بين خروفين

Cover Image for بين خروفين
نشر بتاريخ

اجتمع ليلة الأضحى خروفان من الأضاحي في دارنا: أما أحدهما فكبش أقرن، يحمل على رأسه من قرنيه العظيمين شجرة السنين، وقد انتهى سمنه حتى ضاق جلده بلحمه، وسَحَّ بدنه بالشحم سحا، فإذا تحرك خلته سحابة يضطرب بعضها في بعض، ويهتز شيء منها في شيء؛ وله وافرة 1 يجرها خلفه جرا، فإذا رأيتها من بعيد حسبتها حملا يتبع أباه؛ وهو أصوف، قد سبغ صوفه واستكثف وتراكم عليه، فإذا مشى تبختر فيه تبختر الغانية في حلتها، كأنما يشعر مثل شعورها أنه يلبس مسرات جسمه لا ثوب جسمه؛ وهو من اجتماع قوته وجبروته أشبه بالقلعة، ويعلوها من هامته كالبرج الحربي فيه مدفعان بارزان. وتراه أبدا مصعرا خدا كأنه أمير من الأبطال، إذا جلس حيث كان شعر أنه جالس في أمره ونهيه، لا يخرج أحد من نهيه ولا أمره.

وأما الآخر فهو جَذَعٌ في رأس الحول الأول من مولده، لم يدرك بعد أن يُضحَّى، ولكن جيء به للقرم إلى لحمه الغض؛ فالأول أضحية وهذا أكولة؛ وذاك يُتصدق بلحمه كله على الفقراء، وهذا يتصدق بثلثيه ويبقى الثلث طعاما لأهل الدار.

وكان في لينه وترجرجه وظرف تكوينه ومرح طبعه، كأنما يصور لك المرأة آنسة رقيقة متوددة. أما ذاك الضخم العاتي المتجبر الشامخ، فهو صورة الرجل الوحشي أخرجته الغابة التي تخرج الأسد والحية وجذوع الدَّوحة الضخمة، وجعلت فيه من كل شيء منها شيئا يخاف ويُتقى.

وكان الجذع يثغو لا ينقطع ثغاؤه، فقد أخذ من قطيعه انتزاعا فأحس الوحشة، وتنبهت فيه غريزة الخوف من الذئب، فزادته إلى الوحشة قلقا واضطرابا؛ وكان لا يستطيع أن ينفلت، فهو كأنما يهرب في الصوت ويعدو فيه عدوا.

أما الكبش فيرى مثل هذا مسبة لقرنيه العظيمين، وهو إذا كان في القطيع كان كبشه وحاميه والمقدم فيه، فيكون القطيع معه وفي كنفه ولا يكون هو عند نفسه مع القطيع؛ فإذا فقد جماعته لم يكن في منزلة المنتظر أن يلحق بغيره ليحتمي به فيقلق ويضطرب، ولكنه في منزلة المرتقب أن يلحق به غيره طلبا لحمايته وذماره، فهو ساكن رابط الجأش مغتبط النفس، كأنما يتصدق بالانتظار …

فلما أدبر النهار وأقبل الليل، جيء للخروفين بالكلأ من هذا البرسيم يعتلفانه، فأحس الكبش أن في الكلأ شيئا لم يدر ما هو، وانقبضت نفسه لما كانت تنبسط إليه من قبل، وعرته كآبة من روحه، كأنما أدركت هذه الروح أنه آخر رزقه على الأٍض، فانكسر وظهر على وجهه معنى الذبح قبل أن يذبح، وعاف أن يطعم، ورجع كأول فطامه عن أمه لا يعرف كيف يأكل، ولا يتناول من أكله إلا أدنى تناول.

