تبدأ بالتضليل ولا تنتهي بالقتل.. الحرب على غزة تفضح سياسة “إسرائيل” تجاه الصحافة والإعلام

Cover Image for تبدأ بالتضليل ولا تنتهي بالقتل.. الحرب على غزة تفضح سياسة “إسرائيل” تجاه الصحافة والإعلام
نشر بتاريخ

منذ أن تلقّى الكيان الصهيوني المهزوم ضربة السابع من أكتوبر المنصرم على أيدي المقاومة الباسلة في غزة العزة، أخرجته الصدمة عن وعيه، فانبرى كالمجنون يقصف عشوائيا الأهداف المدنية؛ بشرا وحجرا وشجرا؛ يدمّر البيوت فوق رؤوس أصحابها، بل والمخابز والمساجد والمدارس والمستشفيات.. ولعل هذه الأفعال الشنيعة تترجم وعيه الكامل الذي يخالف وعي البشر جميعا، ويبدو أنها أحد سمات “تفرده”.

صبت “إسرائيل” جام حقدها وغضبها، وحملت نتائج فشلها العسكري للمدنيين الغزاويين، واقترفت، في طريق الدمار الذي دشنته يوم الثامن من نفس الشهر والذي ما تزال تمارسه إلى يومنا هذا، جرائم عديدة سوّدت صحيفته عند من كانت لديه بقية شك في ذمته، ليتضح أنه فعلا قوة كاسحة؛ تسحق كل مظاهر الإنسانية وتنقض كل المواثيق الدولية.

وطيلة أيام جنونه التي قاربت الشهر، لم تستطع قوات الكيان الصهيوني المدعومة من أعتى دول الاستكبار العالمي؛ أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا.. أن تحقق أي إنجاز على المستوى العسكري تكسب به بعض التقدم، فبان عوارها، وهي التي توعّدت بإبادة المقاومين ومن ورائهم كل سكان غزة على لسان قائدها “المظفر” نتنياهو، في الوقت الذي تحقق فيه المقاومة صمودا عسكريا لا تخطئه عين منصف، مع قلة ما تتوفر عليه من عتاد مقابل الإمدادات التي يحظى بها عدوها، غير أنه صنع بأيدي رجالها المتوضئة وروحهم المطمئنة لوعد الله عز وجل وصدورهم التي تحمل آلام شعبهم المتراكمة منذ 75 سنة.

ولأن العدو يعلم تأثير الإعلام في نفسية المحاربين، فقد سوّلت له نفسه أن يحتكر استعماله بشتى الطرق؛ فحاول توجيه كل منصات التواصل الاجتماعي، نظرا لما يتميز به من سيادة عليها سواء بالملكية الخاصة أو بالتأثير عن طريق احتكار سوق الإشهار أو بالإغراء أو بالترهيب.. لخدمة دعايته الكاذبة من أجل تبييض صورته وتقمص دور الضحية الذي يحتاج أن يدافع عن نفسه، بحثا عن غطاء يستر به جرائمه التي استعصت على الطمس بمشيئة الله تعالى وبتلاعب الشباب الذكي بخوارزميات هاته المنصات. بل وأنشأ آلاف الحسابات الوهمية بهدف التشويش وبث النزاعات وتحويل أنظار العالم عن التفرج على إخفاقاته المتتالية، واقترافه لجرائم الحرب جملة وتفصيلا، الخطة التي تبعت أختها في الفضح.

ولأن شره ليس له حد، فقد عمد إلى قطع “الانترنت” عن غزة، في محاولة يائسة بائسة لعزلها عن العالم والاستفراد بها في الظلام بعيدا عن عدسات الكاميرات والهواتف الذكية، ومنعَ شركة “ستارلينك” التابعة لـ”سبيس إكس”، التي يملكها الملياردير إيلون ماسك، من دعم خطوط الاتصالات في غزة مع “منظمات الإغاثة المعترف بها دوليا”، على غرار ما فعله مع أوكرانيا في حربها مع روسيا.

في موازاة ذلك استعمل المحتل الفاشل قنوات متلفزة خاصة، واستغل نفوذه من أجل إسكات قنوات أخرى، وبقيت بعض القنوات المعدودة تمارس إعلامها بمهنية عالية كما تقتضيه الأخلاقيات المنظمة، فدفع بكتيبة إعلامية للمشاركة في برامجها بهدف بث سردياته التي سرعان ما ظهر كذبها بالأدلة فأصبحت نكتة الساعة.

في حربه الإعلامية إذن اصطدم إعلام المحتل المضلل بجدارين صلبين؛ أولهما المؤثرون الإعلاميون فوق أرض المعركة الذين يوثقون تفاصيلها لحظة بلحظة، وثانيهما مراسلو القنوات التي استعصت على التدجين وعلى الاختراق، مع العلم أن “إسرائيل” تجند قوات “عالية الكفاءة” على هذا المستوى من أجل اختراق هذه القنوات غير أنها لم تجد بعد لذلك سبيلا.. وهو ما جعلها تفشل في معركتها هذه أيضا على المستوى الإعلامي فشلا رج صداه في أرجاء المعمور.

