تَوْجِيهَات قُرْآنِية في الأدب مَعَ خَيْرِ البَرِيَّةِ (2)

Cover Image for تَوْجِيهَات قُرْآنِية في الأدب مَعَ خَيْرِ البَرِيَّةِ (2)
نشر بتاريخ

5- عدم رفع الصوت في حضرته

قال تعالى: يَأيُّها الذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ ولاَ تَجْهَرُوا له بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكم وأنْتُم لا تَشْعُرُون 1 . لما يكون رفع الصوت في الحديث فوق المعتاد مخلا بالآداب، فكيف به في حضرة خير البرية، فهنا القرآن يعلمنا أن نخفض الصوت والجناح أمام حضرته ونكلمه بأدب وخشوع وسكينة، فصوته صلى الله عليه وسلم هو الذي يجب أن يكون الأعلى، لأنه الأولى بالاستماع وبالاهتمام.

ونلاحظ هنا أن الله تعالى أعاد النداء للمؤمنين للاهتمام بهذا الآتي وهذا التوجيه وللإشعار بأنه غرض جدير بالتنبه واليقظة.

والرفع هنا مستعار لجهر الصوت جهراً متجاوزاً لمعتاد الكلام. ولا مفهوم لهذا الظرف وهو فوق صوت النبي، أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه، لا فإن المعنى التنبيه إلى آداب الاستماع وخفت الصوت في حضرته ويسري معه خفض الجناح والرأي والفكر وما إلى ذلك. لذا كان أبو بكر وعمر لا يكلمان رسول الله إلا همساً حتى يستفهمهما.

وعن أبي هريرة أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله).

وهذا الآدب جار وسار إلى يوم القيامة، فكما أننا مطالبون بخفض أصواتنا أمام حضرته فكذلك أمام سنته والاستماع إلى حديثه أو في مسجده أو أمام روضته الشريفه وكل ما له ارتباط به عليه الصلاة والسلام.

ولقد أنكر عمر رضي الله عنه على من رفع صوته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عن السائب بن يزيد قال: “كنت قائما في المسجد، فحصبني رجلٌ فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم” 2 .

ومن هنا لما جاء عروة ابن مسعود الثقفي ليصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن أدبهم معه قال فيما قال: وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيماً له).

ويزداد رقي أدبهم معه أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تطرق إلا بالأظافر، تجنباً لإيذائه أو التشويش عليه. عن أنس بن مالك قال: “أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافر” 3 .

وخاف من كان جوهري الصوت خِلقة على نفسه من الإساءة وحبوط العمل كثابت بن قيس حتى طمأنه رسول الله قائلا له: إنك لست من أهل النار إنك من أهل الجنة.

وفي هذا التنبيه القرآني إشارة إلى شيئين: رفع الصوت، والجهر عند النداء كالعادة. فأزال الله لهم هذا التوهم فقال ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أي لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا.

وأكد القرآن بقوله وأنتم لا تشعرون إلى تحذير المؤمنين على مغبة السقوط في الإساءة عن قصد أو غيره، وفي هذا تنبيه للمؤمن أن يتأدب ويتنبه أشد التنبه إزاء مخاطبته ومعاملته للنبي صلى الله عليه وسلم، فحسن الأدب معه ينبغي أن يصير سجية وخلقا راسخا في المومن لا يحيد عنه. لأن وراء هذا الخلق إيمان وحب، لذا قال تعالى: إنَّ الذينَ يغُضُّون أصْوَاتَهُم عندَ رسُولِ اللهِ أولئِكَ الذِينَ امتحنَ اللهُ قلُوبَهُم للتَّقوَى، لهُم مَّغْفِرَةٌ وأجْرٌ عظيم.

إن الله تعالى علمنا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الحجرات. هذا الأدب حرف لا معنى له، أم هو أدب من يريد الدخول على مقام النبوة ليعظم النبي من وراء الشخص البشري؟ قال تعالى: إنَّ الذينَ يغُضُّون أصْوَاتَهُم عندَ رسُولِ اللهِ أولئِكَ الذِينَ امتحنَ اللهُ قلُوبَهُم للتَّقوَى، لهُم مَّغْفِرَةٌ وأجْرٌ عظيم. من الناس من لم تُزَايلهم أعرابية الغلظة، فساء أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كسوء أدبهم مع بعضهم، والله عز وجل يقول: يَأيُّها الذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ ولاَ تَجْهَرُوا له بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكم وأنْتُم لا تَشْعُرُون. وقال سبحانه: ما كَانَ مُحَمَّدٌ أبَا أحَدٍ مِّنْ رِّجَالِكُم، وَلكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتمَ النَّبِيئِينَ. أما كفى هذا تمييزاً لمن يعقل؟

6- التأدب في ندائه صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاَ 4 .

