ذكرى حراك 20 فبراير والمطالب المتجددة (حُرّية، كرامة، عدالة اجتماعية)

Cover Image for ذكرى حراك 20 فبراير والمطالب المتجددة (حُرّية، كرامة، عدالة اجتماعية)
نشر بتاريخ

* على سبيل الذكرى

لقد مرت اليوم إحدى عشر سنة على انطلاق حراك 20 فبراير كحراك اجتماعي شبابي وطني، عبر عن هموم المغاربة ومعاناتهم اليومية، وطالبت حركته بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بطرق سلمية وبأساليب راقية، شاهدها العالم، وشهد لها أيضا بالإبداع والتجديد في وسائل الاحتجاج والتعبير السلمي عن المطالب رغم استفزازات المخزن وعنفه المتكرر في حق المتظاهرين.

واليوم وبعد مرور إحدى عشرة سنة هناك تراجع كبير في الحريات، وتصاعد خطير لسياسة القمع والاعتقال وتكميم الأفواه، بالإضافة إلى إضعاف الأحزاب والنقابات وكل مؤسسات الوساطة.

هناك غلاء مهول في أسعار جميع السلع بسبب الجشع والطمع والاحتكار، هناك فشل كبير في تحقيق أهداف التنمية باعتراف رسمي من خلال تقرير لجنة النموذج التنموي وخاصة في مجالي التعليم والصحة.

إن المخزن لم يأخذ العبرة من احتجاجات 20 فبراير وقبلها احتجاجات الشباب في الثمانينات من القرن الماضي، وبعدها احتجاجات الشباب في الريف وجرادة والفنيدق… من أجل بناء مؤسسات الدولة وإعادة ترتيب الأولويات، والإنصات للشباب والاستثمار في قدراتهم ومواهبهم وتحقيق مطالبهم.

إن الواقع اليوم مهيأ أكثر من أي وقت مضى لموجات من الاحتجاج من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية كمطالب متجددة.

لماذا كل هذا التضييق على حرية المواطنين وإحصاء أنفاسهم؟ لماذا كل هذا الإصرار على إذلال هذا الشعب المسكين والنيل من كرامته وكبريائه؟ لماذا كل هذه الفوارق الاجتماعية وهذا البون الشاسع بين الفقراء والأغنياء؟ هل انتهت احتجاجات الشعب المغربي بانتهاء حراك 20 فبراير أم أنه مستمر بأشكال وألوان متنوعة؟ ما هي أخطر حيل المخزن التي تنطلي على الكثير من الناس في الداخل والخارج وتضمن له الاستمرارية؟ هل يمكن القول بأن المخزن اليوم في مأمن من التغيير الجذري بعد انحنائه لعاصفة 20 فبراير أم أن أسباب الاحتجاج مازالت قائمة، بل زادت واستفحلت، والوضع قابل للانفجار الاجتماعي في أية لحظة؟

* الحرية أولا

خرج المغاربة في 20 فبراير سنة 2011 للمطالبة بالحرية والتحرر من ويلات الظلم والاستبداد حيث يُمنع المواطن من حقه في التعبير عن رأيه، ويمنع من حقه في استعمال وسائل الإعلام التي لحمُ أكتافها من ضرائب الشعب وأمواله.

  عندما لا يتمكن للمواطن من ممارسة حقه في الانتماء السياسي والنقابي، وتبني المشروع الفكري والإيديولوجي الذي يريد، عندما يُمنع المواطن من الانخراط في الجمعيات ودور الشباب، عندما لا يحق للمواطن التواصل مع الناس وعرض وجهة نظره وبسط مشروعه الفكري وبديله السياسي، فهو إذن يعيش في سجن كبير وليس في دولة!
لماذا يُمنع المواطن من التعبير عن رأيه والمطالبة بحقه في الحرية والكرامة؟ لماذا يُمنع ويُحرم من حقه في الإعلام العمومي؟
لماذا الوحيد الذي من حقه أن يعبر عن مشروعه ويسَخّر جميع وسائل الإعلام لنشره والتربية عليه هو المخزن، ومن يدور في فلكه؟ ولماذا المشاريع المقاوِمة لفكر المخزن، والإيديولوجيات المناهضة للظلم والقمع ممنوعة مرفوضة؟

إن آلية القمع لم تتوقف ولم تهدأ بمتابعة عدد من المدونين والصحفيين المستقلين والمعروفين بانتقاداتهم للنظام، (توفيق بوعشرين وحميد المهداوي وعمر الراضي وسليمان الريسوني)، وزاد عنف السلطة بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية في مستهل مارس 2020، ولم تتردد السلطات في سجن عدد من الفضلاء وذوي المروءات مثل المعطي منجب بتهم غير مقنِعة.

