تلازم العدل والإحسان في القرآن الكريم

Cover Image for تلازم العدل والإحسان في القرآن الكريم
نشر بتاريخ

تقديم

شاءت إرادة الحق سبحانه وتعالى أن يتعبده بنو آدم بخصلتين متلازمتين هما العدل والإحسان، وأن يشقوا طريقهم إليه المؤمنون منهم على ملتقى طريقين متوازيين هما الاستقامة إليه وإقامة أمره في نفس الإنسان ووجدانه ثم قلبه من جهة، وإقامة أمره عدلا وإحقاقا للحق فيما بينه وبين أخيه الإنسان من جهة أخرى. عدل وإحسان إحقاق للحق بين الناس بعد تمثله في النفس والقلب. لذا جاء هذا التلازم واضحا في كتاب الله عبر الآيات التي سأسردها فيما يلي مستعينا بالله ولي التوفيق.

فما مكانة هذا التلازم في كتاب الله؟ وما هي الأوامر الربانية القرآنية التي تحث المسلمين على تحقيقه فيما بينهم ومع غيرهم؟ وهل هناك من تلازم على جهة السلب بين العدل والإحسان والاستقامة؟

الإحسان والاستقامة وجهان لعملة واحدة وهما أقصى مراد الله من عباده

يقول الحق عز من قائل وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [سورة النساء الآية 125] جزم قاطع من الله تعالى أن الإحسان هو أعلى مرتبة في الدين وبيان بأنه مؤدى اتباع الحنيفية السمحاء ملة إبراهيم عليه السلام ودين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، وفي آية أخرى يقول الله تعالى قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام الآية 161] فالاستقامة على طريق الحق أي السير على الصراط المستقيم إذن هو الوجه الآخر للإحسان لأن كل واحد منهما نتيجة لاتباع الملة الحنيفية في أسمى درجاتها. 

إن أقصى ما يريده الله تعالى من عباده هو الاستقامة على طريقه واتباع طريق الإحسان قال تعالى: واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم[سورة الزمر الآية 55] ولقد رتب الله تعالى جزاء المؤمن على أحسن ما عمل به كما قال مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النحل الآية 97] ومثل هذه الآية كثير في القرآن الكريم

مكانة أهل العدل والاستقامة عند الله وثناء الله عليهم في كتابه

عندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يرفع مكانة عبد أو أمة ضرب به المثل في القرآن الكريم فيخلد ذكره بخلود كلام الله تعالى كما فعل بامرأة فرعون ومريم عليها السلام (ضرب الله مثلا للذين امنوا امرأة فرعون …. ثم قال ومريم بنت عمران… الآية).

 وهكذا يضرب الله مثلا العبد الذي جمع بين الأمر بالعدل والاستقامة حين يقول وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة النحل الآية 76]

 ويثني الحق سبحانه وتعالى على قوم موسى عليه السلام من اهتدى منهم ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون [سورة الأعراف الآية 159] وفي نفس السورة سورة الأعراف يوجه نفس الثناء لهذه الأمة المحمدية قائلا وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون [سورة الأعراف الآية 181].

عطاء أعطاه الله بعض الأنبياء عليهم السلام إذ جمع لهم بين الحكم والنبوءة والكتاب، وقرن بين إمامتهم للناس بالهدى والحق وعبادتهم له سبحانه وتعالى حيث قال وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِ ۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ [سورة الأنبياء الآية 73].

ولما كانت الشورى من مظاهر الحكم العادل جعلها الله من صفات المؤمنين الذين استجابوا لأمره وأقاموا الصلاة، وهذا صراط مستقيم، قال تعالى وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة الشورى الآية 38]

 نخلص إلى أن الله تعالى صرف في كتابه هذه الآيات وغيرها ليبين لنا أن العبد المحبوب لديه هو من جمع بين أداء حق الله في نفسه وأعلاه الإحسان والاستقامة على الطريق القويم، وبين أداء حقوق العباد وخيرها العدل بينهم وهو إيتاء كل ذي حق حقه.

 الأمر بالجمع بين العدل والاستقامة على طريق الحق والإحسان على مستوى المؤمنين

 أول من أمر بالاستقامة وعدم الطغيان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ومن يأتي بعدهم من أفواج المؤمنين والمحسنين قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [سورة هود الآية 112 و 113]

والطغيان مناقض للعدل ومجلبة لغضب الله ودخول النار أعاذنا الله منها والركون إلى الظالمين يورث الظلم وأقبحه ظلم النفس.

