حقوق الآخرين

Cover Image for حقوق الآخرين
نشر بتاريخ

أسس لنا الشرع الحنيف منهج حياة لعلاقاتنا، بدءا بالأسرة الصغيرة إلى الأسرة الكبيرة وهي الإنسانية جمعاء، وهو ما نصت عليه الآية الكريمة وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الآية 36/ سورة النساء. إذ تبين لنا طبيعة المعاملة بالإحسان مع مجمل طبقات المجتمع، ابتغاء لمرضاة الله عز وجل.

 استهلت الآية بأمر العبادة “واعبدوا الله”؛  فالعبادة هي الخضوع والطاعة والتذلل، قال ابن القيم رحمه الله: “العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة”. هي إذن شاملة لكل شؤون الحياة (تربية الأبناء، إتقان العمل…) يقول الله عز وجل قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الأنعام/ 162، 163.

فكل أمر جُدّدت فيه النية وكان القصد منه مرضاة الله عز وجل فهو عبادة، والدين بمفهومه الشامل عبادة ومعاملات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةً تُذْكَرُ قِلَّةَ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِط 1 وَلَا تؤذي جِيرَانَهَا. قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ». 2

بعدما أمر الله عز وجل بعبادته والإخلاص له والقيام بحقوقه، أمر بالإحسان والقيام بحقوق العباد، الأقرب فالأقرب. “وبالوالدين إحسانا” والإحسان إليهما – كما جاء في تفسير السعدي- يكون بالإحسان إليهما بالقول الكريم، والخطاب اللطيف،  والفعل الجميل؛  بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما، وصلة الرحم التي لا رحم إلا بهما. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من ولد بار ينظر إلى والديه نظرة رحمة إلا كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة. قالوا وإن نظر كل يوم مائة مرة؟ قال نعم الله أكبر وأطيب”. 3

ثم يذكر لنا سبحانه وتعالى “وبذي القربى” فصلة الأرحام واجبة، وقطيعتهم كبيرة، توجب قطع الطريق على صعود الأعمال إلى الله عز وجل ونزول الرحمة. والأحاديث كثيرة في هذا الباب نأخذ منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الرَّحِمَ شِجْنةٌ 4 من الرَّحمنِ تقولُ يا ربِّ إنِّي قُطِعتُ يا ربِّ إنِّي أُسِيء إليَّ يا ربِّ إنِّي ظُلِمتُ يا ربِّ فيجيبُها ألا ترضَيْن أن أصِلَ من وصلك وأقطعَ من قطَعك». 5 استجابة الله عز وجل للرحم بوصل من وصلها وقطع من قطعها، فقطع الرحم هو قطع مع الله عز وجل، ووصلها وصل بالله عز وجل، و بركة في الرزق والعمر، فالمجتمع الواصل لرحمه قوي متين.

من العباد الواجب الإحسان إليهم “واليتامى والمساكين” وقد قدمهم الله عز وجل عن الجار ذي القربى لشدة حاجتهم، فاليتيم هو الذي لا يجد من يعوله، والمسكين هو ذو الحاجة المتعفف عن السؤال. عن سهل بن سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين، وقال بأصبُعَيْهِ: السَّبَّابةَ والوسطى”. 6

ثم ذكر الله عز وجل الصاحب بالجنب والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وهو صديق العمل أو الدراسة وابن السبيل (المسافر الذي انقطع عن بلده بسبب نفاد نفقته)، وقد قدم الجار ذي القربى لأنه الأحق بالإحسان، وله ثلاثة حقوق. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاث، جار له حق وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق، فالجار الذي له ثلاثة حقوق هو الجار المسلم ذو الرحم فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم. وأما الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار، وأما الجار الذي له حق واحد فهو الجار المشرك”. والجار المشرك هو الجار الجنب، فعن أمنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”. 7

لقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار كان مسلما أو غير مسلم، وله حقوق، وله حرمة، وإن كان حق المسلم أولى وحق الغريب أولى منه. فمن حق الجار علينا، مواساته والصبر عليه وعدم إذايته والتلطف مع أبنائه وزيارته في مرضه وستر عوراته والتجاوز عن زلاته.

أكدت الآية الكريمة على عبادة الله عز وجل عبادة خالصة، ثم الإحسان إلى الخلق، بدأ بالوالدين فهما أساس الأسرة الصغيرة، ثم الأقارب الأقرب منهم فالأقرب، لتتسع الدائرة وتشمل الأسرة الكبيرة؛ الجار واليتامى والمساكين والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت الأيمان، بل لتشمل الإنسانية جمعاء.

 فما المجتمع إلا أسراً متجاورة، بتماسكها وحسن جوارها لأسر أخرى، محبة وتكافلا وإحساناً، يقوى المجتمع ويشد بعضه بعضا كالجسد الواحد كما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. 8

 

 

 

 


[1] بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ: الأثوار: أي القطع/ الأَقِطِ: نوع من الجبن يعمل من لبن الإبل المخيض.
[2] رواه أحمد في مسنده والحاكم وابن حبان والبيهقي في الشعب.
[3] أخرجه البيهقي.
[4] شِجْنةٌ: الغُصْنُ المشتبك، عروق الشجر المشتبكة، الشُّعْبة من الشيء. يقال «بينهما شَجنة رحم» اَي: شعبة رحمٍ‌ كأنها حبل من حبال صلته/ شِجْنَةُ‌ الرَّحِمِ‌ وهي القَرَابَةُ‌ المُشْتَبِكَةُ‌.
[5] أخرجه أحمد وابن حبان.
[6] أخرجه البخاري.
[7] أخرجه البخاري.
[8] أخرجه مسلم والبخاري.