ثمن التغيير في مشروع الإمام المجدد رحمه الله

Cover Image for ثمن التغيير في مشروع الإمام المجدد رحمه الله
نشر بتاريخ

مدخل

إن من سنن الله عز وجل أن أي تغيير في الكون تصحبه مشقة ظاهرة، وأي ولادة جديدة ترافقها آلام المخاض وأوجاع الوضع؛ لذا كان التغيير الحضاري في تاريخ البشرية مصحوبا بانتفاضات وثورات وأشكال مختلفة من زعزعة العادات والأنظمة القديمة المتهالكة لإرساء دعائم البناء الجديد. وقد قص الله عز وجل علينا في كتابه العزيز سنن الذين من قبلنا من الأنبياء والرسل وما لقوه في سبيل دعواتهم ورسالاتهم. كما أن أخبار التاريخ تنبئنا بما وقع من انتفاضات وثورات غيرت مجرى التاريخ، وما لقيه كل من حمل مشعل التغيير من عقبات شاقة ومواجهات عنيفة.

وفي هذه الورقة محاولة لبسط ما يعترض أي تغيير من عقبات وما يدفعه الإنسان من ثمن لإحداث التغيير في مجتمعه، انطلاقا مما فصل فيه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله القول مما اصطلح عليه هو بـ”الثمن”. ولم يكن الإمام رحمه الله من بين المفكرين الذين نظروا للتغيير بعيدا عن الواقع وعقابيله، أو ممن ينظر وهو جالس في برجه العاجي، بل دفع ثمن التغيير الذي نظر له كثيرا، والدارس لحياته يجزم أن الرجل غامر بحياته في كثير من المواقف، ودفع ثمن كلمة الحق الحرة، والتي صدح بها قائلا: لأقول كلمة الحق التي لا تترك صديقا) 1 ، لقد دفع الرجل الثمن حين جدد مفاهيم لم تكن مألوفة في عصره، حين انتصر للصوفية ورجال التربية، حين انتقد بعض علماء القصور، وحتى حين انتقد الزوايا وما تفعله بعض الطرق الصوفية، وكان الثمن غاليا حين نصح الحاكم المستبد في زمانه، لقد تحزب ضده كل من لا يوافقه في فكره أو من لا تروقه نصيحته، حتى غدا الرجل بحق أمة لوحده في زمن الانبطاح والتبعية.

أدى الثمن حين صدع بالحق وجهر به، وقال كلمة زلزلت عروش الطغيان وأقلقت علماء السلطان وأزعجت منافقي العصر وديدان القراء. وقد رموه بالخرافة والجنون، وألقوا به في السجون، ومنعوا فكره من الظهور، وسلقوه بألسنة حداد، وأتبعوه مكر الليل والنهار، وما وهن وما ضعف وما استكان والله يحب الصابرين.

ثمن التغيير لدى الفرد

إن التغيير الذي ينظر له الإمام المجدد رحمه الله للإنسان هو تغيير النفس البشرية، تغيير ينطلق من وقفة مع الذات يطرح فيها أسئلة عن وجوده ومصيره، من أنا ومن أوجدني ولماذا ومِن أين وإلى أين؟ والإنسان إذا كان هذا حاله فإن الله يقيض له من ينتشله من غفلته، ويرفع الحجب عن حيرته، ثم يبدأ الإنسان في اقتحام عقبة النفس، ويهجر عاداته القديمة وصحبته الفاسدة وينتقل إلى صحبة المسجد ويبكي على خطاياه، فيأتيه التمحيص والابتلاء ليزداد إيمانا ورسوخا في الطريق، مصداقا لقوله تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) (العنكبوت). إنها عقبات يلزم المرء اقتحامها. هذه العقبات كما يصورها الإمام هي شيطنة النفس، وشيطنة الوسواس الخناس من الجنة والناس، وفتنة الدنيا، تشكل مجتمِعةً عقبة في أنفس البشر وفي آفاق الكون) 2 .

