ثلاث قيم عليا للعمران الأخوي

Cover Image for ثلاث قيم عليا للعمران الأخوي
نشر بتاريخ

1ـ تقديم

يُعَبِّر مفهوم العمران الأخوي عن رؤية الإمام عبد السلام ياسين ومشروعه للبناء الحضاري المستقبلي لأمة الإسلام. وقد ابتكر هذا المفهوم لأصالته ولقابليته للتعبير عن نمط القيم التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي في فاعليته وعلاقاته الداخلية والخارجية. فهو يختلف عن مفهوم الحضارة ويتميز عنه لاختلاف المشارب والغايات، وهو ما يوضحه بقوله: “أستعمل «عمران» ولا أستعمل «حضارة» حرصا على ألا تختلط المفاهيم على قاصدين مسلمين سِكَّتُهم إلى المستقبل الدنيوي والأخروي يجب أن تكون واضحة” 1. ومرد انتقاد الإمام لمفهوم الحضارة إلى منبت هذا الأخير وقصوره عن حمل المعنى الشامل والكلي للاجتماع الإسلامي بِسَمْتِه وأخلاقه وغاياته ووسائله وخصوصية الوشائج التي تربط بين أعضائه. ويشرح الإمام موقفه من هذا المفهوم بقوله: “فكلمة «حضارة» يترجم بها العربي الكلمة الفرنجية «سفلزسيون» التي تكسوها الأنفس الـمُعجبَة بزينة الدنيا وبَهْرَجِها حلة من الهيبة والجلال. ومدلولها ماديٌّ دنيوي محض. لا تُنْبئ عن شيء من معنى الإنسان ومصيره. لا تنبئ عن البعث والجزاء والخلود في الدار الآخرة. فهي خِداجٌ” 2.

وتعد القيم لحمة أي اجتماع بشري وركائزه التي يبنى عليها وتوجه غاياته وتحدد وسائل فاعليته ونظام العلاقات التي تحكمه. لذلك اعتبر الإمام أن العمران الأخوي يستمد قيمه ومرجعه بالأساس من القرآن الكريم والسنة النبوية بأبعادهما الكلية، نصا ومعنى وروحا ومبنى، يقول: “في مجتمع العمران الأخوي المنشود، المسبوق بتربية وتزكية وتعليم، يستنبط المسلمون دستور سلوكهم فيما بينهم وعهود تعاملهم مع الخَلْق الدولي، والخلق الطبيعي، والبيئة المشتركة، من القرآن كل القرآن، ومن السنة كل السنة” 3. لأجل ذلك يتميز النظام القيمي لمجتمع العمران الأخوي عن غيره من أنماط الاجتماع البشري الأخرى ذات المرجعيات الإيديولوجية المختلفة، ليس فقط في طبيعة القيم بل في أساسها وروحها وفاعليتها أيضا. وسنقتصر في هذه المقالة المركزة على ذكر ثلاث قيم عليا تؤطر نمط العمران الذي ارتضاه الإمام ياسين ونظر له واعتبره قمينا بتحقيق غايات الإسلام ومقاصده من الحياة البشرية والعلاقات الإنسانية وهذه القيم هي الإخاء والتكافل والعدل.

2ـ الأخوة

رفعت بعض الأنماط الحضارية البشرية المعاصرة شعار الأخوة واعتمدته مبدأ مؤسسا لها وعنوانا لهويتها الحضارية وتعبيرا عن رؤيتها للعلاقات الرابطة بين أبنائها، وما شعار الثورة الفرنسية (أخوة وعدالة ومساواة) عنا ببعيد، لكن شتان بين الشعار والواقع. أما الإسلام فقد اعتبر أن التجلي الحقيقي للرابطة الشرعية بين أبناء المجتمع الإسلامي المنضبطين بتعاليمه هي الأخوة، يقول تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أُخْوَةٌ (سورة الحجرات، الآية 10). ورتب على هذه العلاقة حقوقا وواجبات تُجسدها في الواقع الإنساني وترتفع بها من مستوى الشعار إل مستوى التجلي الواقعي، يقول النبي صل الله عليه وسلم: “المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ” 4. ويقول عليه أفضل الصلاة والسلام: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه. من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فَرّج عن مسلم كُربة فرج الله عنه بها كُربة من كُرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” (حديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما). بناء عليه اعتبر الإمام عبد السلام ياسين أن القيمة العليا الأولى للعمران الإسلامي هي الأخوة لذلك سماه عمرانا أخويا، يقول: “في المجتمع الإسلامي تكون القاعدة هي الرحمة والمحبة والأخوة والعطاء” 5، وهي “أخُوة بين مسلمين تضُمُّ إليها التائبين في أمان وخدمة متبادلة ورحمة وعفو وستر” 6.

