بين يدي رمضان.. زاد النية والإرادة

Cover Image for بين يدي رمضان.. زاد النية والإرادة
نشر بتاريخ

إن كانت أعمال الخير في شهر الخير كثيرة، ومواسم الفضل فيه عميمة، والوظائف والأوراد متنوعة مختلفة، فإنها كلها ينبغي أن تنسلك في خيط ناظم وأن تنجمع على رابط واحد، وهو نفَس الإخلاص وعبير القصد وسمو النية وصلاحها.

تشرف الأعمال الصالحة بشرف روحها ونفاسة معدنها وصفاء منطلقها ورفعة أفقها.

قال ابن المبارك رحمه الله: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية) 1 ..

1. رمضان مدرسة الروحانية

شهر رمضان مدرسة جامعة لتعميق معاني الروحانية وصفاء القلوب، والتحكم في النفس وترويضها، ولهذا اشتغل الأكابر، أكابر البر والتقوى، على قلوبهم كما اشتغلوا على أعمال جوارحهم. والمعول عندهم على أعمال القلوب بالدرجة الأولى. فهذا سفيان الثوري كان يقول: ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي) 2 .

وأعمال القلوب والأسرار من صفاء نية وحب وإخلاص وصدق وشوق… هناك مناسبات وأوقات يكون فيها الاستمداد والتلقي كبيرا، كجوف الليل وليلة الجمعة، والمحطة الضخمة رمضان المبارك.

للصوم عموما أثر تربوي عميق جدا في المؤمن وله روحانية عالية خاصة. تزداد وتقوى وتنغرس ويظهر عبيرها متى سكنت نفسه وراقب سلوكه وحركته وسكنته وكانت الجهود كلها لله تعالى.

والمطلوب من المؤمن أن يراقب نفسه ويحاسبها، وأن يجد أثر الصيام في سلوكه ظاهرا وباطنا، وإلا فلا معنى لصيامه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه” 3 .

رمضان زمن تنزل القرآن الكريم كلام رب العالمين، وفيه ليلة القدر الليلة المباركة وهي زمن تنزله، وهذا من أسباب روحانية الشهر وارتفاع الأنفاس القدسية الربانية. هو شهر القرآن بامتياز. وهذا ما يجعل القلوب مهيأة للانشراح والطمأنينة والأمن.

رمضان فرصة ثمينة لمن أراد أن يخطو خطوة أخرى في الرقي بنفسه حتى تطمئن لأمر الله تعالى وللجوارح حتى تستقيم على أمر الله تعالى، وللقلب حتى يسكنه حب الله والتعلق بالله والشوق إلى لقاء الله تعالى.

رمضان فرصة ضخمة لصلاح النيات وصفاء الأسرار. فضلا عن صلاح الفهوم والأعمال.

2. الصيام روح وجسد

الصيام ليس صيام البطن والفرج. هذا الحد الأدنى. وأعلى منه صيام الجوارح خلقا وسلوكا حسنا. وأرقى من ذلك صيام القلب والسر.

شهر ﺭﻣﻀﺎﻥ ﺷﻬﺮ الترقي. يبدأ المؤمن بفطام ﺍﻟﺠﺴﻢ ﻋﻦ ﻃﺒﻌﻪ ﻣﻦ ﺷﻬﻮﺓ ﺍﻟﻄﻌﺎﻡ، ﻭﺣﺎﺟﺔ ﺍﻟﺸﺮﺍﺏ، ﻭﻟﺬﺓ ﺍﻟﺠﺴﺪ، حتى يتأهل لضبط نفسه ومعرفة كيفية التحكم فيها. ثم تسمو الروح وتصفو من كدورات النفس ورعوناتها حتى تكون طاهرة نقية فتغلب الأوصاف الربانية على الأوصاف الطينية فلا ينشغل القلب إلا بخالقه سبحانه وتعالى ويتحرر من ربقة النفس وأكبال الهوى وقيود الدنيا وحبائل الشيطان. يكون قلبا سليما. وسلامة القلب إنما مبناها على الإخلاص والنية.

