خصلة البذل

Cover Image for خصلة البذل
نشر بتاريخ

مقدمة

إن النفس البشرية كما تحتاج إلى طعام وشراب لبقائها واستمرارها، فهي محتاجة للعمل والسعي والبذل تحقيقا لغاية وجودها ونوالا لرضوان الله تعالى.

وخصلة البذل تعلي درجتك عند الخلق والخالق، وتحقق الهدف من وجود العبد المستقيم؛ الذي يمشي على هدى من الله تعالى ليكون نافعا لنفسه ولغيره. والبذل من صنائع المعروف التي تقي صاحبها مصارع السوء .

كلمة بذل وردت في الحديث النبوي. معناها لغة إعطاء الشيء والجود به استهانة به في مقابل الفضل المرجو. يقال ابتذل الشيء احتقره (1).

عن هانئ بن يزيد أنه لَمَّا وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يا رسول الله، أي شيء يوجب الجنة؟! قال: “عليك بحسن الكلام، وبذل الطعام” (2).

وخصلة البذل تأتي في المجموعة الرابعة من شعب الإيمان؛ بعد التربية والتنظيم على طريق المنهاج النبوي، والإقبال على ذكر الله للخروج من غفلة القلب، ليكون الصدق برهانا على الاستقامة، فتبذل النفس ما في وسعها لتزيل عنها الشح وتتربى على العطاء والكرم.

البذل تربية

كي يصل المسلم إلى بذل النفس جهادا في سبيل الله، لا بد من التربية على البذل إنفاقا فيما أمر الله تعالى من أوجه الإنفاق، وعلى الفتوة التي تورث كرم النفس حتى تنفق في سبيل الله وهي راضية.

الفتوة والنفقة في سبيل الله

إن خصلة البذل تسمو بالنفس وترفع الهمم عن رذيلتي الشح والتكبر، لتعلو بها نحو العطاء دون منّ ولا أذى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ (البقرة، 264).

وحب المال مع حب المحمدة عند الخلق أكبر عائقين عن اقتحام العقبة إلى الله تعالى، لذا يجب تطهير النفس منهما لتتربى على الفتوة، أي كرم النفس الذي يجمع بين سمتي الشجاعة والتواضع لخلق الله تعالى. قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز واصفا عباده الصالحين المتذللين لخلقه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ (المائدة، 54).

إن جيل الخلافة الإسلامية لا بد أن يربى على الإنفاق في سبيل الله تعالى، كما حثنا على ذلك الشرع الحنيف فاعتبر أن كل ما يبذل من جهد ومال وجاه وسلطان.. لخدمة الدعوة، هو تجارة مع الله لا تبور، وربح لا يقدر بثمن، ثماره تجنى في كل وقت وحين، كالشجرة الطيبة؛ أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. والبذل أكبر برهان على صدق الصادقين وجهادهم.

البذل تنظيما

إن كان البذل صفة محمودة تربى عليها النفوس الصادقة، فالبذل تنظيما لا بد له من العمل على تقليص فجوة الفقر والجهل والمرض الذي يخلفه الحكم الجبري الجائر. ولا بد من عمل تطوعي يدفع بالفرد للعمل بمسؤولية لتحريك عجلة الإنتاج وتدبير مشاكل الدولة لإحلال العدل والمساواة في هذه الأمة المنكوبة.

فنحن بحاجة إلى سواعد فتية تبني دون كلل أو ملل، قادرة على العطاء بالصبر الدؤوب والهمة العالية والخبرة المتراكمة لاقتحام العقبات التي خلفها الاستعمار واستبداد الحكم الجبري الظالم.

شعب الخصلة

1/ الزكاة والصدقة

الزكاة هي مصدر لتسوية الفروق الشاسعة بين المالكين الأغنياء والعاملين الفقراء المحرومين. فهي إذن وسيلة لإعادة توزيع الثروات بالعدل، لإعادة التوازن بين الفقراء والأغنياء، وتقليص الفوارق الطبقية، ومحاربة احتكار المال وكنزه أو إنفاقه في وجوه اللهو والترف الذي يقضي على الاستثمار المنتج الذي تحتاجه الدولة الإسلامية القوية.

2/ الكرم والنفقة في سبيل الله

بعد أن تحقق الزكاة والصدقة دورهما في إقامة العدل الاجتماعي، يأتي دور الحنو الأخوي التطوعي بين الأفراد، القائم على التآخي والتآزر والعطاء، وهذا ما لا تستطيع الدولة فرضه بسلطانها، بل يفرضه السعي إلى مراتب الإيمان لبلوغ درجة الإحسان الذي أمر به الله سبحانه وتعالى.

3/ إيتاء ذوي القربى واليتامى والمساكين

 أمر الله سبحانه وتعالى بالبر والإحسان؛ ابتداء بالوالدين وذوي الرحم لتأليف القلوب وتلبية الحاجات والإعانة على نوائب الدهر. إنه خلق التراحم والتكافل بين المسلمين من أجل تحقيق الرخاء والنهضة الإسلامية. قال الله سبحانه وتعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (النساء، 36).

4/ إطعام الطعام

إن إطعام الطعام من وسائل البر والإحسان في دعوتنا المباركة، والاشتراك في الطعام بالآداب النبوية الشريفة  يؤلف القلوب، لأنه عطاء وكرم وبر يتواصل به أعضاء الجماعة، ويعبرون به عن اهتمامهم وودهم وكرمهم.

5/ قسمة المال

إن كانت الدولة الإسلامية العادلة تقوم على توزيع الثروات بالعدل، فلا ننسى أن نذكر كرم ورحمة الأيدي الكريمة التي لا تعرف إمساكا ولا تخاف من ذي العرش إقلالا، لأنها تعطي بلا حساب، ولا تنتظر الجزاء إلا من الوهاب. وقد ضربت سيرة نبينا والصحابة الكرام أمثلة رائعة للإيثار في قسمة المال.

خاتمة

إن خصلة البذل والكرم من شيمة الأتقياء الفضلاء الذين مدحهم الشعراء. يقول الشاعر ابن الرومي:

ليس الكريم الذي يعطي عطيتَهُ ** على الثناء وإن أغلى به الثمنا

بل الكريم الذي يعطي عطيته ** لغير شيء سوى استحسانه الحسنا

لا يستثيب ببذلِ العُرْفِ محْمدةً ** ولا يَمُنُّ إذا ما قَلَّد المِننا

حتى لتحسب أن الله أجبَرَهُ ** على السماحِ ولم يَخْلُقْهُ مُمْتَحَنا


(1) الإمام عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ط 1989/1، ص 197.

(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم (1/ 23)، وغيره، وهو في السلسلة الصحيحة رقم (1939).