جيران الأمس.. وقفة للتأمل

Cover Image for جيران الأمس.. وقفة للتأمل
نشر بتاريخ

حض ديننا الحنيف على الإحسان إلى الجار وحسن الجوار من خلال مجموعة من الأحاديث النبوية الصحيحة ناهزت الأربعين حديثا، نشير إلى بعضها كما يلي:

– عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما زال يوصيني جبريلُ بالجار حتى ظننتُ أنه سيُورِّثه» 1. وهي وصية خالدة متكررة أوصانا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنت أمنا عائشة رضي الله عنها أنه سيُورِّثه.

ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» 2. وفي هذا الحديث النبوي إشارة واضحة وجلية أن الجنة تُحْرَمُ على من لا يأمن جاره بوائقه. وفي حديث آخر نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان ثلاثا على من يؤذي جاره، فعن أبي شريح رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه» 3. ونفى صلى الله عليه وسلم أيضا الإيمان عمن يبيت شبعانا وجاره جائع بجنبه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:  «ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه» 4. فهل من معتبر.

– عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركَب الهني، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق» 5. وفي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجار الصالح من الأربع التي تتحقق بها سعادة المرء في الدنيا والآخرة، كما جعل الجار السوء من مسببات شقاوة المرء والعياذ بالله. جعلنا الله وإياكم من السعداء وحفظنا وإياكم جميعا من الشقاوة والأشقياء.

وقد تمثل جيران الأمس هذه المعاني والوصايا النبوية في التعامل مع الجيران، واعتنوا بها وجعلوها واقعا معاشا، ويمكن أن نتلمس ذلك من خلال صور وأمثلة عشناها في ذلك الزمن الجميل ونتمنى إحياءها، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر:

– الرضاعة: فقد كانت الجارة ترضع أبناء جارتها أثناء المرض أو لغرض من الأغراض، وفي ذلك إشارة قوية إلى العلاقة التي كانت تربط الجيران لدرجة رضاعة الأبناء وما يترتب عنها.

– الاهتمام بالأبناء: كان الاهتمام بأبناء الجيران ميزة أساسية بالأمس القريب، فالأبناء حين الرجوع من المدرسة وفي غياب الأبوين لسبب من الأسباب (سفر، ظروف صحية…) كان بيت الجار هو المأوى والملاذ. بل كان الجار يسهم في تربية أبناء جاره ونصحهم والتدخل في حالة النزاع بين الأبناء وآبائهم.

– الضيوف: في كثير من الأحيان كان من الصعب التفريق بين ضيوفنا وضيوف الجار من حيث المأوى والمأكل.

– الأفراح والأتراح: كانت بيوت الجيران مفتوحة دائما في الأفراح والأتراح، فأثناء وفاة أحد الجيران كان الآخرون يجهزون الطعام على نفقتهم الخاصة ذلك اليوم كله. وكل ذلك يعكس علاقات اجتماعية روحها التكافل والتعاون بين جيران الأمس.

– الأعياد ورمضان: وخاصة عيد الأضحى، كان من الصعب أن تجد جارا واحدا لم يضحي بأضحية العيد، بل كان التعاون على شراء الأضحية وذبحها وتبادل أجزاء من لحومها. أما رمضان فقد كان للجيران طقوس خاصة به في التعاون على إعداد وجبات الفطور والسحور.

لابد من التذكير أن النسيج الاجتماعي والبيئة الاجتماعية الحاضنة آنذاك كانا مساعدين على تحقيق هذا التكافل والتآزر بين جيران الأمس. وهذا هو الذي يغيب في الوقت الحاضر لأسباب كثيرة ليس المجال لذكرها، فهل نستطيع إعادة صور التكافل والتعاون بين جيران الأمس وننقله إلى واقع جيراننا اليوم وجيران مستقبلنا، أم أن الأمر ولى ولم يعد ممكنا تحقيق ذلك كله، فلكل جيل بيئته ورجاله ونساؤه؟


[1] أخرجه البخاري رقم: (5668)، ومسلم رقم: (2624).
[2] أخرجه مسلم رقم: (46).
[3] أخرجه البخاري رقم: (5670)، ومسلم رقم: (46).
[4] رواه البخاري في الأدب المفرد رقم: (112)، وحسنه الألباني في تحقيق المشكاة رقم: (4991).
[5] أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم: (1232).