وأكد الإمام أن مبدأ الأخوة الذي أقره الإسلام يشمل نوعين من الإخاء ويضمها، إخاء إنساني يعم الخلق أجمعين وإخاء إيماني خاص بأبناء أمة الإسلام، وتترتب على النمطين حقوق يحترمها المجتمع وواجبات تقع مسؤوليتها على كاهل الأفراد. ففي “المجتمع الأخوي الإسلامي يتعايش المؤمنون المحسنون والمسلمون والناس أجمعون في ظل دين يقرر ويعلم ويربي على أن لا خير إلا خير الآخرة” 7. ويشرح قصده بوضوح أكبر بقوله: “وأقصد بكون العمران أخويا احتضانه الأخوة الموصوفة في الشـرع بين المسلمين والمؤمنين، المأمورَ بها من قِبَله. عمران العدل والإحسان ينبغي أن يبسُط للأخوة بين التائبين المتحررين من سياق الحضارة المادية والقانون الوضعي والمعَاشِ الغابوي بِساط الرحمة. قال الله تعالى يوجه تعاملنا مع من جاء من شرك لإسلام: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ (سورة التوبة، الآية 11)” 8. ثم يضيف: “هذا التأليف القلبي بين المؤمنين، وتلك الأخوَّة الحانية الخادمة العادلة المحسنة بين المسلمين هما المِيزتان الظاهرتان، يراهما المراقب من خارج ويعيشهما العضو الحامل والمشارك” 9.

3ـ التكافل

يعد التكافل مبدأ أصيلا في دين الإسلام ودعامة أساسية من دعائم الاجتماع الإسلامي، ويستند هذا المبدأ إلى قاعدة شرعية مهمة هي الولاية بين المؤمنين، يقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة التوبة، الآية 71). ويقصد بالتكافل في معناه العام تضامن أبناء المجتمع الواحد والتزامهم الطوعي بمساعدة بعضهم بعضا خاصة ذوي الحاجة منهم والضرورة وتوفير متطلبات العيش الكريم لهم. ويكتسي هذا المبدأ بُعدا ماديا مرتبطا بالمال والخدمات وبعدا عاطفيا ونفسيا مجسدا في تبادل مشاعر الفرح والحزن حسب الظروف والملابسات. وقد أشاد القرآن الكريم بمن تحققت فيهم خصلة التكافل في المرحلة الأولى من مراحل بناء صرح المجتمع الإسلامي وهم الأنصار الذي ضربوا أروع الأمثلة في التنافس في هذا الخلق الرفيع فقال تعالى مُنوِّها بهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة الحشر الآية 9).

