رمضان المؤمن.. عام لا شهر

Cover Image for رمضان المؤمن.. عام لا شهر
نشر بتاريخ

تمهيد

نود في هذا المقال – بحول الله – التذكير بحق مقدسٍ ينبغي أن لا يعزب عن البال، وهو حق الله تعالى على عباده في أن يعبدوه على الدوام ولا يشركوا به شيئا. ولأجل ذلك، جعل الله عز وجل عِدَّةً من الشهور فضاءً للتقرب إليه سبحانه زُلفى، يفضل بعضها بعضا، ويزيد بعضها على بعض في المقام والأجر. قال تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم 1. وهي محرم ورجب وذو الحجة وذو القعدة. ومن تلك العِدة أيضا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس 2… فماذا – يا ترى – في شهر رمضان من فضل؟ وماذا بعد هذا الشهر؟ وكيف نشيع روح رمضان في السنة كلها؟

عُهدة شهر رمضان

لعل من نافلة القول التذكير بما خُص به شهر الصيام من فضائل جامعة، فهو غُرَّة الشهور، والركن العظيم في بناء الدين، والمخصوص بالذكر في القرآن الكريم، والمتوج باشتماله على ليلة هي خير من ألف شهر، وهو الزمن الفاضل الذي اختاره الله عز وجل لنزول كلامه على خيرة خلقه… ولذلك فعندما يتم المؤمن رمضان بما يليق بمقامه، إيمانا واحتسابا فقد وفَّى بعُهدة 3 هذا الشهر. ومع ذلك ينبغي أن يبقى على وَجَل ليكون من الذين يوتون ما آتوا وقلوبهم وجلة 4. أي: من الذين يطيعون وهم خائفون ألا يُقبل منهم 5. وفي شأن ذلك، كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد ما ينشغلون بقبول العمل بعد إتمامه وإتقانه. يقول مالك بن دينار رحمه الله: (الخوف على العمل ألا يقبل أشد من العمل… وعن بعضهم أنهم كانوا يدعون الله ستَّة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم) 6.

كما تقتضي العُهدة الرمضانية أن يخرج المؤمنون من هذا الشهر الكريم وقد عقدوا العزم على أن يكون حالهم في رمضان كحالهم في سائر شهور السنة ذكرا ودعاء، صدقا وإنفاقا، وكظما للغيظ، وعفوا عن الناس، وطاعة لله ورسوله… يخرجون من هذا الشهر الفضيل وقد جددوا العهد على الدخول في عزمة سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 7. فالعبرة – أخي المؤمن، أختي المؤمنة – أن نستمر على منهاج رمضان: وأن لا نكون كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا 8. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: هذه امرأة خَرقاء (حمقاء) كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. وهو مثلٌ لمن نقض عهده بعد توكيده 9.

“ولكن كونوا ربانيين”

عِقد إيماننا بالله عز وجل، وتسليمنا به سبحانه وتعالى ربا كريما في عهد ألستُ بربكم قالوا بلى 10، يقتضي منا أن نستسلم بين يديه دوما، وألا نربط ذلك بزمان أو مكان مهما علت منزلتهما. وفي ذلك يخاطبنا الباري عز وجل بقوله: ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون 11. وفي هذا الشأن جاء التوجيه عند الانتهاء من عبادةٍ أو الخروج من زمن فاضل كرمضان أن نبقى شديدي التركيز على غاية الغايات، وهي ابتغاء وجه الله الحي الذي لا يموت. يقول بشر الحافي رحمه الله لمَّا سُئِل عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضانُ تركوا، قال: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان!) وسئل الإمام الشبلي رحمه الله: أيهما أفضل رجب أم شعبان؟ فقال: (كن ربانياً ولا تكن شعبانياً).

وكذلك فعَل الصحابة رضي الله عنهم الذين كانت دلائل الربانية بادية في سلوكهم إلى الله عز وجل في رمضان وغيره. فلم يكن هذا الشهر الفضيل مقيدا لأحوالهم في المسارعة إلى مغفرة من ربهم وفضل، وإنما كانوا يترصدون لصلتهم بالله عز وجل كل الأوقات الشريفة من السنة كيوم عرفة ورمضان والجمعة والأسحار، بل كانوا يرقبون في ذلك كل لحظة من لحظات العمر؛ حتى سار ليلُهم ليلَ رمضان، ونهارُهم نهاره، وحالهم فيه كحالهم في بقية الشهور. “عن حارثة بن مالك رضي الله عنه، أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: “كيف أصبحت يا حارثة ؟” قال: “أصبحت مؤمنا حقا”. قال: “انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟” فقال: “قد عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها”. فقال: “يا حارثة عرفت فالزم” ثلاثا” 12.

وبعد:

فإن شهر رمضان علاوة عن مقامه وفضله، هو تدريب عملي لقدرة المؤمن على احتواء شهواته، وكذا الإكثار من عبادة ربه. إنه مدرسة الصبر والعبادة بامتياز التي تعمل على إخراج المؤمنين والمؤمنات من مألوفاتهم إلى التقيد ببرنامج تربوي خاص، وتدعوهم إلى (أن يُحيوا كل يوم من أيام حياتهم جادّين في السعي ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، في جهاد يتوتر فيه كيانهم، قلبا وفكرا وحركة، نحو الله عز وجل… أن يُحيوا كل لحظة بكامل الحضور مع الله –الكمال الممكن للطبيعة البشرية المفطورة على الغفلة– وبكامل العناية بالزمان وأهميته، والمكان وقاعدته، والواقع وضغوطه) 13.


[1] سورة التوبة، الآية 26.
[2] سورة البقرة الآية، 185.
[3] جاء في لسان العرب، العَهْد والعُهْدة واحد. (مادة عَهَدَ).
[4] سورة المومنون الآية 60.
[5] أحكام القرآن لابن العربي، محمد بن عبد الله الأندلسي بن العربي، دار الكتب العلمية الطبعة الأولى (د.ت).
[6] وظائف رمضان، زين الدين عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، ص. 73-74.
[7] سورة آل عمران، الآية 133.
[8] سورة النحل الآية، 92.
[9] تفسير القرآن العظيم للحافظ بن كثير.
[10] سورة الأعراف، 172.
[11] سورة آل عمران الآية، 79.
[12] رواه البزار رحمه الله.
[13] المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، عبد السلام ياسين، الشركة العربية للتوزيع والنشر، ص. 366.