سؤال الاستقلالية عند الحركة النقابية المغربية

Cover Image for سؤال الاستقلالية عند الحركة النقابية المغربية
نشر بتاريخ

تقديم

رغم أن أهم المركزيات النقابية المغربية، تدعي استقلالها عن الأحزاب السياسية والدولة وكذلك الباطرونا، فإن تاريخها وممارستها على أرض الواقع، تبين مدى تبعيتها الواضحة، وعدم قدرتها على صياغة مواقف بعيدة عن التأثير السياسي، والمصالح العليا لذوي النفوذ المالي، فبالرجوع إلى أرشيف النضال النقابي خلال أهم المراحل التي عرفها المشهد السياسي المغربي، يتضح بجلاء أن الطبقة العاملة كانت ولا تزال في كثير من المحطات، تخوض معارك لا ناقة لها فيها ولا جمل، تقدم خلالها تضحيات كبيرة، ثم تجد نفسها مرة ثانية وبشكل مفاجئ مضطرة لتوقيف تلك المعارك، حتى ولو لم يتم الاستجابة لمطالبها.

مرحلة التوافق

تميزت مرحلة التوافق بين القصر والحركة الوطنية في فجر الاستقلال، بدعم رسمي للاتحاد المغربي للشغل، حيث يؤكد الدكتور محمد عابد الجابري “تحول جهاز الإتحاد المغربي للشغل إلى جهاز في الدولة يتصرف كجزء من الدولة لفائدته الخاصة كجهاز، ويحصل على الانقطاعات، وأيضا على الهبات والمساعدات كما هو الشأن في الزاوية وفضلا عن ذلك كانت له حصة خاصة في الإذاعة الوطنية عبارة عن برنامج يومي… أضف إلى ذلك حضور ممثلين عن هذه المنظمة في كثير من الوفود الرسمية إلى الخارج واعتبار ضيوفه القادمين من الخارج ضيوفا للدولة. وأخيرا وليس آخرا كان المرحوم الملك محمد الخامس يحضر احتفالات فاتح مايو ويلقي خطابا في العمال بالمناسبة…. والنتيجة هي أن الحفاظ على الامتيازات تقتضي مهادنة الحكم وسلوك سياسة الانتظار” 1. في المقابل عملت الاتحاد المغربي للشغل على تعبئة الطبقة العاملة لدعم حكومة عبد الله إبراهيم رحمه الله، من خلال التخلي عن سياسة الإضرابات، وموافقتها على انخفاض قيمة التعويضات، بل إنها انبرت لشرح برنامج الحكومة وتبنيه كليا.

مرحلة الصدام

أما مرحلة الصدام والتي بدأت مع إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم رحمه الله، فقد تميزت بالمواجهة بين القصر من جهة، والإتحاد المغربي للشغل والجناح اليساري داخل حزب الاستقلال- الذي سينشق ليؤسس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية- من جهة أخرى، في هذه المرحلة ستجند النقابة العمال للانخراط بقوة في الحزب الجديد، ودعمه في مواجهة الدولة وحلفائها، وفي هذا الصدد يقول محمد عابد الجابري “كان من الطبيعي إذن أن ينسق الإتحاد الوطني والإتحاد المغربي للشغل للقيام برد فعل على مستوى ما يدبر لهما من طرف الخصوم، وقد جاء رد الفعل هذا على ثلاث مستويات: تصعيد اللهجة على الصعيد الصحفي والإعلامي، تصعيد النضال النقابي وتحريك الجماهير للتضامن مع العمال، اتخاذ موقف سياسي يتناسب ووزن الحدث”2 . فبعدما كانت النقابة حليفة للدولة لأن الحزب كان يتزعم الحكومة، أصبحت في مواجهتها بعد الإقالة، و.. يضيف محمد عابد الجابري موضحا درجة هذه المواجهة وما آلت إليه “أسبوعان من التعبئة لم يسبق لها مثيل لا في تاريخ الإتحاد المغربي للشغل ولا في تاريخ الإتحاد الوطني للقوات الشعبية: اجتماعات، بلاغات، حملة توعية وتجنيد، حملة هستيرية مضادة من طرف الإذاعة والصحف الحكومية، وأكثر من ذلك سلسلة من الإضرابات القطاعية في كل مكان بالمغرب، واصطدامات وضحايا، و قرار سياسي يتخذه الإتحاد الوطني للقوات الشعبية على مستوى المجلس الوطني أعلى هيأة تقريرية فيه بعد المؤتمر، ونصف أعضائه من الإتحاد المغربي للشغل بما فيهم العناصر القيادية.. .كل ذلك يشطب عليه تشطيبا بمجرد مقابلة فارغة تمت ليلة الإضراب مع مشخص الحكم الفردي كديره ….لقد أصيب الجميع بالإحباط التام: جماهير العمال وجماهير الإتحاد” 3 . وهذا يبين بوضوح أن الشغيلة استعملت- مرغمة بقرار سياسي من الحزب- كأداة لإدارة الصراع مع الدولة، لكن الأخطر من ذلك هو أن تعقد الصفقات من وراء ظهرها دون أن تحقق مبتغاها، لتبقى وحدها الضحية. مرحلة الصدام هذه انتهت بصفقة تمت بين النظام وقيادة الإتحاد المغربي للشغل، هذه الصفقة يوثقها محمد الفقيه البصري: “ومعلوم أنه وبعد وفاة المغفور له محمد الخامس وقعت صفقة بين أحمد رضا كديره والمحجوب وقد جاء المرحوم مولاي الحسن بن إدريس ليخبرنا قائلا- لقد تم بيعكم اليوم بفندق المنصور”4 ويؤكدها محمد عابد الجابري “فعلا ورد الخبر إلى قيادة الإتحاد بالصفقة. وكانت تفاصيل دامغة: رقم الغرفة التي نزل فيها كديره، ورقم الغرفة التي نزل فيها الكاتب العام للإتحاد المغربي للشغل. والملايين التي دفعت..”5. إن ذكاء القيادات النقابية يتميز بكيفية إدارة معارك نضالية بين الفينة والأخرى، تبعد عنها شبهات الصفقات وتأكد مبدأ الاستقلالية وتحافظ على التفاف الشغيلة حولها، وفي هذا الصدد يقول محمد عابد الجابري: “والحق أن زاوية الإتحاد المغربي للشغل قد عرفت، وببراعة في كثير من الأوقات، كيف تجمع بين شرف المعارضة وامتيازات الحكم”6.