ويؤكد الإمام عبد السلام ياسين على أهمية قيمة التكافل في العمران الأخوي بقوله: “التأليف الاجتماعي في العمران الأخوي تأليف عضوي تندمج فيه المصلحة الفردية في الصلاح العام، ويعود فيه الصلاح العام على الفرد بكل ما يصون أخوته من عوادي الزمان” 10. بل إنه يُشدِّدُ على أن هذه القيمة تمثل ضرورة آنية ومستقبلية بسبب التراكمات السيئة لسياسات العلو في الأرض والاستئثار بالخيرات والثروات وتفقير عموم أبناء البشرية واستضعافهم، يقول رحمه الله: “من أرض البأساء يتطلع المستضعفون إلى رحمة يأتي بها إن شاء الله المقتحمون للعقبة: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (سورة البلد، الآيات 16-12). يتطلعون إلى تكافل اجتماعي، إلى أخوة باذلة، حانية، محبة، تأسو الجراح وتُطلق السراح. شرع لنا القرآن الكريم هذا التكافل بقوله جل وعلا: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (سورة النساء، الآية 36)” 11. غير أن الإمام نَصَّ أيضا على أن التكافل الحقيقي لا يكون بمجرد مشاعر التضامن كما أنه ليس من ترف الفعل بل هو سياسة اجتماعية يلزم أن تخطط لها الدولة ويساهم فيها المجتمع ويراقبها. فلم “يَكِل الشرع المقدس مسألة التضامن في حضن الإسلام لِعواطف التراحم والتواد والتعاطف هكذا مُطلقةً، فالدنيا الشاغلة قد تُنسـي الحقوق التي ليس وراءَها طالب. لذلك فرض الله عز وجل حدا أدنى من التضامن هو الزكاة. وشدد في فَرْضِيَّتِهِ، وجعل أداءه ركنا من أركان الإسلام، أوعَد من ضيعه بخزي الآخرة، وأسند إلى الدولة الإسلامية واجب مراقبته وأخذه واقتضائه والمعاقبة الشديدة لمن أضاعه أو منعه أو جحده” 12. وبما أن الزكاة من أأكد أركان الدين فقد شرعها الله تعالى لتحقيق التكافل الاجتماعي وإعطائه بعدا واقعيا وتأثيرا فعليا في حياة الناس. لكن التعاطي معها في مجتمع العمران الأخوي ينبغي أن يتم تجديده جمعا وتوظيفا. “فالزكاة في ظل الخلافة الثانية إن شاء الله ينبغي أن تتجدد حيويتها، ويتوسع نطاقُها، وأن تستخلص من خصوصية الفريضة الفردية الاختيارية التي يؤتيها أو يمنعها من يشاء لتصبح واجبا عاما، وسياسة للدولة، ومصدرا للمال قارا” 13.

ولا ينحصر التكافل في شرع الله في الزكاة الواجبة وحدها بل يتسع نطاقه لما سمي بالتطوع العام وبذل كل ما يستطيع المسلم بذله تقربا لله عز وجل وتجسيدا لمبدأ الولاية بين المسلمين. فعن أَبي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفر مَعَ اَلنبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُل عَلَى رَاحِلَة لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْل مِن زَاد فَليَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ، قَالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ اَلْمَالِ مَا ذَكَر ، حَتّى رَأَيْنَا أَنَهُ لا حقَّ لأَحَدٍ منا فِي فَضْل” (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه” (رواه البخاري في الأدب المفرد). كما ورد عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين». وروي عن الإمام علي كرم الله وجهه أنه قال: «إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم. فإن جاعوا أو عَرُوا وجَهِدوا فبمنع الأغنياء. وحقٌّ على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه». ويعقِّب الإمام ياسين على هذه النقول بقوله: “ما أحرى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في بذل الفضول وعزمة عمر وتثقيل الإمام علي مسؤولية الأغنياء أن تكون لنا دليلا عملياً لنذَوِّبَ بالتدريج الفوارق الطبقية البغيضة بين الأغنياء والفقراء، في دار الإسلام وفي العالم!” 14.  لكن التوسع في الإنفاق لتحقيق التكافل المرجو يتوقف على إيقاظ الإيمان في قلوب المسلمين الذي به وحده يحصل التغيير المنشود في الأنفس والآفاق. وهذا ما يركز عليه الإمام بقوله: “بطرحنا كيف نوقظ الإيمان ليدخل في القلوب ويحيِيَها نطرح إشكالية كيف ننتقل من منطق الأنانية الفردية إلى مجتمع المحبة والتطوع والعطاء والرخاء والعدل والإحسان. بكل معاني الإحسان. وبكل معاني العدل. لا إحسان بدون عدل. ولا عدل في العالم إلا على يد المحسنين. يقول الله عز وجل في تعريف البِر والدلالة على طريق «التوسـع في فعل الخير»: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللِه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (سورة البقرة، الآية 176)15.