قال عز وجل: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء 4 . الإخلاص روح العبادة سواء العبادة الفردية أو الجماعية: من حسن خلق وصلاة وزكاة ومهنة وشورى ودعوة للخير…

النية وتصفية النية هذا عمل القلب وهو الأصل واللباب. قال صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” 5 .

نعم الصيام يجمع بين صيام الجوارح وهو الجسد ولا حياة لجسد ولا معنى بدون روح.

الصيام ميزه المولى بهذه الخصيصة: صفاء القلب وعلو وجهته فجعل الكريم سبحانه الصيام له تعالى.

قال صلى الله عليه وسلم: “كل عمل ابن آدم له، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي” 6 . الصيام صاروخ النية والإخلاص وليس المسألة مسألة أجر وثواب فقط. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “… يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِّيَامُ لي، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ…” 7 .

فالصوم أن تحققت شروطه واكتملت آدابه حقق الله المقصود منه وهو أن يكون الله تعالى هو المقصود. فيتحقق العبد بروح الصيام ومعناه. يكون عمله لله تعالى. ولذلك كان الصيام لا سمعة ولا رياء فيه ان كان الحد الأدنى من شروطه وأركانه. عن ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ” 8 .

ولما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطَّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه فلا حظ فيه للرياء والفخر. جعله الله كذلك وحققنا بذلك.

3. النية نيتان: نية عقل ونية القلب والعمدة: نية القلب

النية عند كثير من الناس: هو البرمجة العقلية والعزم على صيام الصيام الفريضة. ويقصرون النية على صحة الصيام من الوجهة “الفقهية”. أما النية حقيقة فهي أن يكون العمل لله خالصا من شوائب النفس كبرا وفخرا ورياء. وهذا المعنى هو الذي تقصده النصوص الشرعية.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: اعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة… والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلاً، وتمييز رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيراً في كلام الفقهاء في كتبهم.

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له، أو لله وغيره. وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدمين. وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفاً سماه (كتاب الإخلاص والنية) وإنما أراد هذه النية! 9

المعول في الصيام والأعمال عموما على وجهة القلب، على النية، لأنها سر العمل وأساسه وروحه ومعناه. قال صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” 10 .

وهذا هو صوم العقلاء الأكياس إيمانا واحتسابا: أي طلبا لوجه الله تعالى، بنية الإقبال على الله تعالى ونيل محبته ورضاه.

والنية أعظم من العمل وأبلغ منه. روى البيهقي في شعب الإيمان مختصراً عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: “نية المؤمن أبلغ من عمله”.

ثم قال رحمه الله شارحا: نية المؤمن خير من عمله، لأن النية لا يدخلها الفساد، والعمل يدخله الفساد… وقد قيل: النية دون العمل قد تكون طاعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: )“من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة”. قالوا: والعمل دون النية لا يكون طاعة).

يدخل رمضان فيسأل المؤمن عن فقهيات الصيام وآدابه حتى يكون صومه صحيحا على السنة. يكون المؤمن مغبونا إن وقف هنا. يكون حاله كالمسافر بعيدا يملأ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه إن لم يصحب معه الإخلاص والنية.

قال صلى الله عليه وسلم: “إن اللهَ لا يقبلُ من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتُغي به وجهُه” 11 .

4. كيف نحرر النية والإرادة في رمضان؟

أن يكون رمضان لله تعالى صيامه، وقيامه، والعمل فيه، والإفطار، والسحور، والمعاملة مع الخلق، كلها لله تعالى، الحركات والسكنات والأنفاس لله تعالى لا شريك له.

أتحرر كليا من الكل، من سلطان الأكل والشرب ولذة الجسم صياما وإمساكا، ومن شهوة النوم والكسل والعادة قياما وذكرا، حتى أكون لله تعالى في كل وقت وحي، حرا عبدا، حرا عن الخلق وعبدا لله تعالى.

هذا هو المقصود من نية الصيام ومن سائر الأعمال عموما.

ويبقى سؤال – كيف أتحرر وأكون بين يدي ربي؟- سؤالا ملازما يقرع أذن كل طالب الكمال ناشد الإحسان.

