جيران المرحمة (2).. قصص من وحي الواقع

Cover Image for جيران المرحمة (2).. قصص من وحي الواقع
نشر بتاريخ

جلست “مي مينة” وسط الدار على أريكة تقليدية، تستقبل نور الشمس قبالة باب البيت، تضع في يدها سبحتها، وتتطلع بعينيها نحو نور الفضاء الخارجي، إنها الجارة الوحيدة التي بقيت في “الحومة” القديمة بعدما رحل الجميع نحو الأحياء العصرية، كان بيتها هو قاعة الأفراح لسكان الحي، لأنه المنزل الأكبر فيه، وله تصميم تقليدي “فاسي” أصيل، كانت تقف بنفسها للسهر على نظام الحفل من بدايته إلى نهايته، ترتدي الزي التقليدي، وتتزين “بالشمار أو التخمال” من ذهب مفتول غليظ، تراقب سير مراحل الحفل، حتى يخرج المدعوون وهم في كامل الغبطة والسرور، تحسب أنت الغريب عن الحي أن الحفل لأحد أبنائها أو بناتها، وإن كانت الحقيقة أنه حفل أحد أبناء أو بنات الجيران.

سمعت “مي مينة” صوت جرس الباب مصحوبا بصوت نداء مألوف، الباب كان مفتوحا، لذلك كان الزائر مضطرا للنداء على أصحاب الدار استئذانا في الدخول.

حاولت “مي مينة” أن تتعرف على الصوت،  المهم عرفت أنه صوت امرأة، فأذنت لها بالدخول، لم تبدُ لها ملامح الزائرة واضحة، حتى اقتربت منها، حينها صاحت بأعلى صوتها مرحبة ومهللة، وبعناق حار كان الاستقبال:

– أهلا، أهلا بالعزيزة، أهلا بالجارة الكريمة بنت الكرام، “لالة غيثة”، مرحبا، وأهلا وسهلا.

تخلل العناق عتاب على الغياب الطويل، واختلطت الكلمات بالدموع، فرح ودموع وعتاب، من جارة اشتاقت لجارتها التي لم تزرها من مدة طويلة. لم تعد فتن الدنيا تجود بالوقت على الناس ليتزاوروا ويتواصلوا ويجددوا الوصال والمحبة والود.

اجتمعت حفيدات “مي مينة” وإحدى بناتها، بـ”لالة غيثة”، وقمن بواجب الضيافة، وأبدين  الفرح والاستبشار بتفقد “لالة غيثة” لجدتهن، التي طالما حدثتهن عن الجيران القدامى وكيف كانت العائلات  مثل أسرة واحدة.

كانت الفرصة سانحة أمام “لالة غيثة” لتحكي للحفيدات عن عفو وسماحة جدتهن، في موقف وقع لها معها حين كان الأطفال يلعبون في الحي ووقع حادث لأحد أبناء “مي مينة”، فاسترسلت في حكيها متأثرة بموقف “مي مينة” الأصيل:

– في أحد أيام الصيف أخذت ابنتي لبنى وهممت بالذهاب إلى الحمام، لكن كما هي العادة لابد أن أمر على “مي مينة” أسألها إن كانت تريد أن أصحب معي إلى الحمام إحدى بناتها، فعلا ذاك ما حصل، فقد رافقتني ابنتها الصغيرة.

ولأنني اصطحبت معي ابنتي وابنتها، لزم هذا مكثي طويلا في الحمام، فعدت قبيل العصر، وطرقت باب مي مينة، فتفاجأت أنها ذهبت إلى المستشفى  لتسعف ابنها الذي أصيب بجرح غائر في يده، سببه له ابني الأوسط حينما كانا يلعبان الكرة.

دارت الدنيا من حولي، وعلى قدر خوفي على ابن الجارة أن يصيبه أذى، على قدر خوفي على ابني إن قررت الجارة أن تسلك طريق القضاء، وضعت لوازم الحمام في البيت، وتركت ابنتي فيه، وتبعت الجارة إلى المستشفى الذي كان بعيدا، ولم تكن هناك ثقافة الطاكسي، فقطعت المسافة سيرا على الأقدام، وصلت إلى مستشفى “الغساني”، فوجدتها تتأبط ابنها الذي وضع له الضماد على الجرح، فأسرعت نحوها أعتذر وأطمئن، فكان ردها بردا وسلاما:

– لا بأس، لا بأس، اللعب له جانب من المخاطر؛ اليوم أصيب ابني، وغدا قد يكون ابنك لاقدر الله هو المصاب، كيف سيصبح الأطفال رجالا إذا لم يسقطوا وينهضوا ويتعلموا. هوني عليك أنت أختي، فلن يخاصمنا الأولاد، عانقتها، وعدنا أدراجنا سيرا على الأقدام نتجاذب أطراف الكلام وكأن شيئا لم يحدث.

ومرت الأيام وكبر الأولاد، منهم من توظف، ومنهم من عمل بالتجارة، ومنهم من ذهب إلى الخارج، لكن الذي عرفناه من ولدينا، بعد ذلك، أن ابني لم يضرب ابنها ولم يكن هو السبب في ما وقع له، لكنهما اتفقا على هذه الكذبة، حيث إن ابنها خاف من عقابها له لأنه تسلق شجرة فسقط منها على الأرض بعدما غرزت غصنها في ذراعه، فلما رأى الدماء تسيل بغزارة، اخترعا هذه الكذبة.

ضحكت “مي مينة” ، معلقة على كلام “لالة غيثة”:

– تصوري لو كنت سلكت طريق القضاء، ماذا كان سيحصل من ضرر لي ولك، والقصة كلها مفبركة من ابني وابنك.

علقت “لالة غيثة” على جارتها، بأن الأخوة التي كانت تجمع أهل الحي كانت حاجزا أمام كل الأذى، وأن حِلم “مي مينة” وسعة صدرها  وحبها لجارتها ولأبناء جارتها ما تحبه لنفسها ولأبنائها، منع من وقوع الكارثة.

جيران المرحمة كانت تجمعهم محبة تحصنهم، فكانت صدور المودة لا تسع سوى الحب، فلا مكان فيها للكره أو الإيذاء.