د. إحرشان: “الوثيقة السياسية” تروم تحقيق التقارب والتواصل بين الفرقاء وتبديد سوء التفاهم الذي يستثمر فيه المخزن

Cover Image for د. إحرشان: “الوثيقة السياسية” تروم تحقيق التقارب والتواصل بين الفرقاء وتبديد سوء التفاهم الذي يستثمر فيه المخزن
نشر بتاريخ

نشرت جريدة الأيام في عددها 1073 الصادر قبل مدة، حوارا أجرته مع الدكتور عمر إحرشان، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، ناقشت فيه معه بعض القضايا المتعلقة بالوثيقة السياسية التي قدمتها الجماعة في لقاء إعلامي يوم الثلاثاء 06 فبراير 2024، والتي حملت للرأي العام مقترحات الجماعة في مختلف المجالات بهدف إثارة نقاش عمومي حول الإصلاحات العميقة التي يحتاجها البلد..

في الحوار أجوبة لتشكيلة من الأسئلة بدأت بهدف الجماعة من إصدار الوثيقة، وانتهت بدردشة حول شكل النظام الذي تطمح إليه، وبين الدفتين نوقشت بعض النقاط من قبيل سياق إصدار الوثيقة، وكونها خطوة نحو سعي الجماعة للعمل من داخل المؤسسات، ولغة صياغتها، وثنائية الدعوة والسياسة عند الجماعة من خلالها، والموقف من “إمارة المؤمنين”.. ندعوكم لقراءة الحوار كاملا للوقوف على أجوبة الدكتور احرشان، أستاذ العلوم السياسية.


أصدرتم في جماعة العدل والإحسان وثيقة جديدة تحمل اسم “الوثيقة السياسية”، وقلتم إن سياق نشرها الآن أملته ظروف معينة، وأن عملية إعدادها استغرقت أربع سنوات. ماذا تريد الجماعة أن تقول من خلال هذه الوثيقة؟ وهل يمكن اعتبارها بمثابة “تذكرة” للعبور إلى مرحلة العمل المؤسساتي بعد عقود من معارضة العمل من داخل المؤسسات؟

هو سؤال كبير يتضمن أسئلة كثيرة متفرعة عنه. فعلا استغرق إعداد الوثيقة السياسية أربع سنوات مع استحضار أنها لا تمثل سوى نسخة محيّنة من نسخ سابقة كانت العدل والإحسان تشتغل على إعدادها منذ سنين كثيرة، ولكن لم يكن هناك قرار بنشرها. أربع سنوات استغرق فيها التشاور بشأن محتواها الوقت الأكبر حتى تكون محصلة لعمل مؤسساتي وتشاور موسع، ولذلك فهي وثيقة لجماعة العدل والإحسان بما تحمل هذه الكلمة من معاني ودلالات.

هناك سياق عام لنشرها وآخر خاص. بالنسبة إلى السياق الخاص المرتبط بالعدل والإحسان فيتجلى في أن هناك تقديرا جماعيا بأن الظرفية تستوجب من الجماعة القيام بخطوة نوعية لتحريك المياه الراكدة في المشهد السياسي الذي ينكمش بسرعة مخيفة تاركا مساحات واسعة للسلطوية لكي تتغول على الجميع. وخلاصة هذه المبادرة، التي صيغت أساسا بنفس توافقي، هي أن المرحلة تقتضي مزيدا من العمل المشترك وتقوية جبهة مناهضة الفساد والاستبداد. ولأن نجاح هذه الخطوة يتطلب منسوبا مرتفعا من الثقة بين مختلف الفرقاء، فإن العدل والإحسان ارتأت أن تنشر وثيقة سياسية أكثر تفصيلا تتضمن بشكل متوازن تشخيصها واقتراحاتها من أجل مغرب أفضل.

أما السياق العام فهو مرتبط بالأوضاع في المغرب ومحيطه القاري والإقليمي والدولي. حيث نلاحظ أن مؤشرات المغرب مقلقة في مختلف المجالات التي تعني الشعب، والسياسات العامة والعمومية تتجه بسرعة كبيرة نحو الإفلاس، ولذلك فدورنا أن ندق ناقوس الخطر ونقدم مبادرة لعلها تنشط النقاش العمومي بما يخدم مصالح المغاربة والدولة.

