمأنينة، وفيه السعادة العاجلة والآجلة، وليس فيه الشقاء بل فيه الراحة والطمأنينة وفيه التقرب إلى الله، والأنس بمناجاته وذكره، وليس منزلًا ليشقى به النبي ﷺ أو العبد لا، بل ليستريح به وليتنعم به وليستفيد منه وليعمل به، وليفوز بالجنة والسعادة بعمله به واستقامته عليه” (3).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ما رأيت شيئا يغذي العقل والروح ويحفظ الجسم ويضمن السعادة أكثر من إدامة النظر في كتاب الله تعالى” (4)، لذلك كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد من حديث ابن مسعود (اللهم إني عبدُكَ، وابنُ عبدِكَ، وابنُ أَمَتِكَ، ناصيتي بيدكَ، ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عدلٌ فيَّ قضاؤُكَ، أسألكَ بكلِّ اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسكَ، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِكَ، أو أنزلتهَ في كتابِكَ، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندك أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذهابَ همِّي إلا أذهب اللهُ همَّه وحزنَه، وأبدلَه مكانَه فرجًا” (5).

القرآن الكريم ربيع القلوب يحييها ويثمر فيها كل خير، هو الشفاء لمن تأمله وتدبره وتمسك به، وهو أفضل الذكر، كاشف للحزن ومذهب للهم لمن يتلوه بالليل والنهار بتدبر وتفكر، وعلى قدر تحصيل العبد لكتاب الله تعالى تلاوة وحفظا وفهما ومدارسة وعملا، تكون السعادة والطمأنينة والعافية في البدن والنفس ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى.

والقرآن مصدر عزتنا وشرفنا، وهو سبيل فوزنا برضا ربنا دنيا وآخرة؛ به نهتدي ونرتقي (اقرأ وارق)، وبه نجاهد جهاد البرهان والحجة، قال سبحانه وتعالى: وجاهدهم به جهادا كبيرا، والأمة الإسلامية أعزها الله تعالى بالقرآن، فلما بدأنا ننسلخ ونبتعد عنه فقدنا عزتنا وكرامتنا، إخبار من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال: (ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن كتاب الله والسلطان سيختلفان، فلا تفارقوا الكتاب) (6).

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: (الإيمان يتجدد بالإكثار من قول لا إله إلا الله.. النبع لا إله إلا الله، والفيض نورها، حتى يستطيع المؤمن وجماعة المؤمنين تلقي شمس القرآن، ومدد القرآن، وبركة القرآن، وحتى يستطيعوا العمل بمقتضى القرآن) (7). يقول سيدنا عثمان رضي الله عنه: “لو صفت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا”.

وأختم بقولة للدكتور الشعراوي رحمه الله: “أجمل الأرزاق ليس رزق المال، بل إن أجمل الأرزاق سكينة الروح ونور العقل وصحة الجسد وصفاء القلب وسلامة الفكر ودعوة أم وعطف أب ووجود أخ وضحكة ابن واهتمام صديق ودعوة محب في الله”.

أسأل  الله العلي الكريم أن ينعمكم بتلك الأرزاق سعادة في الدنيا والآخرة آمين. والحمد لله رب العالمين.


(1)  أخرجه أحمد (12579) واللفظ له، وأبو يعلى (3390)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5494).

(2)  عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج2، ص11.

(3) انظر الموقع الرسمي للإمام ابن باز: https://binbaz.org.sa/fatwas/12422/تفسير-قوله-تعالى-طه-ما-انزلنا-عليك-القران-لتشقى (تمت مطالعته يوم 8 فبراير 2021).

(4) مجموع الفتاوى 493/7.

(5) التوسل 31، تخريج مشكاة المصابيح 2387، إسناده صحيح.

(6) رواه الطبراني في “المعجم الكبير” (20/90)، و”المعجم الصغير” (2/ 42)، و”مسند الشاميين” (1/ 379).

(7) عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، العدد الثامن.