 وفي خطاب مباشر للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والصالحون من أمته معنيون كذلك، يقول الحق عز وجل في سورة الشورى فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [سورة الشورى الآية 15]

 وفي الآية التي اعتبرها أهل التأويل أجمع آية في القرآن يقول الحق سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل الآية 90]

 حقا إنها أجمع آية لأنها جمعت بين خير الأمور العدل والإحسان ونهت عن أقبح الأفعال الفحشاء والمنكر والبغي وهو نقيض العدل، ويقول الله تعالى كذلك قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ…[سورة الأعراف الآية 29] وهذا فيه تفصيل الإحسان بعد الأمر بالقسط وهو العدل، وما إقامة الوجه لله وإخلاص الدين له إلا من أجل مظاهر الإحسان ومقتضيات الاستقامة.

 إن من مقتضيات الإحسان والاستقامة كذلك الوفاء بعهد الله بإخلاص العبادة له وحسن التوجه إليه، وقد جمع الله بين الأمر بالعدل والإحسان بهذا المعنى حين قال عز من قائل وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة الأنعام الآية 152]

 ويقول الحق عز من قائل كذلك في سورة النساء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين [سورة النساء الآية 135] فالآيتان الأخريان فيهما أقصى درجات الإحسان والعدل لأنهما متعلقتان بإقامة العدل مع النفس وأقرب الناس إليها وهذا من عزم الأمور.

الحث على العدل والإحسان مع غير المسلمين بل مع الخصوم

نستأنف من حيث انتهينا بآية قريبة المبنى والمعنى من الآية الأخيرة وهي قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [سورة المائدة الآية ].

جمع آخر بين العدل والتقوى وهذه أول شروط الإحسان وأبرز مظاهر الاستقامة، وعندما يتعلق الأمر بالخصوم أو الأعداء فهذا لا يتمثله إلا من حباه الله حظا وافرا من التقوى والمعرفة به، والتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

والأمر لا يقف عند العدل في الحكم والقسمة مع غير المسلمين، بل يشمل البر بمن تربطهم بالمؤمنين علاقة عائلية أو قبلية أو صداقة بشرط عدم محاربة الإسلام وأهله أو المظاهرة على ذلك قال تعالى: لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [سورة الممتحنة الآية 8]، ومن ذلك قصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مع أمها لما قدمت عليها وهي ما زالت على الشرك آنذاك، وقصة سيدنا العباس رضي الله عنه مع نفر من بني هاشم لما أسروا في بدر.  هذا العدل والإحسان في أبهى صورهما مجتمعين، وأكثر من هذا أمر الإسلام بمسالمة المحاربين إن طلبوا ذلك وإجارة المشرك الذي استجار بالمسلمين وإبلاغه مأمنه بعد أن يدعى إلى الإسلام قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه [سورة التوبة الآية 6].

التلازم السلبي بين العدل والإحسان بين الإعراض عن الله والإفساد والظلم

ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم أولئك الذين يظهرون جميل القول والفعل فإذا اصطدموا بصفاء الحق ونقائه تولوا وأعرضوا فكان عاقبة توليهم الإفساد في الأرض وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [سورة البقرة الآية 205] ويقول الحق عز وجل كذلك في سورة محمد فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد الآية 22]

وفي آيات كثيرة قرن الله تعالى بين الكفر وانتفاء الإيمان بالإفساد في الأرض ومنها قوله تعالى: ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين [سورة يونس الآية 40] وهذه الصفة غالبا ما تكون فيمن آتاه الله الملك والجاه، فقد لخص الله تعالى لفرعون عند غرقه واستسلامه سبب شقائه فقال ءالان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين وقد ذم ملأه في غير ما آية بعد ذكر كفرهم وتكذيبهم لرسل الله فقال فانظر كيف كان عاقبة المفسدين. ولما ذكر الله تعالى في سورة الرعد الفريقين من لهم عقبى الدار ومن لهم سوء الدار فقال في حق الأخيرين وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة الرعد الآية 25]

إن الإعراض عن أمر الله ورسوله وما يفضي إليه من صد عن سبيلهما وبغي في الأرض وإفساد، لمما يزيد من شدة العقاب والخزي عند الله، قال تعالى في سورة النحل الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [سورة النحل الآية 88]

ختاما يتبين أن جوهر الدين إحسان وإخباث إلى الله تعالى وقيام للحق بالقسط وإيتاء كل ذي حق حقه، وهذا أحسن الدين كما بينا وإذا ما فرط العبد في هذا الجوهر وأعرض عن الله غفلة أو كبرا أو اتباعا للشيطان والهوى، اختل الميزان وحيد عن الصراط المستقيم، وإذا أوتي العبد جاها أو سلطانا تطور الأمر إلى بغي وفساد وظلم للبلاد والعباد، والعياذ بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.