سحرتني آية (22).. “قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اَ۬للَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ”

Cover Image for سحرتني آية (22).. “قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اَ۬للَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ”
نشر بتاريخ

قال الله تعالى: قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اَ۬للَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ * يَهْدِے بِهِ اِ۬للَّهُ مَنِ اِ۪تَّبَعَ رِضْوَٰنَهُۥ سُبُلَ اَ۬لسَّلَٰمِۖ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ اَ۬لظُّلُمَٰتِ إِلَي اَ۬لنُّورِ بِإِذْنِهِۦۖ وَيَهْدِيهِمُۥٓ إِلَيٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖۖ (المائدة، 17 – 18).

بعد أن نادى الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى مذكرا إياهم بإحدى غايات بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهي بيان ما كانوا يخفونه من الأحكام والتشريعات الواردة في كتبهم السماوية، فقال تعالى: يَٰٓأَهْلَ اَ۬لْكِتَٰبِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراٗ مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَ۬لْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖۖ (المائدة، 16) جاءت هاتان الآيتان لتؤكدا أنه عليه الصلاة والسلام لم يبعث فقط لبيان ما تم إخفاؤه بل بُعث لغاية أعظم تتمثل في الهداية إلى طريق الفوز في الدنيا والآخرة.

فالآيتان فيهما بيان لعظمة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم وعظمة الكتاب الذي أنزل عليه، وأثرهما في هذه الهداية العظمى، والعلاقة الوثيقة بين القرآن العظيم والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهديه الشريف.

وقد ذكر عدد من المفسرين أن المراد بالنور في الآية الكريمة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب المبين هو القرآن الكريم، وهذا معنى له وجاهته وأهميته، فالصحابة الكرام رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن الكريم وحده معزولا عمن أنزل عليه الوحي، بل تلقوا حروفه وكلماته من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقبلوا روح القرآن الكريم ونوره من قلبه الشريف الطاهر، وتخلقوا بأخلاق القرآن الكريم عن طريق صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم إذ كان خلقه القرآن كما وصفته بذلك أمنا عائشة رضي الله عنها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يجمع من آمن به منذ اللحظات الأولى للدعوة الإسلامية في المجالس الأرقمية يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (الجمعة، 2)، يزكي نفوسهم في محضن التربية الإيمانية في دار الأرقم لتصطبغ حياتهم بهداية القرآن الكريم وتتنور قلوبهم بأنواره، وهو الذي أمره الله عز وجل بقيام الليل صحبة أتباعه من المؤمنين معللا ذلك بقوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا (المزمل، 5).

ولذلك أنكر بعض الصحابة رضي الله عنهم – من بعدُ – أخذ أناس للقرآن ولمّا تتضلّعْ قلوبهم من معين التربية الإيمانية، فعن القاسم بن عوف قال: سمعت عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: “لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرٍ وَأَحَدُنَا يَرَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَأَمْرَهَا وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ نُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا، كَمَا تَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْيَوْمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، وَلَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهُ وَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقلِ” 1، وأكد هذا الأمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “كُنا نتعلَّمُ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَشْرَ آياتٍ، فما نعلَمُ العَشْرَ التي بعدَهنَّ؛ حتى نتعلَّمَ ما أُنزِلَ في هذه العَشْرِ منَ العَمَلِ” 2، فقد تعلموا القرآن تعظيما له، وحبا فيه، وعزما على تنفيذ ما جاء فيه من أحكام وتوجيهات وإرشادات، ورغبة في دعوة الناس إليه.

يَهْدِے بِهِ اِ۬للَّهُ ما أعظم وقعها على القلب، فالله عز وجل في عليائه أراد لعباده الخير في الدنيا والآخرة فأرسل إليهم نبيه صلى الله عليه وسلم وهو نور الأنوار، وأنزل عليه القرآن الكريم لإرشادهم وهدايتهم لما يسعدهم في الدنيا والآخرة، لكن الهداية، بمعنى التوفيق، هي خاصة بمن اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّه أي من اتبع رضا الله عز وجل واتبع الدين الذي ارتضاه الله لعباده ورضي لهم منهاجه.

وقد رتبت الآية على اتباع ما يرضي الله عز وجل والتمسك بالقرآن العظيم ثلاث منح وهي:

1- الهداية إلى سبل السلام: وهي طرق السلام وسبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه وابتعث به رسله وهو الإسلام 3، وقيل هي طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة والمُؤمَّنة من كل مخالفة وهي الجنة 4. ولسيد قطب رحمه الله كلام جميل في معنى سبل السلام، يقول رحمه الله في ظلاله: “وما أدق هذا التعبير وأصدقه؛ إنه “السلام” هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها.. سلام الفرد، وسلام الجماعة، وسلام العالم.. سلام الضمير، وسلام العقل، وسلام الجوارح.. سلام البيت والأسرة، وسلام المجتمع والأمة، وسلام البشر والإنسانية.. السلام مع الحياة، والسلام مع الكون، والسلام مع الله رب الكون والحياة.. السلام الذي لا تجده البشرية – ولم تجده يوما – إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته” 5.

2- يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ؛ يخرجهم من ظلمات الكفر والشرك، من ظلمات الخرافات والأساطير والأوهام، من ظلمات الشهوات والنزعات… إلى نور الإسلام وضيائه وطمأنينته وسكينته ورحمته وعدله، بإذنه؛ أي بتوفيقه وبإرادته وعلمه.

3- وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو “بيان للثمرة الثالثة من ثمار اتباع ما جاء من عند الله من حق وخير. أي ويهدى – سبحانه – هؤلاء الذين علم منهم اتباع ما يرضيه إلى صراط مستقيم، وطريق قويم لا اعوجاج فيه ولا اضطراب، وهو طريق الإِسلام الذى يوصل إلى الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة” 6، إنها الهداية إلى صراط المُنْعَم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين.


[1] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1411 – 1990، كتاب الإيمان.
[2] شعب الإيمان، أبو بكر البيهقي، تحقيق مختار أحمد الندوي، الدار السلفية ببومباي الهند، ط1، 1423 هـ – 2003 م، كتاب تعظيم القرآن، فصل في تعلم القرآن.
[3] جامع البيان في تأويل القرآن، أبو جعفر الطبري، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420 هـ – 2000 م، ج10 ص145.
[4] الجامع لأحكام القرآن، شمس الدين القرطبي، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، ط2، 1384هـ – 1964 م، ج6 ص118.
[5] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق القاهرة ، ط17، 1412 هـ ج2 ص336.
[6] التفسير الوسيط، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر القاهرة، ط1، ج4 ص91.