“إن مناخا من أزمة الثقة ترسّخ تدريجيا في البلاد وزاد من حدته تباطؤ النمو الاقتصادي واتساع الفوارق الاجتماعية” 1 والشعور بضعف الحماية القضائية وعدم ثقة المواطنين في العدالة، في ظل الفجوة الكبيرة بين بعض القوانين والواقع الاجتماعي، بالإضافة إلى محاكمات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تتم بتهم غير مقنِعة.

* لا يعيش الإنسان بالخبز فقط بل بالكرامة والعزة أيضا

الكرامة هي رمز لكل معاني الاحترام والتقدير والتعظيم الواجب تجاه المواطن، الذي ما وجدت الدولة إلا من  أجل خدمته، وتحقيق مصالحه، وضمان الأمن والعدل له، ولعل التعليم الجيد هو اللبنة الأولى لضمان كرامة هذا الإنسان من خلال تربيته وتنشئته على القيم الجيدة والأفكار المتجددة، إلا أن المخزن ولأنه يعلم أن التعليم الجيد يصنع الوعي فهو  يحرص كل الحرص  على أن يبقى قطاع التعليم غارقا في الويلات وتبقى الأمية والجهل هي السمات الأساسية لفئة عريضة من شباب هذا الوطن الحبيب، فمند الاستقلال إلى اليوم لم يستطيع المغرب تحقيق مبدأ تعميم التعليم لكل المغاربة، حيث قال وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة شكيب بنموسى إن 55 في المائة من القاصرين المغاربة الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و17 سنة يوجدون خارج أسوار المدرسة، وفي هذا الصدد، قال بنموسى، خلال تقديمه عرضا حول الميزانية الفرعية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة برسم سنة 2022 بمجلس النواب، “إن نسبة تمدرس الفئة العمرية ما بين 12 و14 سنة تصل إلى 72 في المائة. في المقابل، لا تتعدى نسبة تمدرس الفئة العمرية ما بين 15 و17 سنة 45 في المائة”، ما يعني أن “55 في المائة من هذه الفئة خارج أسوار المدرسة” 2 وفق تأكيده.

وبخصوص نسب الهدر المدرسي، كشف “أن 2 في المائة من التلاميذ في المستوى الابتدائي ينقطعون عن الدراسة، وهو ما يمثل 100 ألف تلميذ سنويا، فيما تصل النسبة إلى 8 في المائة في المستوى الثانوي الإعدادي، أي ما يعادل 156 ألف و500 تلميذ.” 3

هذا بالنسبة للتعليم المدرسي أما بالنسبة للتعليم الجامعي فحدِّث ولا حرج، فآخر الإحصاءات تشير إلى أن %49 من الطلبة يغادرون أسوار الجامعة بدون شهادة.

هذه إحصاءات رسمية مُعبّر عنها من طرف مؤسسات الدولة، وإلا فالحقيقة قد تكون أكبر من ذلك بكثير، ناهيك عن طبيعة البرامج والمناهج التعليمية وطبيعة القيم والمبادئ التي يتم التربية والتنشئة عليها، حيث الفساد الأخلاقي وسيلة أساسية لضمان ولاء الناس وخضوعهم وخنوعهم للحاكم المستبد، فكان لابد من الاجتهاد في أدوات الإفساد وتنويع آلياته انطلاقا من برامج ومناهج تعليمية، مرورا بمسلسلات وبرامج تلفزية، وصولا إلى سهرات ومهرجانات فنية، والهدف إثارة الشهوات والغرائز وإلهاء الناس عن حقيقة الواقع الذي يعيشون داخله.

ولعل اللبنة الثانية من لبنات ضمان الكرامة والشعور بإنسانية الإنسان، هي الصحة الجيدة، والجسد المعافى من الأمراض والأسقام، والمستشفى المزود بالحد الأدنى من الأطباء المتخصصين والأدوات والآلات الضرورية لإنقاذ أرواح الأبرياء.