لكن اقتحام هذه العقبات يستلزم مشقة ويستوجب ثمنا يلزم العبد أن يؤديه ليستكمل فضائل النفس ويرتقي في مدارج الإيمان ومراقي الاحسان، هذه المصاعب التي يواجهها هي ما سماها الإمام مدرسة الشدائد) يقول: لا بد من مرور كل مومن من مدرسة الشدائد، يتربى فيها تربية تمكنه من الانقطاع عن ماضيه، وحاضره، ومألوفه، وراحته، وعلاقته بكل ما يشده إلى الأرض وشهواتها، ليرتبط بموعود الله، ولتملأ جوانحه محبة الله، والشوق إلى لقائه. فيهون عليه الموت، ويهون عليه من دونها بذل المال والجهد. من هذه المدرسة مَرَّ المهاجرون والأنصار أفرادا. حتى إذا آنَ أن يتجمع منهم جند الجهاد، تجسدت فيهم تلك التربية، وهي روح الجماعة، تنظيما مرصوصا لا يُقاوَم) 3 .

ومن العقبات التي تقف في وجه التائب إلى الله ما يلاقيه من معارضة في محيطه الأسري والاجتماعي، وغربته بين أهله، يقول الإمام رحمه الله: سيبدو تصالحنا مع خالقنا خيانة في نظر معارفنا الذين تعودوا من قبل على رؤيتنا بمظهر آخر مختلف عن مظهر رجل أو امرأة أنابا إلى الله. لا بد أن نتوقع معارضة ضارية من أصدقائنا القدامى الباقين على عادات اللهو والتشتت لمبادرتنا إلى هجر صفوفهم.) 4 ويؤكد رحمه الله أن ثمن اقتحام هذه العقبات مكلف ويحتاج إلى الصبر والتضحية لذا يؤكد مرة أخرى: أخي الرجل! أختي المرأة! إنني هنا أرسم خط المعاناة النفسانية والاجتماعية الذي سيتبعه كل مرشح للسلوك إلى الله. وأؤكد أن أول خطوة نحو الله مكلفة. لذلك لا تنتظر مني -إذا لم تكن قادرا على دفع الثمن- أن أقترح عليك تعريفة مُخَفَّضَة. إذا لم تستطع أن تواجه وتقتحم العقبات نحو هدفك دون أن تعير أي اهتمام للأذى والمعاناة فلتبك على تفاهتك، ولتكتف بحياة خاملة باهتة لا يعكر صفوها كدر. لقد عرضت عليك النموذج الثابت لشجاعة الأنبياء وصحابتهم، نموذجاً ستتعرف عليه في القرآن، نموذجاً يصفه لك القرآن ويعيد الوصف ليبلو حقيقة إيمانك وليثبتك. وبعد أن تجتاز وحدك امتحان الفراق لا بد لك من لقاء. لا بد أن تتجه نحو صحبة أخرى تتخذ لك مكانا بينها. لا بد أن تتكيف مع وسط آخر يتبناك. لا بديل لك حينئذ عن صحبة روحية) 5 .

إن تغيير النفس البشرية هو أعظم تغيير يحدث في عالم الناس، ولا تتغير حياة الناس إلا بتغيير يحدثونه في أنفسهم، لقوله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (سورة الرعد: 11). وإحداث التغيير في النفس البشرية هو الأمر الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحدث تغييرا عميقا في جذور التاريخ، وقد اصطلح الإمام على التغيير النفسي بـالقوة الذاتية)، واعتبرها عاملا حاسما في تنزل النصر وتحقيق معاني الاستخلاف. وهذه القوة الذاتية هي الكفيلة باقتحام العقبات ودفع ثمن الاقتحام والتغيير، يقول رحمه الله: أقصد بالقوة الذاتية قوة الإيمان الفاعلة المعزَّزَة بأخلاق الإيمان وإرادة الإيمان المتوجهة الوجهة المرضية عند الله، الواعية بصعوبة الطريق السعادي ووعورتها وعقباتها، السخية بالمال والنفس تبذلهما ثمنا بخسا لجزاء الغرفة والتحية والسلام والنظر إلى وجه الله الكريم) 6 .