وكأنما جثم الظلام على شحمه ولحمه؛ فإنه متى ثقل الهم على نفس من الأنفس، ثقل على ساعتها التي تكون فيها، فتطول كآبتها ويطول وقتها جميعا. فأراد الكبش أن يتفرج مما به، وينفس عن صدره شيئا، وكان الصغير قد أنس إلى المكان والظلمة، وأقبل يعتلف ويخضِم الكلأ، فقال له الكبش: أراك فارها يا ابن أخي، كأنك لا تجد ما أجد؛ إني والله أعلم علما لا تعلمه، وإني لأحس أن القدر طريقه علينا في هذه الليلة، فهو مصبحنا ما من ذلك بد.

قال الصغير: أتعني الذئب؟

قال: ليته هو، فأنا لك به لو أنه الذئب؛ إن صوفي هذا درع من أظافره، وهو الكشبكة ينشب فيها الظفر ولا يتخلص، ومن قرني هذين ترس ورمح، فأنا واثق من إحراز نفسي في قتله، ومن أحرز نفسه من عدوه فذاك قتل عدوه، فإن لم يقتله فقد غاظه بالهزيمة، وذاك عند الأبطال فن من القتل. وهذا القرن الملتف الأعقد المدرب كالسنان، لا يكاد يراه الذئب حتى يعلم أنه حاطمة عظامه، فيحدث له من الفزع ما تنحل به قوته، فما يواثبني إلا متخاذلا، ولا يقدم علي إلا توهم الذئبية للخروفية، فإن أساس القوة والضعف كليهما في السوس والطبيعة، غير أنه لا يعلم أني خرجت من الخروفية إلى الجاموسية …! فما يعلمه ذلك إلا بقر بطنه أو التطويح به من فوق هذا القرَن، أقذفه قذفة عالية تلقيه من حاليق، فتدق عظامه قوائمه!

قال الصغير: فماذا تخشى بعد الذئب؟ أن كانت العصا فهي إنما تضرب منك الصوف لا الظهر.

قال الكبس: ويحك! وأي خروف يخشى العصا؟ ويه إنما تكون عصا من يعلفه ويرعاه، فهي تنزل عليه كما تنزل على ابن آدم أقدار ربه، لا حطما ولكن تأديبا أو إرشادا أو تهويلا؛ ومن قبلها النعمة، وتكون معها النعمة، وتجيء بعدها النعمة؛ أفبلغ الكفر ما يبلغ كفر الإنسان بنعمة ربه: إذا أنعم عليه أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر انطلق ذا صراخ عريض؟

وكيف تراني (ويحك) أخشى الذئب أو العصا، وأنا من سلالة الكبش الأسدي؟

قال الصغير: وما الكبش الأسدي، وكيف علمت أنك من نجله، ولا علم لي أنا إلا هذا الكلأ والعلف والماء والمراح والمغذى؟

قال الكبش: لقد أدركت أمي وهي نعجة قحمة كبيرة، وأدركت معها جدتي وقد أفرط عليها الكبر حتى ذهب فمها، وأدركت معهما جدي وهو كبش هرم متقدد أعجف كأنه عظام مغطاة، فعن هؤلاء أخذت ورويت وحفظت:

حدثتني أمي، عن أبيها، عن أبيه، قالت: إن فخر جنسنا من الغنم يرجع إلأى كبش الفداء الذي فدى الله به إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- وكان كبشا أبيض أقرن أعين، اسمه حرير.

(قال): واعلم يا ابن أخي أن مما انفردت أنا به من العلم فلم يدركه غيري، أن جدنا هذا كان مكسوا بالحرير لا بالصوف، فلذلك سمي حريرا…

(قالت أمي): والمحفوظ عند علمائنا أن ذاك هو الكبش الذي قربه هابيل حين قتل أخاه، لتتم البلية على هذه الأرض بدم الإنسان والحيوان معا.

(قالوا): فتقبل منه وأرسل الكبش إلى الجنة فبقي يرعى فيها حتى كان اليوم الذي هم فيه إبراهيم أن يذبح ابنه تحقيقا لرؤيا النبوة، وطاعة لما ابتلي به من ذلك الامتحان، وليثبت أن المؤمن بالله إذا قوي إيمانه لم يجزع من أمر الله ولو جر السكين على عنق ابنه، وهو إنما يجرها على ابنه وعلى قلبه!