لكن قيمة التكافل ليس الغرض منها إنتاج مجتمع العاهات والتسول والتواكل وبالتالي تعميق التخلف واستدامة الفقر وإنتاج التفاوتات الطبقية وتكريسها، بل على العكس من ذلك الهدف هو المساعدة على القضاء عليها واستئصالها وتحرير أبناء المجتمع من براثنها. وهو ما يشير إليه الإمام بقوله: “هذه الدعوة الـمُلحة المفصَّلة إلى كفالة المسلم وصيانة حرمته حيا وحفظ عهده ميتا لا تريد للمسلم أن يكون مكفولا عالة على المجتمع خاملا يمد اليد ليتلقى الصدقات. بل تريده نشطا منتجا ليكونَ هو المعطِيَ المقدِّمَ لآخرتهِ لا السائِلَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليدُ العليا خير من اليد السفلى. وابدأ بِمَن تعولُ. وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً. ومن يستعِفَّ يُعِفَّه الله. ومن يستَغْنِ يُغنِه الله». رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه” 16.

4ـ العدل

يولي الإمام المجدد أهمية قصوى لمفهوم العدل فهو ركيزة أساس من ركائز مشروعه التجديدي باعتباره مبدأً راسخا في الدين وقيمة عليا للاجتماع الإسلامي بل الإنساني. فالعدل هو “أم المصالح التي يقصد إليها الشرع. هو صُلب الدين، وحوله تُطيفُ همومُ المسلمين” 17، وهو “بمعناه الشامل.. الاستقامة في حقوق الله وفي حقوق العباد. فرضٌ أكيدٌ به بعث الله الرسل يدعـون إليه. وأنزلَ معهم الكتاب والبينات تؤكد الدعـوة وتلح عليها. وأنزل بأس الحديد المتمثلَ في وازع السلطان ليُفرَض العدل بقوة الدولة إن استهان الناسُ بصوت الدعوة” 18. والعدل أيضا “عماد العمران، أخويا كان أو مدنيا قانونيا” 19. فالمجتمع العادل هو مهوى الأفئدة ومطمع الناس أجمعين خاصة المستضعفين منهم الذين طالما تجرعوا مرارة الظلم والحيف وغياب النصفة وانتهاك الحقوق والحرمات. فحين يوفق المسلمون لبناء مجتمع الإخاء والعدل فإن ذلك سيكون أعظم خدمة لدينهم ودنياهم وأصدق دعوة لقيمه وتعاليمه، “فمما يرغِّب الإنسانية في الإسلام أن ترى يوما مجتمعا أخويا قام بالإسلام فاضمحل فيه الظلم وتلاشت الطبقية وحوصرت أسبابها” 20. لذلك أكد الإمام أن “العدل المنشود من الإسلاميين يوم يتسلمون مقاليد السلطـان هو عدل يستقر به المجتمع، وتتظافر به الجهود، وتتوحد عليه الأهـداف، وتسخر له الوسائل” 21.