إن مجاهدة النفس تستدعي أن يبذل المسلم كل ما يملك ثمنا لإعلاء كلمة الحق ونصرة دينه، ولن تستطيع الأمة أن تقوم بأي تغيير ما لم تتجه نحو بناء الإنسان وصناعته وفق النموذج النبوي الراشدي، ولن تحارب غثائيتها ما لم تحارب في نفوس أبنائها مرض حب الدنيا وكراهية الموت)، وما لم يبذل الفرد المومن كل ما يملك ثمنا لنيل رضى الله تعالى. وقد تحدث الإمام طويلا عن الثمن الذي ينبغي لكل مسلم أن يقدمه دفاعا عن دينه وانتصارا على نفسه وذاته: وتبلغ رياضة المجاهد نفسه وهو يجاهد العدو الخارجي أن يُرغِمها على ترك المال والأهل والوطن جملة. تبلغ أن يودِّع الأهل والولدَ وداع من لا يرجع. تبلغ أن يواجه الأسنة والسيوف، وفي زماننا المدافع والدبابات، بنية من ينصب جسمه وقوته وحياته حصنا يحمي حمى الأمة، وهو حِمى الله، وفداء لتحيى أمة رسول الله، وثمنا مقدما في صفقة)إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى (سورة التوبة، الآية: 112،) ووفاء بمبايعة)إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ (سورة الفتح، الآية: 10)، وهي مبايعة قابلة للتجديد إلى يوم القيامة، كما هي الصفقة الإلهية مفتوحة ما دامت الدنيا. علوُّ المعاملة مع الله عز وجل في صورة الصفقة، وعلو المعاملة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد المبايعة يضمنها القرآن، وهو كتاب جهاد في كل سوره) 7 .

إن خلاصة ما يدعو إليه المجدد أن السلوك الفردي إلى الله يواجه بعقبات لا بد من اقتحامها، وأن الذي ينجح في دفع الثمن من أجل هذا التغيير هو المرشح للجندية في جماعة المسلمين، وأن مجاهدة النفس لمما تفنى فيه الأعمار ويستحق أن تدفع فيه أغلى الأثمان لأن الطلب غالي وما عند الله خير وأبقى.

ثمن التغيير لدى الأمة

إن تغيير ما بالأمة اليوم يحتاج إلى تعمق في سنن التغيير وفهم واسع لواقع الناس وتبصر بآيات الله في الأنفس والآفاق واستيعاب لخطاب الله تعالى ومدلولات الشرع الحنيف كتابا وسنة، وإن الأمة الإسلامية وهي تحاول النهوض من تخلفها وتسعى للوصول إلى قيادة الحضارة تغفل أمورا كثيرة منها أن أي تغيير تبذل فيه الجهود يكلل بالنجاح إذا أدى عليه أصحابه الثمن، لذا يقول الإمام رحمه الله: نقول إن واجب الدعاة أن يربوا وينظموا ويزحفوا. ولكن لا بد من دفع الثمن والتربية بالمواقف الناصعة. فلعل مجاهدا مثل سيد قطب رحمه الله كانت شهادته في سبيل الله أكبر مساهمة في دفع قضية المسلمين إلى النصر بفضل نعمة الله عليه بذلك الموقف الاستشهادي. كان يقول رحمه الله ما معناه: “أعمالنا دمى لا تسري فيها الحياة إلا بدمائنا”) 8 .

يحدد الإمام المجدد رحمة الله عليه مسلك هدم قواعد الاستبداد الذي يكون بإعلان الموقف الصريح والشجاع، وإشهار كلمة حق، وبذل ثمن الاعداد واكتساب القوة لمجابهة الطغيان والصبر الطويل على تربية الأمة، ويعطي من القرآن أمثلة واضحة على صبر الأنبياء ومجابهة أهل الباطل ، يقول: نوح عليه السلام قال لقومه:)فأجمعوا أمركم وشركاءكم. ثم لا يكن أمركم عليكم غمة. ثم اقضوا إلي ولا تنظرون (يونس 71) وقال هود عليه السلام لقومه:)فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. وقال شعيب لقومه:)ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل. سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب. وارتقبوا إني معكم رقيب (هود 93). وقال أنبياء الله مثل ذلك. وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم:)قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار (سورة الأنعام، الآية: 135) فنزل صلى الله عليه وسلم إلى بطحاء مكة وأعلن أن لا إله إلا الله، وسفه الطاغوت، وأوذي، وعزاه الله عز وجل بقوله:)ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا (سورة الأنعام، الآية: 34).)اعملوا على مكانتكم. اعملوا ما في وسعكم ووسائلكم. هذه كلمة من وطد نفسه على اقتحام العقبة، ووثق بالله وباع نفسه وماله لله) 9 .