من أجل هذا خرج شباب 20 فبراير، وبعدهم خرج شباب الريف، وقبلهم خرج شباب الثمانينات أو “شهداء كوميرا”، من أجل مستشفى يضمن كرامة الإنسان، لكن لا حياة لمن تنادي، وكأن هذه الاحتجاجات صيحة في واد، ونفخة في رماد. وها هو تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي يعترف بأن المنظومة الصحية بالمغرب تشكو من نقائص مهمة، تضع الصحة في قلب الخصاص الفادح الذي يعاني منه المواطنون.

وكشف التقرير ذاته، أن “المغرب يحتل اليوم المرتبة 112 من ضمن 195 بلدا فيما يتعلق بمؤشر الولوج إلى الخدمات الصحية وجودتها، مشيرا إلى أن الولوج إليها يبقى صعبا، خاصة في العالم القروي، علاوة على كونه مكلفا ويتطلب وقتا طويلا.” 4 وأوضح المصدر نفسه أن “جودة الخدمات الصحية لم تعرف نفس وتيرة تطور الولوج إليها، وأن التكلفة الفعلية التي يتحملها المواطنون تبقى مرتفعة جدا، إذ تتحمل الأسر ما يفوق 50 بالمئة من مجموع النفقات المرتبطة بالخدمات الصحية.” 5 إن هذا الواقع الذي تعيشه المنظومة الصحية بالمغرب سيؤدي لا محالة إلى موجات جديدة من الاحتجاج.

لا يمكن أن نتحدث عن الكرامة كمطلب متجدد لكل الحركات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد، دون أن نتحدث عن السكن اللائق كحق أساسي وجوهري، لا يمكن أن نتصور حياة كريمة بدونه. وحين رفع شباب 20 فبراير شعار الكرامة فأعيُنهم كانت على الغلاء المهول الذي يعرفه قطاع العقار في المغرب، حيث الاحتكار والتلاعب بالأسعار. وتشير دراسة للمندوبية السامية للتخطيط، أن “العجز السكني في المغرب يقدر بنحو نصف مليون وحدة سكنية، لكن، وبالمقابل، يقدر عدد الوحدات السكنية غير المستغلة بنحو 2 مليون وحدة، وحسب نفس الدراسة فإن 1.56 مليون وحدة غير المسكونة توجد في المجال الحضري. كما أشارت الدراسة إلى أن الشقق في عمارات سكنية تشكل نسبة 41 بالمئة من العدد الإجمالي للوحدات السكنية غير المستغلة” 6.
تبرز هذه الأرقام إحدى المفارقات الكبيرة التي يعيشها قطاع العقار في المغرب، ففي مقابل عجز سكني مزمن يقدر بنحو نصف مليون وحدة، دون احتساب الطلب الإضافي الذي يتولد كل عام عن نمو شرائح الطلب، خاصة تشكيل أسر جديدة أو ولوج أشخاص جدد للشغل والتوظيف، يوجد عدد من الوحدات السكنية خارج المعروض في السوق، وهو ما يناهز ثلاث أضعاف هذا العجز، الشيء الذي يؤدي بشكل حتمي إلى ارتفاع الأسعار. فأيُّ كرامة يتمتع بها المواطن المغربي المسكين وهو عاجز عن امتلاك سكن يأويه.

العدالة الاجتماعية.. المطلب المتجدد

لعل مطلب “العدالة الاجتماعية” من المطالب الخالدة لحراك 20 فبراير بل ولجميع الحركات الاجتماعية التي سبقها أو التي تبعها، والهدف هو دق ناقوس الخطر حول حجم الفوارق الاجتماعية التي خلفتها سياسة الاحتكار والإقصاء، حيث نجد فئة قليلة من الناس تتمتع بكل شيء، في حين أن غالبية الشعب تعيش الفقر والحرمان، والبطالة وغلاء المعيشة، حيث ارتفاع الأسعار وجمود أجور العمال والموظفين.

واليوم لازال المغاربة يعيشون نفس الظروف والمعاناة حيث غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، وحيث المخزن يحتكر كل شيء ويتحكم في الأسعار كيفما يشاء، على اعتبار أنه هو المستثمر الأوحد في جميع المجالات والميادين، فما من مجال أو ميدان اقتربت منه إلا ورائحة المخزن تفوح منه (الفلاحة، الصناعة، المواد الغذائية والأسواق العصرية، العقار، الخدمات البنكية…).