وقد اعتبر الإمام أن إقامة العدل ينبغي أن يتم على مستويين مستوى الحكم ومستوى قسمة الأرزاق، فهما “عدلان متلازمان: عدل الحكم وعدل القسمة” 22. وهما مطلبان شرعيان ضروريان لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر، “فكلا الكلمتين تدل على التسوية بين طرفين. لكن نخصص لنلح على أن القسمة العادلة للمال والأرزاق مطلب شرعي لا يقل أهمية عن مطلب العدل الحكمي والقضائي” 23. غير أن الإمام في سعيه للتدقيق الاصطلاحي يميز بين كلمة العدل ولفظة القسط، فالأولى يخصصها للحكم والقضاء أما الثانية فترتبط عنده بالإنصاف في القسمة، ويبرر هذا التخصيص 24 بقوله: “لكيلا يختلط حديثنا عن العدل الحكمي والعدل الاجتماعي الاقتصادي” 25. ثم إن “عدل الحاكم في أحكامه عمادُ السلطان الشوريِّ وشرطُه. قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ (سورة النساء الآية58) وعدله في القسمة هدفه الأول، وأمرُه اليومي، وواجبـه الدائم. قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (سورة النحل الآية 90)” 26. ولا يمكن تصور قيام مجتمع العمران الأخوي دون إقامة العدل سواء على مستوى الحكم والقضاء أو على مستوى القسمة، لذلك “فلا مناصَ للدولة الإسلامية، وهي في طريقها إلى المجتمع الأخوي، من كسر الحواجز وإعادَة القسمة وفرض الإنصاف” 27، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر الأمة بقوله: “لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غيْرَ مُتَعْتَع” (رواه ابن ماجة بسند صحيح).

5ـ خاتمة

إن غاية العمران الأخوي؛ تحقيق الشروط الأساسية لاستقرار الحياة البشرية، من خلال إرساء دعائم الأخوة والتكافل والعدل وتوفير الأمن بمدلوله الشامل، في المعاش والأنفس والحياة الاجتماعية برمتها. وبطبيعة الحال لن يتم ذلك إلا إذا شاع السلم وانتفت العدوانية الطاغية على البشرية الآن وتقلص نفوذ الفردانية النابعة من عبادة الأنفس وتقديس الهوى. فالقيم الناظمة لمجتمع العمران الأخوي (الإخاء والتكافل والعدل) ترتفع به من كونه مجرد تجمع بشري نابع عن حاجات غريزية أو شهوات مصطنعة أو تنافس على البروز والهيمنة، إلى مستوى البناء الحضاري النموذجي الذي يمثل حلما طالما راود الفلاسفة في تأملاتهم وداعب أحلام المقهورين والباحثين الصادقين عن ملاذ يلجؤون إليه هربا من الحضارة المدمرة للروح والمعنى. لكن هذا العمران ليس غاية في ذاته إنما هو وسيلة عملية لتهيئة الظروف الملائمة ليرتقي الناس، والمسلمون في مقدمتهم، في علاقتهم بربهم من إسلام لإيمان فإحسان. ففي غياب الأمن والاستقرار وسيادة العدوانية والتفقير وما على شاكلته من سلوكيات؛ لا تتاح للإنسان الفرصة الملائمة لمعرفة ربه والتقرب إليه. لذلك كان العمران الأخوي مدخلا رئيسا وبيئة مناسبة للدعوة للتوبة وعبادة الله في كنف القيم العظمى لدين الله وفي ظل سيادة شرع الله.  


[1] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم ص 191.
[2] نفسه، ص 191.
[3] عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ص 60.
[4] رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه
[5] عبد السلام ياسين، الإحسان، الجزء الأول ص 358.
[6] العدل، ص 190.
[7] الإحسان، الجزء الأول ص 386.
[8] العدل، ص193.
[9] نفسه، ص 194.
[10] نفسه، ص 203.
[11] نفسه، ص 199.
[12] نفسه، ص 199.
[13] نفسه، ص 206.
[14] نفسه، ص 212.
[15] نفسه، ص 216.
[16] نفسه ص 218/219.
[17] نفسه، ص 221.
[18] نفسه، ص 221.
[19] نفسه، ص 222.
[20] الإحسان، الجزء الأول ص 434.
[21] نفسه، ص 223.
[22] المنهاج النبوي، ص 254.
[23] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص 190.
[24] يمكن الرجوع إلى المقالة التي كتبها الدكتور الحسن السلاسي رحمه الله بعنوان “العدل أساس العمران الأخوي” ونشره بموقع yassine.net.
[25] في الاقتصاد، ص 190.
[26] العدل، ص222.
[27] الإحسان، الجزء الثاني ص 149.