أ‌- اتهام النفس

محاسبة النفس واتهامها بالتقصير دائما مهما عمل المؤمن لئلا يتكبر بعمله ويستكبر بعبادته.

لما يقارن المؤمن حاله مع حال من سبقه بإيمان – من كمل الرجال في عهده وفي عهد من سبقه – كيف يتسابقون إلى الخيرات ويحوزون المراتب العالية في التعامل مع رمضان تعظيما وأدبا ونية وعملا… يقول: هيهات هيهات سبقك الرجال: يا خسيسة.

ب‌- الفضل كله لله

الله تبارك وتعالى هو الذي هيأ أسباب الصيام والقيام والأعمال المباركات وأعطى القوة والقدرة والرغبة لتحقيق ذلك. فينسب المؤمن الفضل لصاحب الفضل سبحانه ولا يرى المؤمن لنفسه مزية. وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ شعاره وشعوره وروح شعائره.

ت‌- صحبة الصالحين

الصحبة والتماس الخير من عند أهل الخير دين من الدين.

السؤال عن فقهيات رمضان ومسائل رمضان لها أهلها وأربابها. والسؤال عن النية وصلاح النية هذه من المسائل التي تطلب من مظانها. والعلماء الربانيون الصالحون هم أهل الشأن في الباب. يُعلِّمون ويصححون النية والاخلاص.

عن يحيى بن أبي كثير قال: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل) 12 .

وقال الثوري رحمه الله تعالى: كانوا يتعلمون النية للعلم كما يتعلمون النية للعمل) 13 .

وقال علماؤنا رضي الله عنهم: من لم يهتد إلى النية بنفسه يصحب من يعلمه حسن النية) 14 .

ث‌- الدعاء

للصائم دعوة لا ترد. يتوجه إلى الله تعالى بأن يصلح شأنه كله ولا ينسى إخوانه المسلمين.

يسأل الله القبول وألا يجعل للنفس والشيطان والهوى والخاطر حظا في كل عمل يقوم به. يعمل بنية خالصة ويسأل الله السداد والرضى.

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل”. فقيل له: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: “اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم” 15 .

وكان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً).

اللهم اجعل رمضان كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً.

اللهم هذا إقبال رمضان فاجعلنا من المقبلين فيه عليك.

اللهم يسرنا للعمل الذي تحب وفيما تحب والوقت الذي تحب مع من تحب.

اللهم ارزقنا كمال النية وصفاء السر وتمام الإرادة.

اللهم اجعلنا في رمضان من الصائمين حقا، من القائمين حقا، من الذاكرين حقا، من المنفقين حقا، من الهادين المهديين حقا وصدقا.

اللهم أنعم علينا في رمضان وفي سائر الأيام العكوف على بابك، والانكباب على كتابك، والاهتمام بخلقك دعوة وهداية ونصحا.

اللهم وفقنا حتى نكون في الصحبة الدائمة مع الصالحين القاصدين القائمين المجاهدين لإعلاء كلمتك ونصرة دينك. والحمد لله رب العالمين.


[1] جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: ص 18 تحقيق عصام الدين الصبابطي دار الحديث القاهرة الطبعة الأولى 1414-1994.\
[2] نفسه.\
[3] رواه البخاري وأصحاب السنن.\
[4] سورة البينة: الآية 5.\
[5] متفق عليه.\
[6] متفق عليه.\
[7] رواه البخاري.\
[8] رواه البيهقي وقال: هكذا روي بهذا الإسناد منقطعا.\
[9] جوامع الكلم لابن رجب الحنبلي (شرح حديث إنما الأعمال بالنيات).\
[10] رواه النسائي.\
[11] رواه النسائي بإسناد جيد.\
[12] جامع العلوم والحكم: ص18.\
[13] النيات الصالحات الإمام سيدي أحمد بن عجيبة رحمه الله تعالى تحقيق الطيب بن عجيبة: ص29 الطبعة الاولى 2005 سليكي إخوان طنجة.\
[14] النيات الصالحات: ص 30.\
[15] رواه أحمد وصححه الألباني.\