رسول الله ﷺ في المدينة

Cover Image for رسول الله ﷺ في المدينة
نشر بتاريخ

معلوم لكل ذي لب أن الهجرة من مكة إلى المدينة لم تكن حدثا عاديا في تاريخ المسلمين، لذا يجب أن لا نجعل من ذكراها حدثا عاديا، دون أن نقف وقفة تأملية نستحضر من خلالها في أذهاننا تفكرا، وفي واقعنا عملا وتنفيذا أن هذا الحدث يمثل نقطة التحول العظيم الذي أفرز بناء دولة الإسلام التي كانت خير أمة أخرجت للناس جميعا، هذا البناء القويم ارتكز على أسس لا يمكن لأمتنا أن تبني نفسها وتثبت وجودها وتحقق ذاتها إلا بالاعتماد عليها، تأسيا بأول خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت لها دلالات عميقة ومعاني سامية في بناء وحدة الأمة، هذه الوحدة المتينة الوشائج بدأت بتنظيم علاقات ثنائية بين طرفين يتبادلان الخصائص والمميزات، وتنظيم علاقات على مستوى الجماعة المسلمة تعمل على تثبيت المعتقدات، وتنظيم العلاقات العامة بين المسلمين وغيرهم في المجتمع الواحد لتحقيق السلم والأمن الاجتماعيين، ثم إعداد القوة لمواجهة المعتدين والخائنين للعهود.

المسجد بناء ورمز

أول عمل قام به رسول الله ﷺ النبي المعصوم بناء مسجد جامع يجتمع فيه المؤمنون للسجود لله تعالى محققين أسمى مظهر من مظاهر العبودية لله ومعبرين عن التحرر في أرقى تجلياته، التحرر من كل ما سوى الله؛ هوى كان أو شخصا أو فكرا أو نجما أو حجرا، بناء هو رمز وحدة الاعتقاد الجازم الذي لا ينتابه أدنى شك أو ريب بأن الله خالق الكون والإنسان وواهب الحياة لم يترك خلقه عبثا، بل من تمام رحمته به أن علمه كيف يعيش حياته في هذا الكون وفق قواعد شرعية لتحقيق مصالحه الدنيوية والأخروية، لم يترك دقيقة ولا جليلة تجلب له الخير والصلاح إلا شرعها له ولا أمرا يجلب له السوء والفساد إلا دفعه عنه.

المسجد بناء هو رمز يدل على مركز انطلاق أمة الإسلام ومبعث كل حركة تقدم عليها أو كل نهضة تنشدها نحو صناعة مستقبلها، بناء يدل على أن أول الطريق استسلام طوعي تام للعلي الأعلى.

لقد شهد التاريخ الإسلامي أن المسجد وإن كان يعبر بالأصالة عن موضع السجود للذي فطر السماوات والأرض إلا أنه تعدى ذلك إلى القيام بوظائف رئيسية في حياة الأمة؛ فقد كان مدرسة يتلقى فيها العلم النافع في الدنيا والرافع في الأخرى، تعطي دروسا معمقة في العزة والكرامة والأخلاق، وكان جامعة تخرج منها علماء يجمعون بين العلم الشرعي والعلوم الكونية من تفسير وحديث وفقه ولغة وطب وهندسة ورياضيات وكيمياء وغيرها، دون أن يشكل ذلك أي عائق، بل الجمع بينهما أدى بهم لنيل شهادات أهلتهم ليكونوا في طليعة قادة العالم.

المسجد كان مقر شورى المسلمين يجتمعون فيه لدراسة ما أهمهم من أمور دينهم ودنياهم؛ “فيه عقد الألوية، وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء” (1).

المسجد كان منبرا تنبعث منه “كلمة الحق مدوية مجلجلة على لسان خطيبه في إنكار منكر وأمر بمعروف، أو دعوة إلى الخير أو إيقاظ غفلة، أو دعوة إلى تجمع، أو احتجاج على ظلم، أو تحذير لطاغية” (2).

“المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين عرين أسود، ورياض جهاد، ومدرسة جامعة، ومقر قيادة أركان جند الله، ومجلس شوراهم، ذلك أن بيت الله أحق البيوت أن ينطلق منها ويرجع إليها ويتجمع فيها ويتألف” (3). فقد كان المسجد بالإضافة إلى كونه مكانا للعبادة فضاء للتفكير والحوار والقيم الإنسانية التي تحملها رسالة الإسلام.

ولما أصبحت مساجد الله مجرد بنايات ومعالم حضارية يتباهى بزركشتها مشيدوها، لا يعلو فيها إلا التعظيم للسلطات العليا وما تنتقيه من المواضيع والعبارات التي تود ترسيخها في عقول الرعية، ولا تخلو من تجمعات اللغو وأحاديث اللهو وشجارات على أتفه الأسباب، عطلت عن مهامها الجليلة فكانت النتيجة جيل تائه في عالم مليء بالتناقضات.

