ذكرى ووفاء

Cover Image for ذكرى ووفاء
نشر بتاريخ

حلت الذكرى التاسعة لرحيل الإمام المجدد والشيخ المربي عبد السلام ياسين، فتحرك رجال ونساء جماعة العدل والإحسان روحا وعقلا وجسدا لإحياء هذه الذكرى، بهمة عالية لا تقل قوة وحماسا وإصرارا عن السنوات السابقة، ولا أظنها – بإذن الله تعالى- تقل عن السنوات اللاحقة أيضا؛ لأنها ذكرى تحيي معان جليلة وعظيمة في قلوبهم نحو رجل دل على الله قلوبا حائرة وربطها بخالقها وانتشلها من عالم الغفلة  والشتات، وأعادها إلى أصلها وفطرتها وحيائها، فتحركت لتطلب ما عند الله، وأيقظ همما لترتقي في مدارج الإحسان وتجعل أكبر همها طلب وجه الله والاستعداد للآخرة، رجل نادى طوال حياته وحتى آخر أنفاسه بحقوق العباد في آخرتهم قبل حقوقهم في دنياهم الفانية، “ناضل من أجل حقه في معرفة  السماء كما ناضل من أجل حقه في الأرض” (1).

فماذا يعني الوفاء لهذا الرجل العظيم؟ وكيف يتحقق عبر الأجيال؟ وما هي أبعاده وتجلياته؟

ليس الوفاء مجرد ذكرى موسمية عابرة تتأهب فيها الجماعة بكل هياكلها ومؤسساتها لتعرف العالم بمرشدها ومشروعها في محطات إشعاعية إعلامية قد يراها البعض ترويجا واستقطابا، بل الوفاء أبعد وأعمق من ذلك بكثير، وهذا ما يعيه أبناء الجماعة الأوفياء، ويعيه أيضا كل متتبع منصف للحركة الدؤوبة لهذه الجماعة.

إحياء ذكرى الوفاء ليس إحياء لذكريات خالدة في الماضي يجذب إليها الحنين والشوق والاعتزاز، بل هو إحياء دائم للهمم والإرادات وشحذ متواصل للعزائم ليكون جند الله شهداء قائمين بالقسط (2).

إن الوفاء خلق عظيم يتربى عليه أبناء الجماعة في كل المشارب على اختلافها، فأول مطلب وأسمى غاية يريدها الإمام عبد السلام ياسين لأبناء هذه الجماعة هو إخلاص النية والطلب والقصد وتصحيح الوجهة والمسار ليختبر الواحد صدقه ووفاءه أولا لعهده مع الله سبحانه وتعالى، تلك قضية كبرى أو أم القضايا التي ما فتئ رحمه الله يسائل بها في كل وقت وحين: “والسؤال الدائم المزعج المنجي: ما ثقتي بربي، ما صدقي معه، ما صدقي في طلب رضاه، أين أنا من الصادقين الذين يعبدونه رغبا ورهبا، ما حظي من يقين الصادقين” (3).

يتعلم أبناء الجماعة الصدق واليقين في مدرسة العدل والإحسان، ويعيشون الوفاء والإخلاص؛ معنى ومغزى، في حياة مرشدهم وفي مماته، بالاعتراف والامتنان الكبيرين لما قدمه هذا الرجل العظيم ومن كان معه من رجالات الجماعة الأخيار الذين سبقونا إلى الدار الآخرة، أمثال السادة الأساتذة: محمد العلوي وعلي سقراط وأحمد الملاخ… وغيرهم من الذين كان لهم الفضل الكبير في بناء هذه الجماعة وهذا التنظيم القوي، وفي تأليف قلوب منجمعة على الله ذاكرة له مقتحمة مجاهدة.

الوفاء معنى من المعاني الإيمانية الصادقة الأصيلة التي يتوارثها أبناء الجماعة جيلا بعد جيل، وحق يتواصون به في كل وقت وحين، لوعة على الإسلام وعزما على الجهاد.

