“تيزي نتاست”.. برغم الزلزال أنوارك لم تنطفىء

Cover Image for “تيزي نتاست”.. برغم الزلزال أنوارك لم تنطفىء
نشر بتاريخ

على جنبات طريق منطقة “تيزي نتاست”، وقبيل غروب شمس ذلك اليوم، وقفتُ أنظر إلى دوّار منكوب في إحدى المنحدرات، انصرمت الدقائق حزينةً متثاقلة شاهدةً على هذه المأساة التي أصابت هذه البيوت الآمنة والمختبئة بين مرتفعات جبال الأطلس، في هذا الجزء المنسي من الوطن، وأنا أُرسل نظري إلى الدوَّار الذي لم يبق منه سوى المسجد، وكأن القدر أبى إلا أن يتركه شاهدا على هذه المأساة، ومودعا للمصلين الذين أدوا صلاة العشاء الأخيرة في حياتهم، وسجدوا سجدة الوداع وسبَّحوا بأنفاسهم الكريمة والطيبة تسبيحات الفراق قبيل ثواني الزلزال.

ودَّع المسجد ضيوفه الذين تسللوا في ظلام الليل عائدين إلى بيوتهم الآمنة، وكأني بجدران البيوت تبتسم لصوت أقدامهم وهمسات أصواتهم، قبل أن يحولها القدر إلى مصدر رعب مخيف.

وقفتُ على التلِّ مستندا إلى الحاجز الحديدي الذي يحمي السيارات من الوقوع في المنحدر، وفي العين دمعة خجولة تخاف أن تنفضح أمام دمعات تلك الأشجار المحيطة بالدوَّار. وفي القلب آهةُ حزنٍ عميقة وكأنها رجعُ الصدى لتأوهات هذه الصخور المطلة عليه. وقفت هناك وضوء النهار ينسحب برفق وهدوء، ليستأمن هدوء الليل على سلامة من بقي من سكان الدوَّار المنحشرين في الخيام وبين الأشجار، والبرد يداعب أجسام الأطفال الصغار، لتصطك أسنانهم، وترتجف أطرافهم، فيحنوا لبيوتهم الدافئة، وفراشهم الناعم، فهيهات لخيمة ضيقة مخنوقة أن تعوض تلك البيوت.

ارتحلت أضواء النهار، فإذا بظلام دامسٍ يخيم على المكان، ويلفُّ من كتبَت لهم الحياة من السكان كما تلفُّ الأم رضيعها في القماط بعد أن أرضعته، وغنَّت له وأسلمته لعناية الرحمان.

حلَّ الظلام والدوَّار الذي كانت تتلألأ أنواره في ظلمة الليل كحزمة من النجوم انطفأت أنواره، ولكن لتشع في كل مكان، في بيوت جميع المغاربة، وتشرق في قلوب جميع الناس، ولتنسكب كمياهٍ متدفقة حنونة من الأيادي الرحيمة والعطوفة على شكل رذاذ من الدعوات والمساعدات والعطايا، عربون محبة ورحمة وتضامن.

أنوارك لم تنطفئ. وضحكات أطفالك، من بقي منهم على قيد الحياة، تسمع في أرجاء الوطن، وهم يلعبون في المخيم المشيد بجوار الطريق، فصداها يتردد في كل بيت، وكل حيٍّ، وكل مدشر، بل في كل قلب وفي كل وجدان.

أنوارك لم تنطفئ، بل أشرقت على لسان كل أمٍّ تداعب أطفالها تضامنا مع تلك الأم التي فقدت أطفالها بين الأنقاض وهي تحضنهم بين ذراعيها حضنة الوداع.

أنوارك أضاءت دروب الوطن، وأحيت الضمائر، وأوقدت جذوة التضامن، معلنة أننا جسد واحد، وبيت واحد، ومستقبلنا واحد. وأن ملايين الأيادي تمتد برفق وحنان لتمسح دمعة الحزن والألم المتدفقة من المقل.

أنوارك انطلقت كموجات الزلزال، لتدكَّ تحت أقدامها تلك النفوس الفاسدة والمتعفنة بصنوف الأنانية والفردية.

أنوارك أيها الدوّار أيقظت ملايين الناس معلنة أن أجمل صورة هي صورة وطن يجمعه التضامن والأخوة والحنان والرحمة.

لم أطلِ المكوث كثيرا، فمع غروب الشمس وحلول الظلام، تذكرت تلك العبارة التي طالما نرددها عند حلول المحن، وهي أن في طيات كل محنة منحة ربانية، وأن المصيبة مهما عظمت تصغر وتتوارى بالصبر واليقين والرضا بما قدره الله لعباده. وأن وقع المصيبة في النفوس يخف بالمواساة.

في هدوء وصمت قرّرت مغادرة المكان وفي قلبي جزء منه. بل في روحي جميع أرواح الذين قضوا في هذا المصاب الجلل. وجميع الأضواء المنطفئة في المداشر والقرى المنكوبة أشرقت في نفسي بشموس المحبة والمؤاخاة، كما أشرقت في كل بيت من ربوع الوطن.

تسللتُ من المكان الذي توارت تفاصيله خلف ستار الظلام، وفي أذني صيحات الأطفال تتعالى في المخيم وهم يبذرون في الأرجاء بذرة الأمل في وطن تسود فيه المحبة والرحمة والابتسامة.

ودّعتُ “تيزي نتاست” بدواويرها وجبالها ومياهها وسحر جمالها وطيبة ناسها وفي عيني دمعة وعلى لساني دعوة بأن يرحم الله كل فقيد، ويجبر كسر كل حزين، ويطيب خاطر كل مكلوم. آمين.