فالمخزن يحتكر كل الاقتصاد، ومن أراد أن يشاركه الاستثمار في مجال من المجالات، فهو يفرض عليه قيودا وشروطا من أبرزها أن يترك للمخزن الحق في تحديد “سعر البيع للعموم” حتى لا تتأثر مبيعات المخزن ومنتوجاته من المنافسة فتتراجع الأرباح، ناهيك عن وجود قطاعات بعينها يمنع الاستثمار فيها إلا على شركات المخزن، التي تستغلها كما تشاء، وتمتص عبرها دماء المغاربة كما تريد، لا حسيب ولا رقيب، الشيء الذي يؤدي إلى تراكم الثروة لدى فئة قليلة واتساع دائرة الفقر والبؤس والحرمان لدى فئات عريضة من الشعب المقهور.

يُعتبر المخزن من بين أدهى و”أذكى” الأنظمة العربية ليس بقدرته الاستثنائية على تدبير الاختلاف وبناء قوانين ومؤسسات تسمح بالتداول السلمي على السلطة كما يقال، ولكن بقدرته الحربائية على تدجين المعارضين، إما بالعطايا والهدايا والوعود، وإما بالتخويف والاعتقال والتعذيب، حتى ينحاز المعارضون إلى صفه، يقولون بما يقول به ويفعلون ما يأمرهم به، أما من استعصى عن الترويض وأبى الخضوع والخنوع، فله النصيب الوافر من التضييق والحصار، ثم التشويه والافتراء.

“إنّ الانتقال الديمقراطي في المغرب لا يمضي قُدمًا، بل يدور في حلقات مفرغة” 7 على اعتبار أن المخزن له قدرة استثنائية على تغيير جلده وجلبابه حسب ما تقتضيه الظروف والمناسبات، فيظن الناس أن المخزن تغير وأصبح أحسن من السابق، ليتفاجأوا فيما بعد أن الذي تغير هو الجلباب، أما صاحب الجلباب، وجوهر الظلم والاستبداد، لم يتغير بل باق، وتلك هي أخطر حيل المخزن التي تنطلي على الكثير من الناس في الداخل والخارج. ذاك هو المخزن وتلك هي قدراته الاستثنائية التي تسمح له بالاستمرار.

* أما بعد:

بعد إحدى عشرة سنة على انطلاق حراك 20 فبراير 2011، لا يبدو “الحراك” اليوم حدثا تاريخيا عابرا، مرَّ وانطفأ. فالأسباب التي انبثق من صلبها ما زالت قائمة، إن لم تكن استفحلت، خصوصا مع تلاشي مؤسسات الوساطة (أحزاب، نقابات، مجتمع مدني)، وهو ما يؤشر إلى تفاقم الاحتقان الاجتماعي ويهيىئ شروط موجة جديدة من الحراك بذات المطالب والشعارات: “باراكا من الحكرة”، “الفوسفاط و2 بْحورا، والعيشة عيشة مقهورة”. “الشعب يريد إسقاط الاستبداد”، “الشعب يريد إسقاط الفساد”. وفي انتظار أن تتعافى الدولة من وباء الاستبداد ومتحوراته، سيبقى حراك 20 فبراير منارة للحرية والعدالة والكرامة. والرحمة والغفران لشهداء الحراك وكل الأحرار.


[1] النموذج التنموي الجديد، ملخص التقرير العام أبريل 2021. صفحة (5).
[2] عرض وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة السيد شكيب بنموسى حول الميزانية الفرعية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة برسم سنة 2022 بمجلس النواب.
[3] نفس المرجع.
[4] تقرير النموذج التنموي الجديد /أبريل 2021.
[5] نفس المرجع.
[6] مذكرة للمندوبية السامية للتخطيط حول السكن بالمغرب بمناسبة اليوم العالمي للسكن 2 أكتوبر 2017.
[7] جون واتربوري “كتاب 20 فبراير ومآلات التحول الديمقراطي في المغرب” مجموعة مؤلفين/ المركز العربي للأبحات ودراسة السياسات/ ماي 2019.