حفل تكريم في مكة

Cover Image for حفل تكريم في مكة
نشر بتاريخ

الحمد لله ما حجّ ضيوف الرحمان واعتمروا، الحمد لله ما لبسوا ثوب الإحرام وبه استتروا، الحمد لله ما طوّفوا بالبيت العتيق فهلّلوا وكبّروا، الحمد لله ما شربوا من ماء زمزم فتضلّعوا وتطهّروا، الحمد لله ما سعوا بين الصفا والمروة ثم حلقوا أو قصّروا، الحمد لله ما وقفوا بعرفات فأنابوا واستغفروا، الحمد لله ما رموا الجمرة الكبرى ثم ذبحوا أو نحروا، الحمد لله ما لمعت لأعينهم القبّة الخضراء والحُجر. وأشهد أن لا إله إلا الله والله أكبر، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الأتقى الأنقى الأطهر، اللهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه خير من حجّوا واعتمروا.

وبعد،

ونحن في هذه العشر المباركة.. والكعبة الشريفة قد لبست ثوب إحرامها متزينة لضيوف الرحمان الذين أتوا من كلّ فجّ عميق لحجّ البيت العتيق، تذكرت مشهدا راقيا باقيا نقلته عدسات العين – حين وقوعه – ثم دخل سجلّ التاريخ من بابه الواسع ليصبح خبرا يعطّر مجالس علمنا ويضمّخ خطب جمعاتنا ويطيّب مناسبات وعظنا كلّما كان الحديث عن الأم.

إنه لمشهد تقشعرّ منه الجلود، ويبكي لرؤيته الجلمود، مشهد ذلك اليماني الذي يحمل أمّه على ظهره يطوف بها حول البيت العتيق – في نقل وجداني خالد تناقلته الأجيال لأزيد من أربعة عشر قرنا من الزمن – وهو ينشد:

إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ ** إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ

ثمّ يتوجه بالسؤال لسيدنا عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قائلا: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟

فيجيبه سيدنا ابن عمر – رضي الله عنهما – جواب خبير: “لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ” [1].

في البيت الحرام… وفي الشهر الحرام… وقد اجتمع الأنام لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام. في مؤتمر عالمي تحضره الآلاف المؤلفة من الناس. تكرّمُ الأمّ وتُرفع على الأكتاف في شخص هذه المرأة اليمنية التي ظنّ ابنها أنّه إن حملها على ظهره في الكبر كما كانت تحمله في الصغر فقد يوفيها حقّها، ليأتيه الجواب صادما من صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – أنّ ما فعلت جميل لكن أنّى لك ردُّ جميلها. فبعض الإحسان لا يمكن أبدا مكافأة أصحابه.. وكلّ ما فعلْتَ لا يؤدّي ثمن زفرة من زفراتها عندما وضعتك. فأين ثمن حملها ومخاضها؟ وأين أجر احتضانها ورضاعها؟ وأين – حين مرضْتَ – ثمنُ سهرها؟ وأين – حين تأذّيْتَ – أجر فزعها؟ أين وأين وأين؟

في الحجّ روحانية عالية تأسر القلوب.. لكن يكون الأسر أقوى وتكون الروحانية أعلى بشرف المكان وشرف الزمان وشرف صحبة المرأة التي أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بصحبتها.

ما ألذّ تلك الدقائق التي تمشي فيها إلى جنب الغالية، تمسك بمعصم يدها الحانية، تدلّها على المناسك منسكا منسكا.

ما أحلى تلك السويعات الاستثنائية – إن كتب الله لك شرف حملها على ظهرك – فطفت بها حول البيت وهي تمطر صحراء غفلتك بوابل دعائها، وتسقي تربة قسوتك بسيل دموعها، وتفرش بطحاء صدودك برضائها.

ما أغلى تلك اللحظات التي يتبادل فيها الولد مع والدته مشاعر الفرح والرضا عبر تماس الجسدين، ليستشعر أنّ أمّه فرحة مسرورة راضية، فيسرّ هو كذلك ويصبح لعمله طعم ولفعله لذة ولجهده مذاق..

إن ما فعله ذلك اليماني في القرن الهجري الأول أصبح سنّة تتكرّر كل عام في موسم الحجّ وفي العمرات كذلك.. ففي كلّ عام هناك من يأتي حاملا أمه وهناك من يأتي حاملا أباه على ظهره.. أما سَوْقُ العربات بالأمهات والآباء؛ فذاك أصبح من المشاهد العادية جدّا في رحلات الحجّ والعمرة.

أما وإن الأمر لم يقتصر على الرجال فقط.. ففي العام ألفين وسبعة عشر بتاريخ النصارى حجّت امرأة خمسينية من آسيا وهي تحمل فوق ظهرها والدتها البالغة خمسا وثمانين عاما، تقديرا لها ووفاء وعرفانا بالجميل.

والشيء الذي كان يشدّ انتباه ضيوف الرحمان لهذه المرأة – ليس فقط كونها أول أنثى تنافس الرجال على مزيّة عظيمة كانت حكرا عليهم – بل هو تلك الرقدة الهادئة للأم – وهي على ظهر ابنتها – مغمضة عينيها في اطمئنان، شاعرة بالأمن والأمان، محتضنة فلذة كبدها بكلتا يديها، وكأنها تقول للرّائين هذه أثمن هدية وهبني المولى الكريم -سبحانه- إياها في دنياي.. فهل عندكم مثلها؟

وعلى الرغم من أن الابنة لم تكن صغيرة السّن، إلا أنها تحملت مشقة حمل أمّها الغالية فوق ظهرها طوال أيام الحج فرحة مسرورة، بل قالت العجب؛ هو أني لم أشعر بأي إرهاق أو تعب أو نصب.. وأضافت: “كنت أحمل والدتي وأسير بها بسرعة بين الحجيج خشيةً من حرارة الشمس، وكنت أظللها بين المخيمات وبسقف محطة قطار المشاعر”.

فبالله عليك يا أختاه.. أما تمنّيت لو كنت الحاملة وأمّك المحمولة؟

أما تتمنّين لو أنّك أقمت للغالية حفل تكريم وسط هذا الوفد العظيم؟ حفل تكريم في البيت الحرام يكون مسك ختام رحلة العمر..

وإنّه لتكريم.. وأي تكريم..

أمي

أمي، أنا الأمي وهي معلمي ** كيف المحبة دون زيف أو طمع

أمي، غبيا كنت وهي مُفهّمي ** معنى التوسل دون شرك أو بِدَع

أمي، شقيا عشت لولا عطفها ** من غيرُها يكفيك شر المجتمع

أمي، وتسحرني ابتسامة ثَغرها ** وأقول كيف سرورها رغم الوجع

رقم السقام وحمل أثقال الدّنى ** أنّ الجميع وقلب أمي ما جزع

فإذا نأيتُ عن الديار وأهلها ** شوقي إليها صادق لا مصطنَع

حملت وبعد عناء تسعة أشهر ** عاشت مخاض نضال حق مُنتزَع

كي ما أعيش مُكرَّما في بطنها ** أقتات من أحشائها حتى تضع

أُخرِجتُ كرها من جنان حنانها ** كخروج آدم نادما مما وقع [2]

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.


[1] بردة بن أبي موسى الأشعري القصة عند البخاري في الأدب المفرد عن أبي.
[2] قصيدة للداعية الشاعر سيدي منير ركراكي –حفظه الله تعالى-.