ولأن وصفة الفشل، الذي يبدو أنه أصبح لصيقا بـ”إسرائيل” في هذه الحرب في كل مستوياتها، جاهزة، فقد عمدت قوات الاحتلال إلى استهداف الإعلاميين بالقصف المتعمّد، سواء في أشخاصهم أو في عوائلهم وأبنائهم.. لتبلغ الحصيلة إلى اليوم 38 شهيدا من العاملين في مجال الصحافة منذ السابع من أكتوبر، حسب بيان لنقابة الصحفيين الفلسطينيين نشرته على منصة فيسبوك مساء الثلاثاء 31 أكتوبر 2023؛ 25 صحفيا فلسطينا و13 من العاملين في قطاع الإعلام، إضافة “إلى قصف منازل ما لا يقل عن 35 صحفياً واستشهاد عشرات من أفراد عائلاتهم، من ضمنهم الاستهداف المتعمد لعائلة الصحفي وائل الدحدوح، مراسل قناة الجزيرة، الذي نتج عنه قتل زوجته، واثنين من أبنائه، وحفيده الأصغر”.

ومعلوم أنه بالإضافة إلى أن الصحفي الذين يزاول مهامه في مناطق النزاع هو شخص مدني يتمتع بجميع الحقوق المكفولة للمدنيين بقوة القانون الدولي الإنساني المنصوص عليها في اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الإضافي الأول وكذلك في القانون الدولي العرفي، فإن ذكر الصحفيين كأشخاص غير مشاركين في الأعمال العدائية ورد في معاهدات القانون الدولي الإنساني بطريقتين مختلفتين؛ الأولى: في اتفاقية جنيف الثالثة المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب التي تغطي مراسلي الحرب. والثانية: في البروتوكول الإضافي الأول إلى اتفاقيات جنيف الصادر عام 1977؛ الذي يتناول بشكل محدّد مسألة الصحفيين الذين يقومون بمهام مهنية خطيرة في مناطق النزاع المسلح. وكلتا المعاهدتين تسري على النزاعات المسلحة الدولية.

أحكام هذه القوانين الدولية الإنسانية وُضعت من أجل توفير الحماية للإعلاميين وتسهيل ممارستهم لمهنتهم، ويعد انتهاك معظم هذه الأحكام جرائم حرب؛ ينبغي التحقيق في ارتكابها ومقاضاة مرتكبيها وفقا لأحكام القانون الدولي والقوانين المنظمة للمهنة.

لا شك أن الكيان الصهيوني ذو التاريخ الحافل بالإجرام يعرف يقينا هذه القوانين والأحكام، لكن إصراره المستميت على خرقها، ضمن قوانين أخرى كثيرة ليس أقلها قصف المدنيين واستعمال المواد المحرمة دوليا، على أنظار العالم ودون خوف من المساءلة أو المتابعة الدولية، يطرح أكثر من سؤال على الضمير الإنساني الجمعي؛ لماذا هذه الازدواجية في المعايير عندما يتعلق الأمر بالصهاينة؟ لماذا هذا الصمت المطبق عن إدانة جرائم الحرب هاته بله المتابعة القضائية؟ لماذا لا تقوم المنظمات الدولية بعملها في هذه الظروف؟ وما هو دورها الحقيقي؟

للأسف لا يستطيع عاقل رشيد أن يجد من جواب لهذه الأسئلة وغيرها سوى أن المنتظم الدولي ينحاز بشكل أعمى لهذا الكيان، أو أن هذه المنظمات في يده، يحركها كيف يشاء وضد من شاء، وهو متأكد من عدم تعرضه للمتابعة، فهو يتصرف بكل حرية واطمئنان.. وهو ما يمثل ازدواجية معايير الغرب في التعامل مع القضايا، ويفقد هذه المنظمات مصداقيتها، خصوصا إذا علمنا أن جرائم اليوم ليست وليدة هاته الأحداث إنما هي “امتداد لسياسة ممنهجة لاستهداف وقتل الصحفيين الفلسطينيين”، كان من نتائجها “قتل الجيش “الإسرائيلي” 55 صحفياً فلسطينياً منذ عام 2000 وحتى السابع من أكتوبر 2023، بمن فيهم الشهيدة الصحفية شيرين أبو عاقلة، في مايو 2022″ وفق بيان نقابة الصحفيين الفلسطينيين ذاته.

وسواء أصحَّ الاحتمال الأول أم الثاني، فإن الصحفي الحر الشريف يبقى معرضا للتصفية.. ويبقى دمه لعنة على القاتل المحتل، ومعلقا في عنق الدول الساكتة عن حقه والهيئات المهنية الدولية التي تدّعي أنها تمثله.