وحين يتحدث عن جماعة الصحابة يبرز لنا المثال الحي لتلك الجماعة المجاهدة القائمة لنصرة دين الله، ويكشف عن تلك الصورة الناصعة من تاريخ المسلمين حيث الإيثار والبذل والتضحية والفداء يبرز في ساحات الجهاد ثمنا لنيل رضى الله. ويصف مبايعة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة بقوله: كانت مبايعة جامعة مانعة: الطاعة لله ورسوله التي تتفرع فتغطي المجالات الاقتصادية والاجتماعية والحربية والسياسية. كل لا يتجزأ، رمزُ كليته أن تقاتل فتموتَ وتذهبَ كلُّك فداء لدينك. إنها بيعة صفق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيدي الأنصار، ويد الله فوق أيديهم. صفقة بمقتضاها اشترى الله تعالى وباع العبد وشهد النبي. صفقة بضاعتها الجنة ضمنها النبي، وثمنها الأنفس والأموال جميعا مُسْتغْرَقَةً بلا تحفظ. والمومنون مسؤولون عن دفع الثمن مسؤولية جماعية تسمى في الفقه الجهادي للقرآن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر) 10 .

فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تكن خاصة بالأفراد بأعيانهم، إنما تشمل كل الأمة، وقد أخطأ من زعم أن تغيير المنكر يكون خاصا بالعلماء أو الحكام، وإلا ففيما لعن الله جماعة بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام؟ إن هذه الفريضة تقتضي صبرا وتحملا وتستوجب ثمنا يؤدى، وقد جاء في وصايا لقمان لابنه يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك. إن ذلك من عزم الامور (لقمان 17) ما يؤكد أن تغيير المنكر يقتضي تحمل الأذى والصبر على ما تأتي به العواقب من ثمن يؤدى. وأكثر من يدفع ثمن التغيير هي الطليعة المجاهدة، أولئك الذين يتصدون لمهمة تغيير المنكر الاكبر، يقول رحمه الله: نحن طريقنا الطليعي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكل اضطهاد في سبيل هذا الواجب ينال الطليعة أكبر دعاية لها وأصدقها.(…) والطليعة بحكم وظيفتها تمشي رائدة على أرض العدو. فهي معرضة للإفك والتشكيك. وقد يبلغ فساد البيئة وغرابة الصادقين بين أهل الكذب والرياء والنفاق والتهريج أن يصور الأعداء معروفنا منكرا) 11 .

ولن يقوم بهذه الفريضة إلا المومنون المتعاونون وقد اعتبرها الإمام رحمه الله من الأعمال التي تحتاج الى تعاون وتعاضد، يقول: إن الله عز وجل أمر المومنين أوامر وكلفهم تكليفا. من التكاليف ما هو منوط بذمة الفرد كالصلاة والصيام، ومنها ما لا يمكن القيام به إلا بتعاون جماعة المومنين، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله) 12 .

وإن أكبر منكر يجثم على صدور الأمة منذ العهد الراشدي معضلة الحكم الفاسد ولذا فإن الإمام رحمه الله يحرم السكوت عن هذا مهما أدت الأمة من ثمن، يقول: يحرم علينا السكوت والرضى وطاعة من يعصون الله. وإنه الثمن يؤدى. وإن لمن أداه رضوان الله عز وجل، روى أبو نعيم في “دلائل النبوة” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:)“”ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار. ألا إن كتاب الله والسلطان سيختلفان، فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يرضون لأنفسهم ما لا يرضون لكم، إن أطعتموهم أضلوكم. وإن عصيتموهم قتلوكم” قالوا: “وما نفعل يا رسول الله؟” قال: “كما فعل أصحاب موسى، حملوا على الخشب، ونشروا بالمناشير. فوالذي نفس محمد بيده، لموت في طاعة خير من حياة في معصية”” 13 .

كما أن تغيير هذا الفساد وهذا الاستبداد المستشري في الأمة اليوم يحتاج إلى بذل وتضحية وثمن، وهو السؤال الذي طرحه في التنوير: لكن من يُفهم الشعب أن التحول من حكم عاهر فاجر إلى حكم إسلامي طاهر له ثمن؟ من يقوم بتوعية الناس أن المشاركة في إقامة دين الله تقتضي صبرا على انخفاض مستوى المعيشة، وتحملا لضيق طارئ، وتجرعا جماعيا لكأس مُرَّة مرحلية؟) 14 .

