جار.. ليس منا!

Cover Image for جار.. ليس منا!
نشر بتاريخ

كما أن الصاحب ساحب، والمجالس مجانس، فإن الجار جار، إما يشد جاره إلى معالي الأمور ورفيع الأخلاق أو يهوي به في مستنقع الرذائل والسفاسف، وإذا نجا الكبار من ذلك، فقلما يسلم النشء الصغار. فكم من جارة كانت سببا في تغيير جارتها، فأثرت فيها تأثيرا غير مجرى حياتها، فتعلمت منها خير الدين والدنيا، وكم جار كان سببا في تحول جاره فحصل الفلاح والنجاح أو حصد الخسار والبوار.

لهذا كان من معاني الإحسان إلى الجار التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم: “مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ”، وكف الأذى هو أبلغ الإحسان وأعظمه، فالتأثير الذي ينجم عن الاقتداء والاهتداء أشد وأقوى على نفوس الجيران، إذ كم من شخص ضل أبناؤه وبناته بسبب تأثرهم بسلوك جيرانه وأبنائهم أو اهتدوا وفازوا، فمهما كان حرص الآباء على أبنائهم تربية وتوجيها ومراقبة لابد من أثر، إذ إن الطباع تسترق بالمجاورة والمقاربة، ويصعب أن يتم الفصل بين الأتراب والأصحاب.

وأذكر في الصبا، كم كانت الوالدة حفظها الله تدعونا تصريحا أو تلميحا من خلال الدعاء والمدح والإطراء، للاقتداء بأبناء عائلة سوسية من جيراننا -رحم الله من مات منهم وبارك في البقية- كانوا لا يرفعون أصواتهم ولا رؤوسهم كبارا وصغارا، يغضون أبصارهم وأصواتهم، وحتى إذا حدثوك أطرقوا وابتسموا، مواظبون على الصلاة، فكانوا لنا قدوة ماثلة ومرآة عاكسة، نرى فيها استقامتنا واعوجاجنا، من غير قصد أو عمد منا أو منهم، اللهم أن الآباء صلحوا فربوا ذريتهم، فكانت سببا في الإصلاح، فأصلح الله بهم وعم الصلاح، وهكذا كان الأمر ردحا من الزمن فالخيرية فاشية والتربية عامة، الكل يربي وينهى ويأمر ويوجه ويصلح، فكانت روح الجوار تمتد لتشمل حيا أو حيين، ولا تقتصر على المنزل أو العمارة أو “البراكة”.

وكما أن هناك نماذج إيجابية، فهناك أمثلة سلبية لعائلات تسببت عامدة أو غافلة في تدمير أبناء جيرانها أو حتى أزواجهم، وأحب أن أتوقف مع حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، غاية في الخطورة والأهمية لأنبه إلى جملة أمور، قد لا ينتبه لها الجار أو الجارة في علاقاتهم، وقد يفسدون من حيث يريدون الإصلاح، وقد يسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: “من خَبَّبَ زوجة امْرِئٍ أو مَمْلُوكَهُ فليس مِنَّا”، والخب كما ورد في لسان العرب الخِدَاعُ والخُبْثُ والغِشُّ والإفساد، وفي الحديث: “لا يدخُلُ الجنَّةَ خَبٌّ ولا خائنٌ” والخَبُّ، بالفتْح: الخَدَّاعُ الذي يَسْعَى بينَ الناسِ بالفَساد، ويقال: خَبَّبَها أَفسَدَها، وخَبَّبَ فلانٌ غُلامي أَي خَدَعَه، وخَبَّبَ فلانٌ على فلانٍ صَديقَه معناه أَفسده عليه.