مرحلة المشاركة المحسوبة

انطلقت مرحلة المشاركة المحسوبة مع فتح ملف الصحراء سنة 1974، وتميزت بتراجع أداء الإتحاد المغربي للشغل، في حين بقي الإتحاد العام للشغالين بالمغرب مجرد هيأة ملحقة بحزب الاستقلال، مما سيعجل بميلاد ما سمي آنذاك بالبديل التاريخي، أي “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل” والتي سترفع شعار الاستقلالية كمبدأ من أربعة مبادئ ستلتزم بها وهو ما أكسبها تعاطف فئات عريضة، إلا أن بعض الملاحظين شككوا منذ البداية في هذا الشعار، معتبرين أن قرار تأسيس هذه المركزية كان قرارا حزبيا، في إشارة للإتحاد الاشتراكي، الذي كان في حاجة إلى واجهة نقابية تدعم واجهته السياسية، وفي هذا الصدد يقول محمد العسري”إن البديل لم يكن بديلا عماليا، بقدر ما كان تدخلا حزبيا يبحث لنفسه عن قاعدة عمالية”7. بل إن الكاتب العام للكنفدرالية كان واضحا في خطاب له بمناسبة الذكرى العشرين لتأسيس الكونفدرالية حيث قال: “فلم يكن القرار عماليا، أو مبادرة أشخاص بتأسيس هذا البديل، إن قرار التأسيس لم يكن قرارا عشوائيا من هذه المجموعة أو تلك. بل كان قرارا سياسيا من اللجنة الإدارية لحزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية استجابة لإلحاح قطاعات واسعة من الطبقة العاملة التي تشكل القاعدة الأوسع للحزب” 8. بعد شهرين من التأسيس انطلقت سلسلة من الإضرابات في جل القطاعات “الفوسفاط، التبغ، السكر والشاي، الصحة”، وهو ما جعل البعض يطرح السؤال حول الأهداف والدواعي الحقيقية لهذه الإضرابات، يقول محمد العسري: “كما يتضح لنا من خلال الإضرابات التي قامت بها الكونفدرالية، أن بعضها كانت له أبعادا سياسية بعيدة عن اهتمامات العمال، وإن إضرابات أخرى لم تقرر إلا في ظروف غامضة”9. ويكفي أن نشير أن هذه المرحلة عرفت الدعوة إلى ثلاث إضرابات عامة وطنية وأخرى قطاعية أشرنا لها سابقا، صاحبها الشروع في مسلسل الحوار الاجتماعي الذي ترأسه وزير الدولة في الداخلية آنذاك، السيد إدريس البصري بذل الوزير الأول، توج بالتوقيع على اتفاق فاتح غشت 1996 وهو ما اعتبر تمهيدا للتناوب التوافقي، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ محمد بولعيش “وما التوقيع على اتفاق فاتح غشت 1996 والدخول في سياسة السلم الاجتماعي ولو مؤقتا، إلا خطوة في اتجاه تعبيد الطريق أمام التناوب التوافقي”10. ولم يقف الأمر عند مجرد التفاوض مع وزير الداخلية إدريس البصري بذل الوزير الأول، بل لقد استدعي كضيف في المؤتمر الثالث للكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1997، وهو ما لم يستسغه الكثير من المحللين وقد علق الأستاذ جمال هاشم قائلا “وإذا كان المؤتمر الثالث عبارة عن مسلسل درامي فإن أقوى اللحظات فيه هي لحظة الجلسة الافتتاحية التي منعت فيها الأحزاب التقدمية من أخذ الكلمة لكن في المقابل أعطيت الكلمة للسيد إدريس البصري وزير الدولة في الداخلية والإعلام أمام دهشة وصفير المؤتمرين. إنها لحظة سريالية فعلا حيث جلس الجلاد إلى جانب الضحية خاصة وأن إدريس البصري هو بطل قمع 1979و1981و1984و1990″11.