هل يمكن اعتبار هذه الوثيقة بمثابة “تذكرة” للعبور إلى مرحلة العمل المؤسساتي بعد عقود من معارضة العمل من داخل المؤسسات؟

صدقني. هو استنتاج خاطئ مائة في المائة، وأنصح من يتجه في تحليله وفق هذه البوصلة أن يراجع أدواته احتراما لما يقتضيه التحليل السياسي من منطق ولو في حده الأدنى. جماعة العدل والإحسان هي في صلب العمل المؤسساتي وقد كانت سباقة لذلك منذ تأسيسها سنة 1983 حين تقدمت بتصريح من أجل تأسيس جمعية ذات صبغة سياسية (ولم يكن حينها قانون للأحزاب في البلاد وكان قانون الجمعيات هو الذي يحكم الأحزاب استنادا للباب المخصص للجمعيات ذات الصبغة السياسية). إذن فكرة العبور نحو العمل المؤسساتي من خلال الوثيقة غير واردة إطلاقا. وطبعا يلزم أن نفهم بأن الحق في التنظيم حق أساسي لكل جماعة وليس منة لأحد ولا يخضع لاشتراطات سوى ما ينص عليه القانون الذي أبدت الجماعة منذ تأسيسها استعدادا للاحتكام إليه، رغم نقائصه ورغم ما ينص عليه من مقتضيات تتعارض مع حقوق الإنسان، وخاصة المدنية والسياسية. للأسف السلطات المخزنية تحول الحق إلى منة كما حرفت النظام التصريحي ليصبح ترخيصا وأصبح الحق في تأسيس حزب محصلة لتوافق من وراء الشعب لتحصيل منفعة. هذا شيء نرفضه وغير مستعدين له.

جعل سياق نشر وثيقة الجماعة تبدو كما لو أنها تبحث عن فرصة للاستفادة من تراجع حزب الإسلاميين (العدالة والتنمية) وتقديم بديل له. هل هذا الاستنتاج صحيح؟

سنكون بلداء إن لم نتعظ بتجربة غيرنا. لا شيء يغري في تجربة العدالة والتنمية أو غيره ممن سبقه لنحرص على تكرارها. مآل العدالة والتنمية اليوم درس لكل من دخل اللعبة السياسية بشروط المخزن، حيث تكون النتيجة أنه هو الذي يتغير بينما المخزن ثابت وأوضاع المغاربة تزداد سوءا. لا يشكل العمل من داخل المؤسسات الرسمية (وأؤكد أن البرلمان والحكومة أمثلة فقط) إغراء لنا ولا تحوز هذه المؤسسات ثقة المغاربة وليس في مردوديتها أي جاذبية لنا أو لغيرنا. قد تكون في النهاية مؤسسات لتنشيط الأجواء الجامدة أو إضفاء شرعية على قرارات وسياسات مصنوعة في مؤسسات الظل، ولكنها بالتأكيد لا تحوز مصداقية تمثيلية للشعب أو سلطا بالمعنى المتعارف عليه في النظم السياسية.  

من خلال القراءة المتأنية للوثيقة السياسية، يظهر أنها صيغت بلغة قانونية ودستورية ولم تستعمل المفردات التي تميز الحركة الإسلامية. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود غموض في الورقة متعلق بموقف الجماعة من المشاركة في الانتخابات. هل يعني ذلك أن الجماعة تسعى للتقدم ولكن قوة إرث مؤسسها تجعلها عاجزة عن تغيير موقفها من الانتخابات؟

الوثيقة صيغت بنفس توافقي وتبحث عن إيجاد منفذ للعمل المشترك وتقوية جبهة مناهضة الفساد والاستبداد، ولذلك فالمنطقي أن تكون بلغة مشتركة لتيسير الوصول إلى هذا الهدف. وهذا عادي تشترك فيه كل التنظيمات السياسية التي تحرص في برامجها على اعتماد لغة مشتركة لا تخضع كلها للقاموس الإيديولوجي الذي يحكمها كمرجعية. لا أدري لماذا هذا الاستثناء في التعامل مع الجماعة إزاءه؟

يبقى الأستاذ عبد السلام ياسين مؤسس ومنظر الجماعة وكتاباته هي المرجع الأساس بالنسبة للجماعة. لذلك ركزنا في الوثيقة على أن المقاربة التجزيئية لمضامينها لن تسعف من يريد فهمها ولكن يلزمه النظر إلى المقترحات بشكل تكاملي.

يلزم استحضار الهدف من هذه الوثيقة والفئات المعنية بها والإطار الزمني الذي تهتم بتأطيره والسياق الذي حكم إصدارها والمنهجية التي اعتمدت في وضعها ليتحقق فهم اللغة التي صيغت بها. ولا يعني كل ذلك أن هناك تراجعا أو مراجعة، ولكن الأمر يعني تكيفا مع مقتضيات المرحلة لتحقيق هدف التقارب والتواصل أكثر وتبديد سوء التفاهم الذي يستثمر فيه المخزن وينفخ فيه لأنه أَلِف سياسة فرق تسد، وينتعش في إنعاش الخلافات الثانوية لأنه يفهم بأنه يفتقد لعناصر القوة وعاجز عن اكتسابها، ولذلك فهو يستثمر في إضعاف معارضيه وتشتيت صفهم.