ويبرز رحمه الله أن الطريق نحو التغيير وبناء الدولة وتحقيق الرخاء محفوفة بالمخاطر، ويقرر القاعدة الكونية السنية بأنه لا تغيير بدون ثمن، يؤكد هذا المعنى بقوله: ولن يأتي الرخاء بدون ثمن، كما أن القومة نفسها لن تبرز من عالم الآمال لعالم الأحداث بدون ثمن. في ركب واحد، في موكب الفضل، يتحلى الشهداء بدمائهم والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس بصدقهم. وإنها لمعركة شديدة نحو الرخاء لابد للأمة جميعا من خوضها) 15 .

وهو إذ يعتبر أن ثمن التغيير لا بد أن تقدمه الانفس المتطلعة إلى ما عند الله يؤكد أن هذا التغيير المنشود يجب أن ينطلق من قناعتنا وديننا وينبع من جذورنا، وما ينبغي أن نضحي من أجل إقامة دولة لائكية أو مستنسخة من غير بيئتنا، إنما ندفع الثمن ونحن موقنون أنه في سبيل إقامة دين الله ونرجو بذلك وجه الله والظفر بإحدى الحسنيين، لذا فالإمام يتساءل: ما هو ثمن التحرر من التبعية، وثمن التنمية، وثمن اكتساب القوة؟) (…) ويقول: اقتراحنا: لا قوة ترجى ولا تنمية ولا تحرر، بل ولا استمرار لوجودنا على خارطة المجتمعات المتحضرة إن نحن قطعنا جذورنا، وبترنا كياننا، واستأصلنا جرثومة الحياة فينا. فهو إما “جماعة المسلمين” بعدل وشورى، وإما انصهار في عداد المنصهرين، لا اسم لنا هناك ولا رسم.)إما اندماج في مد التيار التاريخي وانصياع وفناء، وإما توكل على الله عز وجل وعزة به وبدينه عزة ترسم على جباه لا تنحني لغير جلاله، وتَسِمُ وجوها لا تعنو لغير الحي القيوم. ولا سبيل لعزة إلا بالإسلام العامل على سنن الخالق البارئ القادر سبحانه، وهو سبحانه سن في تاريخ البشر التدافع والجهاد والعاقبة الحسنة لمن تقوى بالإيمان والصبر والقيام والمقاومة لا الاستخذاء والهزيمة والانصهار في ذات التيار الجارف) 16 .

خلاصة

إن التغيير الذي يؤسس له الإمام رحمه الله ينطلق من الإنسان الذي يعتبر لبنة أساسية في أي تغيير، ولن يتم ذلك بدون التربية والعلم وبذل الثمن والتضحية لتحقيق الغايات المرجوة، فإذا كانت للمومن غايتان يصبو إلى تحقيقهما وهما الغاية الإحسانية والغاية الاستخلافية، فلا بد أن يصبر على كل العقبات التي تعترض طريقه، وإنه الثمن يؤدى على كل حال، حتى الإنسان الذي لا يطمح إلى التغيير ولم تحدثه نفسه بذلك فهو يدفع الثمن، كما أن الأمة بسكوتها عن الحق وتغيير المنكر فإنها تدفع الثمن. وما لم تكن للمؤمنين عزمة على الجهاد وبذل الثمن لنصرة الحق ومجابهة الظلم والطغيان فإنهم سيعيشون أبد الدهر تحت نير الظلم والهوان. ومتى كان لنا جيل ترخص عليه نفسه في سبيل الله، ويعطي ماله في سبيله سبحانه لا يحسب، متى كان لنا جماعة وطد أعضاؤها عزمهم على السفر إلى الله تعالى مهما كان ثمن الرحلة فما ظهور الإسلام على الدين كله يومئذ ببعيد) 17 .

وإن الصحب الكرام والآل عليهم السلام لم يختاروا المهادنة مع الباطل أو المراوغة لأهل النفاق مهما كان الثمن، لم يفرغوا الساحة لأصحاب الأهواء ولم يستسلموا للعقبات النفسية والاجتماعية، ولم يراهنوا على الآخر في إحداث التغيير، ولم يعلقوا أخطاءهم على المؤامرة والمحيط الدولي، يقول رحمه الله: ما سكتوا بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه!)ما تخفوا وما فضلوا الطريق السهل والمهادنة والمراوغة. بل دفعوا الثمن، واعتمدوا على الله الذي وعد رسوله النصر. ما خرج أولئك الأسود من أجحار الثعالب وجمعيات المهادنة!) 18 .