الدعاء هنا بمعنى النداء. وهنا أمرين: إما أن يناديكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يلزمه الطاعة والامتثال والاستجابة، لقوله تعالى: يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.

والثاني: هو ندائكم للرسول، هنا يقف بنا القرآن ليرشدنا إلى كيفية النداء بألا نناديه كما ينادي بعضنا بعضا بالصوت الجوهري العالي أو بالاسم المجرد يا محمد.

لأن الجامع بين الرسول وأمته ليس أنه محمد، إنما الجامع أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذالك لا بد أن نتماشى مع أدب القرآن كلام الله، فقد اعتاد القرآن أن يخاطب الأنبياء بأسمائهم، ولكن كثر الخطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ب “يا أيها النبيء”، و”يا أيها الرسول”.

قال ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله.

قوم سلاحهم الشك والتشكيك يرونها ظاهرة شرك إن سيِّد في لفظ محمد صلى الله عليه وسلم، أو عظِّمَ في اللَّهجَةِ، أو سُكِبَتْ العَبْرَةُ حنيناً إليه، أولئك ما قرأوا أنه عبد يوحى إليه، وأنه سيد ولد آدم، وإنما هو عندهم عبد آدمي بلَّغ وانتهى وولَّى. نعوذ بالله من الخذلان) 5 .

7- استئذانه في الانصراف من مجلسه

قال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنُوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبُوا حتَّى يستأذنوه، إنَّ الذين يستأذنونك أولئك الذين يومنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رَّحيمٌ 6 .

الاستئذان هنا من علامة الإيمان لنعلم أن الأدب من صميم الإيمان وإساءة الأدب تنبئ عن قبح في النفس ومرض في القلب وعلة في الإيمان، وقديماً قالوا: غش القلوب يظهر من فلتات اللسان) أو من فلتات ردود الأفعال.

في مجالس الرسول تحضر السكينة والطمأنينة وتكون موضع تبليغ الوحي ونزول الرحمة ومثل هذه المجالس الإيمانية ينبغي أن تكون لها هيبة ووقار فالمجلس يتعاظم بقيمة صاحبه وجلسائه، وهنا يعلمنا القرآن هذا الأدب الراقي في الحضور وحسن الاستماع والتأدب مع المربي بأن لا أنصرف إلا لضرورة قصوى وباستئذان.

وصف الله الجالسين بالإيمان لينزعها عن الذين يسيئون الأدب ويتملَّصون وينسلون من الجنبات هربا من مجلسه صلى الله عليه وسلم. وكان هذا حال المنافقين الذين يخضرون وما يلبثوا أن ينصرفوا متسللين حتى فضحهم الله تعالى في قوله: قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الذينَ يَتَسَلَّلُون منكم لِوَاذاَ.

والتسلل هو الخروج بتدريج وخفية كأن يتزحزح من مكان لآخر حتى يخرج.

وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم: ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم 7 .

8- الصلاة عليه عند ذكر اسمه

وهذا من الأمر الواجب والأدب الراسخ الذي رسخه القرآن وأكد عليه وأمر به المومنين فقال سبحانه وتعالى: إن الله وملائكته يصلُّون على النبيء يأيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّمُوا تَسْلِيماً 8 .

فكان التشويق للمومنين بأن ابتدأ الله الصلاة على نبيه ثم ثنى بالملائكة ثم وجه الأمر للمؤمنين.

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من صلى علي واحدة صلى الله بها عشرا”. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صلوا عليَّ فإنها زكاة لكم وسلوا الوسيلة من الجنة”.

ولا يزال القرآن مليئاً بمحاسن الآداب مع سيد السادات محمد صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله على هذه النعمة سيدنا محمد الرحمة المهداة، لذا نقول: اللهم ارزقنا حسن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن الاستماع له وحسن الأخذ منه وحسن التبليغ عنه. والحمد لله رب العالمين.


[1] الحجرات 1.\
[2] أخرجه البخاري أبواب المساجد باب رفع الصوت في المساجد.\
[3] أخرجه البخاري في “الأدب المفرد” والبيهقي في الشعب وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد.\
[4] النور 62.\
[5] القرآن والنبوة عبد السلام ياسين ص 54.\
[6] النور 61.\
[7] محمد 15.\
[8] الأحزاب 55.\