ومعنى الحديث أنه ليس من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسَعى في إفساد امرأة على زوجها، سواء كان المُفسد رجلا أو امرأة، وذلك بأن يُذكر عندها مساوئ زوجها وسوء أخلاقه حتى تكره زوجها وتتمرد عليه، وهو يقع كثيرا فكم من زوجه كانت تعيش مع زوجها حياة هادئة هانئة، حتى تدخل حياتها جارة “خبة”، فتوغر صدرها على زوجها بالملاحظات وإظهار المساوئ والعيوب والنقائص، لماذا لا يساعدك في البيت؟ ولماذا يتأخر ولا يعود باكرا؟ ولماذا لا يراجع مع أولاده؟ ولماذا لا يغير الأثاث؟ ولماذا لا تخرجون إلى المطاعم والأسواق؟ ولماذا تمكثين العطل في البيت ولا تسافرين؟ لماذا يزوركم أهله أكثر من أهلك؟ لماذا ولماذا، وكيف تقبلين، وعجبا لماذا تسمحين؟

وقد يكون التحريض بالمبالغة في إظهار النعمة والحديث عنها كاللباس والزينة والمطعم والمركب، أو بالحديث عن صفات الزوج وكرمه ورومانسيته وهداياه وحنوه وعطفه وغيرها من الصفات، فتنقلب الحياة الهانئة إلى نكد ومنغصات، وقد يصل الأمر إلى خراب البيوت بالطلاق والفراق، وما يقع بين النساء يقع بين الرجال، فيفسد أحدهم جاره على زوجته، أنت رجل “بخيرك وخميرك” تستحق خيرا منها جمالا وعائلة وأكثر منها ثقافة وحذقا، أو يبالغ بمدح زوجته ويتباهى بخدمتها وطاعتها وأناقتها وتيسيرها وحسن تدبيرها، وبحسن تربيتها لأولادها، فيتغير قلب الرجل وينتبه إلى ما كان لا يراه خاصة إذا كان يبحث عن تعلة، وقلبه “طيب”، فيحل الخسار والبوار، والسبب جارة غافلة لا تلقي بالا، أو جار خلو لم يعرف حدود ما يقال وما لا يقال، أما إذا كان العمد والقصد ونية التخبيب والتخريب كان الوعد النبوي مستحقا والعياذ به.

وقد روت لنا كتب التفسير والحديث كلاما نفيسا في شرح سورة التحريم “إن تتوبا إلى الله” رواية عن سيدنا عمر رضي الله عنه غاية في الروعة، وفيها أن الطباع تسترق، وأن الأخلاق تتعلم، وأن الجارات يتعلمن من بعضهن البعض، وقد يكون في التعلم الغث والسمين، والضار والنافع، لاختلاف الطباع والأعراف الاجتماعية، فهذا الفاروق رضي الله عنه، يحكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما حصل للمهاجرات رضي الله عنهن من تغير من مخالطة الأنصاريات، “لو رأيتنا يا رسولَ اللهِ وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم”.

فلنكن يرحمنا الله وإياكم أقرب بالخير وأبعد عن الشر، فكما قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: “خَيْرُ الأَصحاب عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لصاحِبِهِ، وخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى خيْرُهُمْ لجارِهِ”، والخيرية أن يسعى في إصلاح بيته وأولاده، وأن يراعي الطبائع والأعراف، وحتى إذا شكا الجار أو الجارة ردت إلى بيتها وزوجها ردا جميلا لطيفا، لا أن توسع الرقع على الرتق كما يقال، ولا تكن كأبي معاوية الذي أورد خبره صاحب “وحي القلم” الإمام الرافعي رفع الله قدره، فقد روى حكاية عن خصومة الشيخ أﺑﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎنَ اﻷﻋﻤﺶِ مع زوجته في قصة “زوجة إمام”، -وهي قصة ماتعة- تظهر كيف أن البعض قد يفسد وهو يريد الإصلاح دون قصد أو عمد، فقد قال أبو معاوية الضرير بعد أن جاء ليصلح بينهما:

“ﻻ ﺗﻨﻈﺮي إلى ﻋَﻤَﺶ ﻋﻴﻨﻴﻪ، وﺣُﻤﻮﺷﺔ ﺳﺎﻗﻴﻪ، ﻓﺈﻧﻪ إﻣﺎم وﻟﻪ ﻗَﺪْرٌ”، ﻓﺼﺎح اﻟﺸﻴﺦ: “ﻗﻢْ، أﺧﺰاك ﷲ، ﻣﺎ أردتَ إﻻ أن ﺗﻌﺮﱢﻓﻬﺎ ﻋﻴﻮﺑﻲ!”.