رغم ما استجد في الوثيقة، يرى البعض أنها تخفي في عمقها توجها معارضا لإمارة المؤمنين، حيث لم تعبر عن أي موقف بخصوصها، وهو جوهر الخلاف القديم مع الجماعة. لماذا لم تعرضوا رأيا في هذه المسألة الحاسمة؟ وهل نفهم أنكم مازلتم تتبنون نفس المواقف السابقة؟

كل ما يرتبط بالنظام السياسي اعتمدنا فيه مقاربة تستحضر ضرورة بذل مجهود بين الفرقاء بمختلف مشاربهم ومواقفهم لإيجاد نقطة وسط. لذلك أكدنا على أن المقاربة الأنجع والأكثر عملية هي عرض أهم مرتكزات النظام المقترح وليس شكله.

تحدثنا قبل ذلك عن الدولة وقلنا إننا نهدف إلى دولة عصرية ومدنية، ونقصد بالدولة العصرية نقيض الدولة التقليدية التي تقوم على أساس قبلي أو عشائري أو ما شابه ذلك، مما يناقض دولة المؤسسات والقانون، كما قصدنا بالدولة المدنية الابتعاد عن نماذج الدولة البوليسية والعسكرية والثيوقراطية. وأظن المعنى واضحا هنا بهذه العبارات التي لا تحتمل أكثر من مفهوم.

وبخصوص النظام السياسي دعمنا ما سبق بالحديث عن أهم مرتكزين للنظام الديمقراطي، وهو شرعية الانتخاب لكل من يمارس الحكم ومبدأ المحاسبة لكل من يتمتع بسلطة، وثالثا أن الشعب مصدر السلطة ولا شيء غيره ولو استند إلى أي مرجعية لأن معيار تولي المسؤولية هو حيازة الثقة الشعبية.

من ضمن الإشكالات التي تُطرح على الحركات الإسلامية تدبيرها لثنائية الدعوي والسياسي، وتبين أن الوثيقة لم تعكس أي تطور للجماعة في هذا الشأن، حيث تستمر في الخلط بين الديني والسياسي، كيف تعلقون على هذه المسألة؟

من الصعب القول بهذه الأحكام. مثلا في الوثيقة هناك تنصيص على “تحييد المساجد والمؤسسات الدينية عن الصراع الحزبي والانتخابي، ومنع احتكارها وتوظيفها”، هذا ما أتذكره الآن من الوثيقة، وهناك أمثلة أخرى.

لقد أفرزت مختلف التجارب العالمية في التعامل مع ما يسمى بالأحزاب الدينية ثلاثة اتجاهات كما حصل في أوروبا مع الأحزاب المسيحية مثلا. ولا يتسع المقام هنا لاستعراض هذه الخلاصات.

في ما يخص ثنائية الدعوي والحزبي (شخصيا لا أقول السياسي) هناك مقاربات متعددة. الفصل الكلي مستحيل لأنه سيسقطنا في لائيكية متطرفة وانتقائية لا توحد التعامل مع كل الأديان وفرنسا خير مثال. الدمج الكلي كذلك كارثة توقعنا في النظام الثيوقراطي الذي يغيب الإرادة الشعبية وقد سبق أن وضحت بأن سيادة الشعب هي الأساس. هذا ما كان يعبر عنه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بالفصام النكد والوصال الأنكد.

الخيار الثالث يتجاوز الفصل والدمج ويتحدث عن خيار التمييز بين حقلين لكلٍّ مقتضياته ووسائله وأساليبه وخطابه، دون أن يعني أن لا دور للدين في الفضاء العام لأن هذه أسطورة وخرافة غير موجودة في كل النظم. ولننظر إلى انعكاس رئاسة الملك في بريطانيا للكنيسة على بعض القضايا المرتبطة بالشأن العام، وهذا مثال واحد، فلا يتسع المقام لذكر أمثلة كثيرة والتوسع في شرح أثر الدين على الفضاء العام وتدبير الشأن العمومي.

يلزم التمييز بين سيادة الشعب ومرجعية التشريع. إذ يمكن الاتفاق ابتداء خلال المرحلة التأسيسية على مبادئ فوق دستورية والتي تكون محل ما يصطلح عليه في الفقه الدستوري “الحظر” وهو نوعان زمني وموضوعي. أعطيك مثالا من الدستور الفرنسي الذي ينص في المادة 89 والفقرة الأخيرة أساسا على أن “شكل الحكومة الجمهوري لا يمكن أن يكون محل أي مراجعة”. ألا يمكن اعتبار هذا نوعا من مصادرة سيادة الشعب؟ ونفس الأمر ينطبق على مبادئ أخرى في الدستور نفسه ومنها اللائيكية، ونحن نرى كيف أنها أصبحت بمثابة كمامة لأفواه فئات واسعة من الفرنسيين.

