دليل مناسك الحج 3/3

Cover Image for دليل مناسك الحج 3/3
نشر بتاريخ

النزول بمزدلفة

بعد غروب الشمس لا يصلي الحاج المغرب بعرفة، بل يؤخرها حتى يأتي مزدلفة (المشعر الحرام) في سكينة 1 وتلبية وذكر فيصليها مع العشاء جمعا وقصرا بأذان واحد وإقامتين 2 . وليحرص الحاج على الصلاة جماعة، ولا ينسى التلبية كذلك.

وهذا النزول بمزدلفة من واجبات الحج؛ ومن تركه فعليه هدي. والسنة أن يبيت الحاج بمزدلفة فيصلي بها الصبح ويذكر الله تعالى عند المشعر الحرام حتى الإسفار 3 . وهذا المبيت غير واجب عند جمهور أهل العلم، وليس على تاركه شيء 4 .

رمي جمرة العقبة وأعمال يوم النحر

بعد ذلك يتوجه الحاج إلى منى ملبيا، وله أن يجمع من الحصى ما يرمي به الجمرات 5 . فإذا وصل إلى منى أتى جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات مكبرا مع كل حصاة جاعلا منى عن يمينه والبيت عن يساره 6 . قال ابن رشد: وأجمع العلماء أن الوقت المستحب لرمي جمرة العقبة هو من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال ) 7 . وقد ثبت جواز الرمي قبل هذا الوقت أو بعده من إذنه صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقد روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: “أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت” 8 . ورى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه “أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رميت بعدما أمسيت، فقال: “لا حرج””.

وبعد رمي جمرة العقبة يقطع الحاج التلبية لما رواه البخاري عن ابن عباس قال: “لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة”. وهذا الرمي من واجبات الحج التي تجبر بدم أي على من تركها هدي.

بعد ذلك يكون واجبا على الحاج المتمتع أو القارن أن يذبح أو ينحر ما استيسر من الهدي. وله أن يوكل الثقة، وهناك مؤسسات في كل من مكة والمدينة ومنى تقوم بهذه العملية. فمن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لقوله عز وجل: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة 9 .

بعد ذلك يحلق الحاج شعره أو يقصر منه والحلق أفضل 10 ، وليس للنساء إلا التقصير 11 وبذا يكون قد تحلل التحلل الأصغر فيحل له كل شيء كان ممنوعا منه حال إحرامه ما عدا النساء والصيد.

بعد ذلك يندب للحاج أن يتوجه إلى مكة ليأتي بطواف الإفاضة 12 ، وهو ركن من أركان الحج، وله أن يؤخره حتى آخر شهر ذي الحجة. وهو في كيفيته مثل طواف القدوم، ولا يختلف عنه إلا في النية، ولا رمل فيه، ولا يلبس الحاج فيه لباس الإحرام. ويسعى من أحرم بالتمتع بعده لحجه وكذا القارن، إذ السعي الأول كان لعمرته، أما المفرد فلا يعيد السعي إن كان قد أتى به بعد طواف القدوم.

وبطواف الإفاضة يتحلل الحاج من كل شيء كان محرما عليه حال إحرامه حتى النساء 13 .

ومن أتى بهذا الترتيب من أعمال يوم النحر فقد وافق السنة، ومن خالف فلا إثم عليه. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: زرت” 14 ” قبل أن أرمي، قال: “لا حرج” . قال: حلقت قبل أن أذبح، قال: “لا حرج”. قال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: “لا حرج””.

ثم يرجع الحاج إلى منى فيقيم بها ثلاثة أيام ولياليهن إن لم يتعجل، وليلتين إن تعجل. ويستحب المكث بمنى نهارا، وأما المبيت بها فواجب معظم الليل. ومن أعمال الحج التي يجب على الحاج القيام بها في منى رمي الجمرات.

رمي الجمرات

وهو من واجبات الحج التي يجب على تاركها هدي. والسنة فيه 15 أن يتوجه الحاج في أول أيام التشريق بعد الزوال لرمي الجمرات مبتدأ بالصغرى ثم الوسطى مكبرا مع كل حصاة، ويقف بعد الفراغ عند كل منهما للدعاء متضرعا مستقبلا القبلة رافعا يديه. ثم يرمي جمرة العقبة كذلك إلا أنه لا يقف عندها للدعاء. وهكذا يفعل في اليوم الثاني والثالث. ومن أراد أن يتعجل فعليه الانصراف من منى قبل غروب شمس اليوم الثاني، إذ يلزمه المبيت إن غربت عليه الشمس وهو في منى.

