رحلة نورانية لخير البرية

Cover Image for رحلة نورانية لخير البرية
نشر بتاريخ

في ذكرى الإسراء والمعراج احدثكم عن المعجزةِ النبويةِ الخالدةِ التي تدارستها الأجيالُ المسلمةُ، واستشفتْ منها الأنوارَ الجليّةَ، ألا وهيَ رحلةُ الإسراءِ والمعراجِ.
كيف بدأتِ الرحلةُ؟ ما أسبابُها؟ وما هي بعضُ الدروسِ المُستخلَصةِ منها؟ 
يقول الله تعالى في محكم تنزيله:” سبحانَ الذي أسرى بعبدِه ليلاً منَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركْنا حولَهُ لنريَهُ من آياتِنا إنهُ هو السميعُ البصيرُ.” الإسراء: 1.
هذه الآيةُ الكريمةُ استُهِلت بها سورةُ الإسراءِ، وهي سورةٌ مكيةٌ عدد آياتها: 111. وسميت بهذا الاسم لابتدائها بالحديث عن معجزة الإسراء التي اختص بها الله تعالى نبيه و مصطفاه حيث أُسْرِي به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. والإسراءُ والمعراجُ آيتان من أعظم آيات النبوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى المدينة.
فالإسراء هو الرحلةُ الأرضيةُ تمت بقدرة الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والوصول إليه بسرعة فهي رحلةٌ فاقت حدودَ استيعابِ البشرِ.
والمعراجُ هو الرحلةُ السماويةُ والارتقاءُ من عالمِ الأرضِ إلى عالمِ السماءِ حيث سدرةُ المنتهى ثم الرجوعُ إلى المسجد الحرام.
ومعنى الآية: سبحان: والتسبيح هو التنزيه عن كلِّ عيبٍ أو نقصٍ، فالله سبحانَه مُنَزّهٌ عن قولِ المشركينَ أن له ولدأً أو صاحبةً أو شريكاً في الملك، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن التّسبيحِ أن يقول الإنسان سبحانَ الله. ومعنى السرى: سير الليل، والإسراء متعدٍ من سرى بعبده قال الإمام القشيري رحمه الله: لما رفعه إلى حضرته السنية وأرقاه فوق الكواكب العلوية ألزمه اسم العبودية تواضعا للأمة، أما قوله (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) فقد اختلف فيه وفي معناه فقال بعضهم: من الحرم، وقيل الحرمُ كلُّه مسجدٌ (الذي باركنا حوله) قال القرطبي: باركنا حوله قيل بالثمار ومجاري الأنهار، وقيل بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين وبهذا جُعِل حُرُماً.
كيف بدأت الرحلة؟
عن الحسن بن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم في الحِجْر- و الحِجْرُ هو بناء على شكل نصف دائرة من الجهة الشمالية من البيت الحرام، وهو في الأصل جزء من الكعبة – جاءني جبريلُ فهَمَزني بقدمِه، فجلستُ فلم أرَ شيئا، فجاءني الثانيةَ فهمَزني بقدمهِ، فجلستُ فلم أرَ شيئاً، فعدتُ إلى مضجَعِي، فجاءني الثالثةَ فهَمَزَني بقدَمِه، فجلستُ فأَخذ بعَضُدي، فقمتُ معه فخرج بي إلى بابِ المسجدِ، فإذا بدابةٍ بيضاءَ بينَ الحمارِ والبغلِ، له في فَخِدَيه جناحانِ يحفز بهما رجليه، يضع يديه في منتهى طَرَفِه، فحملني عليه، ثم خرجَ لا يفوتُني ولا أفوته.”
إذن هذه كانت البداية والانطلاق في ملكوت الكريم الودود الرحيم.

التأكيد على مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم:

جاءت هذه الرحلة بعد اشتداد الكرب على الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، وهو المختار المؤيد بنصر الله وفتحه، وذلك بعد عام الحزن: العام الذي لحقت فيه زوجه خديجة رضي الله عنها بربها، وهي الزوجة المصدقة المساندة له كانت له دعامة ورفدا تواسيه وتؤازره وتخفف عنه، وموت عمه أبي طالب، وهو الذي كان يصد عنه أذى المشركين، وبعد أن اشتد حصار قريش واستحكم، قام سيدنا محمد برحلة إلى الطائف لعله يجد عند أهلها آذانا صاغية تسمع لدعوته وتصدقها، فكذبوه وسلطوا عليه سفهاءهم حتى أدموا قدمه الشريفة «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.”
فمن إنعام الله تعالى على رسوله وتخفيفا عنه، وتطييبا لخاطره، وتأكيدا على رفعته وعلو مقامه، جاءته البشارةُ، فهي اصطفاء على اصطفاء، وتكريم على تكريم، يليق بجلال ورحمة رب العالمين، فقد رقّى الحبيبَ المصطفى إلى مكانٍ لم يبلغْهُ أحدٌ قبلَه وصل إلى مقامٍ قال فيه جبريل: إن تمرّ تخترقْ وإن أمرْ أحترقْ
وصل إلى سدرة المنتهى، وكلّمه ربُّه ورأى الأنبياءَ قبلَه وصلّى بهم إماما، وهذا أكبر دليل وأبلغ تعظيمٍ بأنه خاتمُ الأنبياءِ وسيدُ ولد بني آدم.
فقد رأى من آيات ربه العظمى، وهذا من التفضيل والتكريم لحبيبنا المصطفى حتى على الملائكة كما قال بعض أهل العلم.