كيف نعيد للمسجد روحه لتعم روحانيته الأرض بما رحبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: “وجعلت لي الأرض مسجدا” فتكون المدرسة مسجدا والجامعة مسجدا والمقرات الإدارية والتجارية والصناعية مسجدا، أو على الأقل يخصص فيها مكان للسجود لمن أراد أن يسجد لله.

عقد الأخوة إسمنت بناء الدولة

لاشك أن نجاح أي حركة رهين بمدى ترابط أعضائها ارتباطا يسمو فوق كل مصلحة دنيوية، وإن كان التضامن والتكافل المادي يحقق المزيد من التودد والتقارب والتعاون، لذا عمل رسول الله ﷺ منذ دخوله المدينة على عقد مؤاخاة بين المهاجرين والأنصار حيث عين ﷺ للأنصاري أخا له من المهاجرين؛ ليصحب حديث العهد بالإسلام أخا له سبقه بالإيمان فينتفع بملازمته، لم تكن المؤاخاة مقتصرة فقط على المصالح المعاشية لكن المحبة والصحبة كانت المطلب التربوي من هذا الإخاء. قال تعالى واصفا الأنصار بقوله: يحبون من هاجر إليهم فهي صحبة سبقت الإيثار، وكان الإيثار على النفس نتيجة لها. فكما كانت الرفقة الإيمانية تعين على محاسبة النفس والتزام الصراط المستقيم كانت تنفس الكرب وتخفف من الضوائق المالية التي كان يعاني منها المهاجرين الذين تركوا ما يقيمون به دنياهم لأخراهم.

ذكرت كتب السيرة النبوية أن الأنصاري كان يعرض على أخيه قسمة ما يملك، لكن كثيرا ما كان المهاجر يتعفف ويقول لصاحبه: بارك الله في مالك ولكن دلني على السوق. وقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان جالسا وحده فدخل عليه بعض زعماء المهاجرين بعد الاستئذان منه، لم يكن بينهم أحد من الأنصار، وكان هذا جالبا للانتباه.. عرضوا عليه ما جاؤوا من أجله فقالوا: (يا رسول الله ما رأينا قوما أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم فكفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم) (4).

أراد المهاجرون أن يستغنوا عن العطاء وأراد الأنصار الاستمرار في الكرم، فتوصل الطرفان إلى حل يحقق للمهاجرين العزة والكرامة ويشبع حاجة الأنصار في التمتع بلذة الصحبة، فاتفقوا على أن يعمل المهاجرون في مزارع الأنصار مقابل أجر، فجمعوا بين خيري الدنيا والآخرة. هكذا تم حل مشكلة اجتماعية حقيقية واجهت الدولة الإسلامية في أول مراحل تأسيسها، فالترابط الأخوي حقق الدفء والأمان، والتكافل الاجتماعي حقق الاستقرار المادي والاستقلال المالي فكان هذا عاملا أساسيا في بناء المجتمع الإسلامي.

دستور المدينة الإطار القانوني للدولة الحديثة

إن تحقيق الوحدة داخل مجتمع متنوع الثقافات والديانات والمعتقدات يستوجب وضع هيكل قانوني وتوافق اجتماعي حول أمور تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، لذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع دستور يتضمن مجموعة من المبادئ حري بكل مسلم بأن يطلع عليها، لأنها تمثل العمود الفقري لجسد الأمة.

هذه المبادئ تقرر أن وحدة الأمة المسلمة أمر مركزي، حيث يتساوى أبناء الأمة في الحقوق والكرامة. فجميع “الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة، قال عليه الصلاة والسلام: (المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس). كما تأكد تثبيت حق أهل الكتاب في ممارسة شعائرهم الدينية فلا يجبرون على ترك دينهم، كما نصت الصحيفة على التزام المسلمين واليهود بموقف الدفاع عن بعضهم البعض، وأن يساهموا جميعا في نفقات الدولة وأن يتعاونوا جميعا لدرء الخطر عن كيان الدولة ضد كل عدوان، جاء في الوثيقة: (إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة). كما وقع اليهود على الاحتكام إلى ما أجمعت الأمة عليه حيث ورد في الصحيفة: (كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حديث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله) (5)، وفي هذا اعتراف واضح بقيام دولة الإسلام، لكن سرعان ما نقضوا العهد ودبروا المكائد للنيل من الدعوة والدولة.

فبإبرام هذه الوثيقة الدستورية صارت المدينة المنورة وضواحيها دولة وفاقية، قدمت المثال الراقي للمدنية والحضارة المبنية على أسس القيم الإنسانية.

وهكذا تأكد أن سر توسع هذا الدين ليس في القوة البدنية لمقاتليه، كما أراد أن يروج له أعداء الدين، بل في عمق التربية وقوة التنظيم وعظمة الرسالة التي يحملونها.


(1) مجموع فتاوي ابن تيمية – دار الكتب العلمية.

(2) السيرة النبوية.. دروس وعبر، مصطفى السباعي، ص 84.

(3) المنهاج النبوي، عبد السلام ياسين، ص 44.

(4) مسند الإمام أحمد.

(5) رمضان البوطي، فقه السيرة، ص 163 بتصرف.