يؤكد الإمام فيما ينبغي أن تجابهه الطليعة المجاهدة وهي في مواجهة التغيير، أن تجند كل الأمة ولا تستفرد بثقل السنين من فساد حكام العض والجبر، ويكون الصدق هو العنوان في أي شعار، يقول في ذلك: إنما نصدق الأمة ونخبرها بصدق أن ثمن إقامة الإسلام صبر طويل، وعمل دائب، ومشاركة في الهم، وضم الصفوف، وربط البطون، والانفطام المرير عن الأنانيات والذهنيات والعادات. لن نخدر الأمة إن شاء الله بالخطب الغوغائية، بل نوجه إليها نداء الجهاد ونندبها إلى ساحة البذل والصبر) 19 .

إن الأمة التي لا تستطيع أن تدفع ثمن التضحية والبذل والجهاد ستدفع بالمقابل ثمن الهوان والذل والتبعية للأقوياء والاستخذاء أمام الجبابرة، وإن سلعة الله غالية، سلعته الجنة ثم النظر إلى وجهه الكريم لهو أكبر غاية وأعظمها، ألا يستحق أن تبذل من أجل ذلك الأرواح والأموال وتسترخص كل الأثمان.

وختاما إن نظرية التغيير عند الإمام المجدد رحمه الله لن تفهم إلا في شموليتها وتفاصيلها وجزئياتها، وإن الثمن الذي ينبغي أن يدفعه جند الله يعد من الركائز التي تقوم عليها الدعوة وكذا بناء الدولة، وإذا ما قوبل هذا الثمن بالغاية والمطلب الأسمى المرجو عند الله فإنه سيبدو زهيدا ورخيصا. ومن عرف ما طلب هان عليه ما وجد كما يقول أهل التربية. نسأل الله العظيم أن يلهمنا التوفيق والسداد ويجنبنا الزيغ والتحريف. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

المراجع

القرآن الكريم

ياسين عبد السلام، الإحسان، مطبوعات الأفق، ج1، الطبعة الاولى،1998م.

ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، الطبعة 1، 2010م، دار لبنان للطباعة والنشر.

ياسين عبد السلام، الإسلام والحداثة، مطبوعات الهلال وجدة، الطبعة الأولى، 2009م.

ياسين عبد السلام، تنوير المومنات ج1 ، الطبعة الأولى، 1996م .

ياسين عبد السلام، الإحسان، ج2، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، 1998م.

ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الطبعة الثانية، 1989م.

ياسين عبد السلام، العدل، الإسلاميون والحكم، مطبوعات الصفاء للإنتاج، ط1،2000م .

ياسين عبد السلام، في الاقتصاد، البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، ط1، 1995م.

ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، الدار البيضاء، مطبوعات الأفق، ط1، 1994م.


[1] ياسين عبد السلام، الإحسان، مطبوعات الأفق، ج1، الطبعة الاولى، 1998م، ص22.\
[2] ياسين عبد السلام، الاحسان، ج1، ص 94.\
[3] ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، الطبعة 1، 2010م، دار لبنان للطباعة والنشر ص 74.\
[4] ياسين عبد السلام، الاسلام والحداثة، مطبوعات الهلال وجدة، الطبعة الاولى، 2009م، ص 230.\
[5] ياسين عبد السلام، الاسلام والحداثة، ص230.\
[6] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات ج1، الطبعة الأولى، 1996م، ص 15.\
[7] ياسين عبد السلام، الإحسان، ج2، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، 1998م. ص455.\
[8] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الطبعة الثانية، 1989م، ص 25.\
[9] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي ص 24/25.\
[10] ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة ص 92/93.\
[11] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي ص 180.\
[12] ياسين عبد السلام، العدل، الإسلاميون والحكم، مطبوعات الصفاء للإنتاج، ط1، 2000م ص76.\
[13] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي ص 27/28.\
[14] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات ج1، ص 333.\
[15] ياسين عبد السلام، في الاقتصاد، البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، ط1، 1995م.ص 204.\
[16] ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، الدار البيضاء، مطبوعات الأفق، ط1، 1994م، ص 72/73.\
[17] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي ص 200.\
[18] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي ص 301.\
[19] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي ص 307.\