وبطواف الإفاضة والرمي يكون الحاج قد استكمل ما كان عليه من واجبات وأركان، ويسنّ له إذا أراد أن ينصرف من مكة أن يأتي بطواف الوداع 16 . وليحرص الحاج مدة وجوده هنالك من المحافظة على الصلاة بالمسجد الحرام 17 ، والإكثار من نوافل الطاعات به من صلاة وطواف وذكر لله عز وجل.

وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة، يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده”.

زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه

قال ابن عاشر الأندلسي رحمه الله:وسر لقبر المصطفى بأدب

ونية تجب لكل مطلب سلم عليه ثم زد للصديق

ثم إلى عمر نلت التوفيق واعلم أن ذا المقام يستجاب

فيه الدعا فلا تمل من طلاب

قال المختار الشنقيطي في شرحه: أي فإذا فرغت من حجك أو عمرتك وأردت زيادة الشرف، وتنعيم الطرف، فسر إلى طيبة الطيبة الشريفة، والروضة النبوية المباركة المنيفة… فإذا وصلت المسجد النبوي الشريف، وقد أخذت زينتك وتطهرت، فادخل باليمين مفتتحا بالدعاء المأثور “بسم الله، ثم تصلي وتسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تقول: “اللهم افتح لي أبواب رحمتك”. ثم اقصد الروضة الشريفة، وصل بها ركعتي تحية المسجد، واغتنم فيها النوافل والتطوعات بلا مزاحمة ولا أذية، لأن الروضة الشريفة المباركة روضة من رياض الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي”.

فإذا أتممت صلاتك فتقدم نحو قبر النبي صلى الله عليه وسلم من جهة وجهه الشريف، وكل ذلك بأدب جم، وحسن طوية، فسلم عليه بقولك: السلام عليك يا رسول الله، فما من أحد يسلم عليه إلا رد عليه صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: “ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام”…

فإذا سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم تنح يمينا نحو ذراع فسلم على الصديق رضي الله عنه وأثن عليه خيرا، ثم تنح يمينا أيضا نحو ذراع فسلم على الفاروق رضي الله عنه وأثن عليه خيرا.

واغتنم الصلاة في المسجد النبوي، لاسيما في الصف الأول، واحرص على أداء أربعين صلاة فيه لا تفوتك تكبيرة الإحرام تنل أجرا عظيما، وفوزا كريما. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من صلى في مسجدي أربعين صلاة، لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبرئ من النفاق”.

فإذا أردت أن تدعو الله عز وجل فاستقبل القبلة (وليس من الأدب استدبار رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وادع بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، ففي ذلك المسجد يستجاب الدعاء، ويحلو التضرع والبكاء، وتيقن من إجابة رب الأرض والسماء.) 18


[1] روى البخاري ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو راجع من عرفة: “أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع” والإبضاع هو الإسراع.\
[2] روى مسلم من حدديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم “أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين”.\
[3] روى مسلم من حديث جابر: “.. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس”.\
[4] روى مسلم عن ابن عباس قال: “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثقل – أو قال في الضعفة – من جمع بليل” وروى مسلم أن سالم بن عبد الله، أخبره أن عبد الله بن عمر، كان “يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بالليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يدفعون… وكان ابن عمر يقول: “أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم”.\
[5] روى ابن ماجه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته “القط لي حصى” فلقطت له سبع حصيات، هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول “أمثال هؤلاء، فارموا ثم قال: “يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”.\
[6] روى البخاري عن عبد الرحمن بن يزيد، أنه حج مع ابن مسعود رضي الله عنه، فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: “هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة”.\
[7] بداية المجتهد 1/522.\
[8] قال ابن حجر في بلوغ المرام: “رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم”.\
[9] سورة البقرة.\
[10] روى مسلم عن أنس بن مالك “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس”. وروى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اللهم ارحم المحلقين “قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: “اللهم ارحم المحلقين” قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: “والمقصرين”.\
[11] روى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير”.\
[12] روى مسلم عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى”.\
[13] روى البخاري من حديث ابن عمر: “ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه”.\
[14] أي طاف طواف الإفاضة.\
[15] روى أبو داود عن عائشة، قالت: “أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة، إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، والثانية فيطيل القيام، ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها”.\
[16] روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا ينفر أحد، حتى يكون آخر عهده بالبيت”، وهذا الطواف عند جمهور أهل العلم واجب، وعند المالكية سنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للحائض في تركه ولم يأمرها بهدي. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض”.\
[17] روى أحمد وابن ماجه عن ابن عباس، كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا ينفر أحد، حتى يكون آخر عهده بالبيت”.\
[18] العرف الناشر في شرح وأدلة فقه متن ابن عاشر للمختار الشنقيطي، ص 362 ـ 363 ـ 364. دار ابن حزم 2004.\