تمحيص للتصديق والتسليم واليقين:

رحلة الإسراء والمعراج تمحيص للتصديق واليقين فقد كان امتحانا لإيمان أصحابه والمؤمنين، قال تعالى: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”. فقد كان الحبيب مقدما على مرحلة جديدة حاسمة / تأسيسية، وهي الهجرة لأن حادثة الإسراء والمعراج جاءت قبل سنة من الهجرة، وبناء دعائم الأمة الإسلامية وركائزها، خصوصا بعد التكذيب والتعذيب والتنكيل الذي لاقاه النبي الكريم وأصحابه يحتاج إلى همم عالية وقلوب مصدقة متيقنة بموعود الله ونصره وتأييده وإيمان ثابت لا يزعزعه أذى أو شك أو تردد.
فلما رجع رسول الله من رحلته الجليلة يروى أنه أخبرَ بمسراه أمَّ هانئ بنتَ أبي طالب رضي الله عنها، وأخبرها أنه يريد أن يخرج إلى قومه يحدثهم بالخبر علّهم يصدقونه ويؤمنون به، وتأكيدا على صدق نبوتِه ورسالتِه ومكانتِه العليةِ عند ربِّه فتمسكت أم هانئ بردائِه، وقالت: أناشدُك يا ابنَ العمِّ ألا تحدثَ بها قريشا، فيكذبُك من صدقَك، فضرب بيده على ردائِه فانتزعه منها، قالت: سطعَ نورٌ عند فؤادِه كاد يخطفُ بصري فخررْتُ ساجدةً، فلما رفعتُ رأسي فإذا هو خرج، قال فقلت لجاريتي نبعة وكانت حبشية: اتبعيه وانظري ماذا يقول فلما رجعتُ أخبرتْني أن رسولَ الله انتهى إلى نفرٍ من قريشٍ من الحطيم، وفيهم مطعم بنُ عدي وأبو جهل ابنُ هشام، فأخبرهم بمسراه، فانقسم القوم بين مترددٍ ومتعجبٍ ومرتدٍ ومكذبٍ، فأعجزوه وطلبوا منه وصف البيت، فوصفه جزءا جزءا وحجرا حجرا.
قال مطعم ابن عدي أن أمرك قبل اليوم كان أمرا يسيرا غير قولك اليوم، هو يشهد أنك كاذب نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة فاللات والعزى، لا أصدقك وما كان هذا الذي تقول قط، فقال أبو بكر يا مطعم بئس ما تقول لابن أخيك جبهته وكذبته، أنا أشهد أنه صادق، وفي رواية فسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا هل لك إلى صاحب يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال فقد صدق، صدقه صاحبُه سيدنا أبو بكر من أسمى معاني التصديق والتسليم المطلق أولا وآخرا، عند بزوغ فجر الإسلام وعند هذا الحدث الجلل الذي تأبى أن تصدقه القلوب والعقول الجاحدة.

التأكيد على أهمية بيت المقدس:

للمسجد الأقصى مكانةٌ خاصةٌ متميزةٌ، فقد جعل قلوبَ المسلمينَ تهفو إليه، فهي بقعةٌ مباركةٌ كيف لا؟ وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين.
وتتضح مكانةُ الأقصى جليةُ في الآية التي افتتحنا بها حيث ربط الله تعالى في قوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لذا وجب عدم التفريط في أقصانا الحبيب فقد ورد عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاما. وقال صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ ومسجدِي هذا، والمسجدِ الأقصى. فارتباطُ المسلمين بالأقصى ارتباطٌ عقديٌ. وقد صلّى فيه المسلمونَ بادئَ الأمرِ قرابةَ سبعةَ عشرَ شهرًا قبلَ أن تتحولَ القبلةُ إلى الكعبةِ، قال تعالى: ” قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.”
وزادت هذه المعجزة تأكيد على أهمية ومكانة البيت العتيق.
وبعد هذه الإطلالة الكريمة على حادثة هي من أجل الأحداث في تاريخنا الإسلامي، نستخلص ما يلي:
– أن حادثة الإسراء والمعراج عطاءٌ من الله ومنٌّ لرسوله، خصّه به، تبرز مكانته عنده بين سائر خلقه.
– أنها تثبيت وتخفيف عنه بعد لحظات الشدة، وكذلك أحوال الأمة، فهي تعرف انفراجا بعد شدة، وفرجا بعد ضيق.
– أنها تمحيص للمؤمنين، واختبار لصدقهم في دعوى الإيمان، وأن المعولَ عليه هو اليقين في ما عند الله تعالى.
– أنها تأكيد على عناية الله ببيته الحرام وببيته الأقصى المباركين. وأن حفظهما قائم على الدهر، مهما كاد الكائدون، واحتال المحتالون، وحاول المخربون.
– أننا مطالبون – بصفتنا أصحاب رسالة ودعوة ومدافعة – بالذود عن الدين والأرض والعرض والقيم الخالدة النبيلة أساسنا في ذلك العدل والإحسان، وإن الله مع المحسنين.