ما يهمنا أن التمسك بمرجعية للتشريع ليست نوعا من اللاهوت أو من الثيوقراطية لأن المرجعية الإسلامية تتيح لنا إمكانيات واسعة للاجتهاد والاختلاف، وتخضع في النهاية الكثير من مقتضياتها لتشاور مؤسساتي تكلمنا عنه في الوثيقة، ونحن نتحدث عن الاجتهاد الجماعي المؤسساتي.

عرفت الجماعة بحلمها ببناء دولة الخلافة، وتعج أدبياتها بذلك، هل مازال يراودكم نفس الحلم وتتبنون نفس الغاية؟ ثم ألا ترى أن مفهوم الدولة المدنية يتعارض مع دولة الخلافة؟

يلزم ابتداء تصحيح أننا لا نحلم ولكن نطمح أو نهدف. والوثيقة كانت تهتم بالمغرب ومقترحاتها خاصة بالمغرب وسبب هذا التركيز إجرائي فقط لتجنب صدور وثيقة تتضمن صفحات ومقترحات أكثر يكون طولها عائقا أمام الهدف التواصلي المراد منها. لذلك اختصرنا فيها الكثير من التشخيص وركزنا فيها أكثر المقترحات وتجنبنا الحديث عما هو إقليمي ودولي إلا عند الضرورة.

اتفق الفقهاء عبر التاريخ أن لا مشروعية للحديث عن خلافة إلا في إطار الأمة، ولذلك كان الحديث عن خلافة على مستوى قطر من الأقطار غير مقبول، وهذا من أوجه الاستنكار على إعلان البغدادي أنه خليفة المسلمين من نينوى، وطبعا هذا وجه من أوجه الاستنكار لا يمكن أن يخفي الجرائم التي ارتكبها الدواعش في حق الإسلام والإنسانية كلها.

حين نتحدث عن الخلافة كمطلب، فإننا نعلن أولا تأسينا بالحديث النبوي العظيم المبشر للأمة، بأنه بعد الحكم العاض والجبري هناك عودة للمعين الأصيل وهو خلافة على منهاج النبوة، وهذه بشرى نبوية. وثانيا نعلن انحيازنا لوحدة الأمة ضد مخططات التجزئة والتقسيم. وثالثا نعتبر أن كل شكل كان أجدى فهو أولى لتحقيق هذه الوحدة، لأن شكل الخلافة غير محسوم ولا يعتبر جزءا من باب العقائد ويمكن لكل زمن أن يكون له شكل خلافته.

إذن ما هو شكل “الخلافة” الذي ترونه الأنسب لزمنكم؟

قلناها في أكثر من مناسبة بأننا نرى الاتحادات التي تقع بالنسبة لكثير من المجموعات البشرية تجارب ملهمة؛ سواء ما عرفته كثير من المجموعات التي اندمجت في شكل من أشكال الدول المركبة أو في اتحادات إقليمية مثل الاتحاد الأوربي وغيره. ليس هناك شكل نمطي للخلافة حيث يمكن أن تكون في شكل رئاسي أو برلماني أو فيدرالي أو كونفدرالي أو ما شابه ذلك.

نحن لا نتأثر في ما يخص تصورنا بإكراهات ظرفية تفرضها علينا نماذج مشوهة أساءت للخلافة كما هو الحال مع الدواعش، كما لا يزعزع قناعاتنا من يريد بحملات تشويهية النيل منها. أحيلك مثلا على القوميين الذين يتعاملون مع العالم العربي كدولة واحدة ويعتبرون ما دونه مجرد أقطار، ويمكن للقارئ أن يبحث في سر عدد النجمات في أعلام بعض هذه الأقطار ليفهم درجة التمسك بالوطن العربي الموحد. لماذا ينسى كل هذا ويتم التركيز على نموذج الخلافة فقط؟

هناك من يدفع بأن لنظام الخلافة خصوصية بحكم مرجعيته الإسلامية، وقد يكون جزء من هذا صحيح ولكنه بسبب إفراز تاريخي وليس بسبب عقائدي. كل ما يرتبط بنظام الحكم وشكل الدولة ظل مبحثا فقهيا اجتهاديا غير توقيفي، وقد حاول في زمن معين بعض الحكام الذين عضوا على نظام الحكم بغير الشورى أن يسبغوا طابعا دينيا على حكمهم ولذلك سموه خلافة، واجتهد البعض ليتحدث عن صفات الخليفة ومواصفات الخلافة، ولكن كل ذلك أمور اجتهادية لا تمنعنا أن نجتهد لزماننا كما اجتهدوا هم لزمانهم.