يتعلم الوارد في جماعة العدل والإحسان أن الوفاء للصحبة المباركة التي تجمعه بمرشده عبد السلام ياسين، لا يأخذ بعدا روحيا فقط، ولا ينحى منحى التبرك بذكراه العطرة الطيبة، إنما هو عطاء واستمرار وإتمام وإكمال لما بدأه هذا الرجل من إحياء للمنهاج النبوي وتحقيق لمشروع العدل والإحسان، فيكون هذا الوارد السالك إلى الله، الصادق في طلبه، هو العدل نفسه الذي يبتغيه في الأمة؛ عدل في النفس والأهل والناس جميعا، يستقبح الظلم ويستبشع القهر والاعتداء على حقوق العباد، وعدل في الصف؛ حاملا لا محمولا مبادرا قويا ثابتا، كما أراده أن يكون مرشده: “لا يتزعزع عن خط سيره مهما كانت العقبات، مجاهد لا ينكشف عن الصف إن هرب الناس” (4)، مقيما لحدود الله ومحكما لشرعه، بهذا يتحقق الوفاء وبه يكون نصر الله تعالى لعباده.

يفهم أبناء العدل والإحسان حقيقة الوفاء وجوهره في شموليته، فلا يفصلون بين جندية الليل وجندية النهار، ويحرصون كل الحرص على الوصل والاتصال والتواصل بين السابق واللاحق في العمل والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والتغيير.

هذا الوصل والاتصال لا تقوى على تحقيقه المؤتمرات والندوات والمؤلفات، وإنما القلوب المتواصلة في الله وعلى أمره سبحانه وتعالى، المتصلة به على الدوام وفي كل الأحوال، التي تحرص كل الحرص على أن تبقى “متصلة بالأنوار المحمدية في ظل صحبة طيبة مباركة داخل الجماعة وباتباع الحبيب المصطفى والاقتداء بسنته وأحواله القلبية” (5).

وهذه الأحوال القلبية الإحسانية؛ من حب لله وشكر له وتوكل عليه وأنس به وافتقار إليه ويقين فيه سبحانه وتعالى، يتحمل مسؤولية الوفاء بها من عاشها وتذوقها وتشربها، وذلك بتوريثها لمن بعده من الخلف، كما توارثها الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من قلب إلى قلب، وبالمصاحبة والمجالسة.

يدرك أبناء جماعة العدل والإحسان في كل ذكرى وفاء، أن الوفاء حياة وهبت لله للفوز برضاه، وأن أمانة الدعوة إلى الله والدلالة عليه رسالة ثقيلة على عاتقهم، وإرث نبوي عظيم لا يستحقونه إن لم يلتزموا بعهود ومواثيق ثقيلة في ميزان الله تعالى، جمعها المرشد عبد السلام ياسين – رحمه الله – في كلمة جامعة لكل معاني الوفاء في كتاب القرآن والنبوة: “ورثة رسالة لا رشد لهم إن لم يتبعوا منهاج النبوة، ويتفانوا في حب الله ورسوله، ويتعلموا من الله ورسوله، ويهتدوا بنور الله المودَع في قلوب أولياء الله، ورثة رسالة الله، حملة رسالة لا أكتاف تنهض بعبئها، ولا قوة شوكة تدفع عنها اللصوص، ولا قوة بلاغ تخرق بها حواجز الجاهلية إلا إن استعدنا على منهاج النبوة تماسك حملة الرسالة، وشوكة حملة الرسالة، وصلاحية الائتمان على الرسالة” (6).

تلك كلمات دالة على معنى الوفاء في أبعاده الشاملة، من رجل عاش وفيا لله ورسوله وأرشد إلى الوفاء بدلالة القرآن الكريم والنبوة الرحيمة.


(1) إدريس مقبول، ما وراء السياسة.. الموقف الأخلاقي في فكر عبد السلام ياسين، 2016، ص 12.

(2) مقتطف من كلمة توجيهية للأستاذ إبراهيم أكورار في جلسة تواصلية مع طلبة العدل والإحسان في إحدى لقاءات الوفاء لهذه السنة (2021).

(3) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 1، ط 1، ص 5.

(4) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي؛ تربية وتنظيما وزحفا، ص 46.

(5) مقتطف من كلمة للأمين العام الأستاذ محمد عبادي في إحدى زياراته.

(6) عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ط 1، ص 63.