مرحلة الاندماج

مرحلة الاندماج غير المشروط والتي توجت بتكليف الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بقيادة حكومة التناوب سنة 1998، تميزت بدعم المركزيتان النقابيتان، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والإتحاد العام للشغالين بالمغرب، على اعتبار أن حزبي الإتحاد الاشتراكي والاستقلال يشكلان العمود الفقري لهذه الحكومة، وبما أن تبعية الإتحاد العام للشغالين لحزب الاستقلال كانت بديهية، فإن قيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كانت أمام امتحان مبدأ الاستقلالية الذي رفعته، غير أن البعض اعتبر أن مواقف الكونفدرالية في عهد حكومة اليوسفي تشبه إلى حد كبير مواقف الإتحاد المغربي للشغل مع حكومة عبد الله إبراهيم، مستشهدين في ذلك بتصريح الكاتب العام للكونفدرالية وفي كلمة له في الذكرى العشرين لتأسيسها “إن تعيين الأخ عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أولا، إشارة وفاء لجيل المقاومة وللحركة الوطنية والطبقة العاملة… إن الأستاذ اليوسفي هو من مؤسسي الكنفدرالية وهو الذي اقترح على الأخ عبد الرحيم بوعبيد اسم الكنفدرالية، وهو رفيق العمال.. فإن الكنفدرالية تصون الود والعهد”12.

قبل الختم

إن المتتبع للحركة النقابية المغربية طيلة نصف قرن من الممارسة رغم كل التضحيات التي قدمتها، يستنتج بسهولة أن مبدأ الاستقلالية كان شعارا للاستهلاك، حيث الارتباط كان وثيقا بين النقابات والأحزاب التي أسستها، بل لقد تحول هذا الارتباط إلى وصاية حقيقية للأحزاب على النقابات، لدرجة أن القرار الحزبي تجلى في كثير من المحطات النضالية، فيما أوضاع الطبقة العاملة ازدادت ترديا وتفاقما بفعل استمرار جمود الأجور وضعف التعويضات، وانتهاك القدرة الشرائية، نتيجة الارتفاع المتواصل للأسعار، وهذا ما يفسر العزوف الكبير والواضح للطبقة العاملة عن الانخراط في العمل النقابي.على مستوى التطبيق والحضور في التجمعات العامة كفاتح مايو أما المشاركة في الإضرابات فقد أصبحت بالنسبة للبعض أيام عطلة لا أقل ولا أكثر.

————————————————————————————–

الهوامش

1- محمد عابد الجابري ” الأزمة بين الحزب والنقابة “مواقف العدد 5 ص 19-،20-21.

2 -محمد عابد الجابري ” الأزمة بين الحزب والنقابة “مواقف العدد5 ص33

3- محمد عابد الجابري ” الأزمة بين الحزب والنقابة “مواقف العدد5 ص42 –

4-محمد الفقيه البصري الفقيه العبرة و الوفاء ص107-108

5- محمد عابد الجابري ” الأزمة بين الحزب والنقابة “مواقف العدد5 ص74

6- محمد عابد الجابري ” الأزمة بين الحزب والنقابة “مواقف العدد5 ص22

7-محمد العسري” أزمة الحركة النقابية العمالية بالمغرب ” ص89

8- جمال هاشم” الحركة النقابية المغربية الأحلام المجهضة” ص36 –

9 محمد العسري” أزمة الحركة النقابية العمالية بالمغرب ” ص107

10 محمد بولعيش” المشهد النقابي الملغوم” جريدة المستقل المغربية 1/12/2000

11- جمال هاشم” الحركة النقابية المغربية الأحلام المجهضة “ص 46

12- محمد العسري” أزمة الحركة النقابية العمالية بالمغرب” ص 114 جمال هاشم” الحركة النقابية المغربية الأحلام المجهضة” ص36