(قالت) فهذا هو فخر جنسنا كله.

أما فخر سلالتي أنا، فذاك ما حدثتني به جدتي، ترويه عن أبيها، عن جدها، وذاك حين توسمت في مخايل البطولة، ورجت أن أحفظ التاريخ. قالت: إن أصلنا من دمشق، وإنه كان في هذه المدينة رجل سباع، قد اتخذ شبل أسد فرباه وراضه حتى كبر، وصار يطلب الخيل، وتأذى به الناس، فقيل للأمير 2 : هذا السبع قد آذى الناس، والخيل تنفر منه وتجد من ريحه ريح الموت، وهو ما يزال رابضا ليله ونهاره على سدة بالقرب من دارك. فأمر فجاء به السباع وأدخله إلى القصر، ثم أمر بخروف مما اتخذ في مطبخه للذبح، وأدخلوه إلى قاعة، وجاء السباع فأطلق الأسد عليه، واجتمعوا يرون كيف يسطو به ويفترسه.

قالت جدتي: فحدثني أبي، قال: حدثني جدك: أن السباع أطلق الأسد من ساجوره 3 وأٍسله، فكانت المعجزة التي لم يفز بها خروف ولم تؤثر قط إلا عن جدنا، فإنه حسب الأسد خروفا أجم لا قرون له، ورأى دقة خصره، وضمور جنبيه، ورأى له ذيلا كالألية المفرغة الميتة، فظنه من مهازيل الغنم التي قتلها الجدب، وكان هو شبعان ريان، فما كذب أن حمل على الأسد ونطحه، فانهزم السبع مما أذهله من هذه المفاجأة وحسب جدنا سبعا قد زاده الله أسلحة من قرنيه، فاعتراه الخوف وأدبر لا يلوي. وطمع جدنا فيه فاتبعه، ومازال يطارده وينطحه، والأسد يفر من وجهه ويدور حول البركة، والقوم قد غلبهم الضحك، والأمير ما يملك نفسه إعجابا وفخرا بجدنا. فقال: هذا سبع لئيم، خذوه فأخرجوه، ثم اذبحوه، ثم اسلخوه. فأخذ الأسد وذبح، وأعتق جدنا من الذبح، وكان لنا في تاريخ الدنيا: إنسانها وحيوانها أثران عظيمان؛ فجدنا الأول كان فداء لابن نبي، وجدنا الثاني كان الأسد فداءه!

قال الصغير للكبش: قلتَ: الذبح، والفداء من الذبح؛ فما الذبح؟

قال الكبش: هذه السنة الجارية بعد جدنا الأعظم، وهي الباقية آخر الدهر؛ فينبغي لكل منا أن يكون فداء لابن آدم!

قال الصغير: ابن آدم هذا الذي يخدمنا ويحتز لنا الكلأ، ويقدم لنا العلف، ويمشي وراءنا فنسحبه إلى هنا وههنا …؟ تالله ما أظن الدنيا إلا قد انقلبت، أو لا، فأنت يا أخا جدي .. قد كبرت وخَرِفْت!

قال الكبش: ويحك يا أبله! متى تتحلل هذه العقدة التي في عقلك؟ إنك لو علمت ما أعلم لما اطمأنت بك الأرض، ولرجَعت من القلق والاضطراب كحبة القمح في غربال يهتز وينتفض!

قال الصغير: أتعني ذلك الغربال وذلك القمح وما كان في القرية، إذ تناولت ربة الدار غربالها تنفض به قمحها، فغافلتها ونطحت الغربال فانقلب عن يدها وانتثر الحب، فأسرعت فيه التقاطا حتى ملأت فمي قبل أن تزيحني المرأة عنه؟

فهز الكبش رأسه فعل من يريد الابتسام ولا يستطيعه، وقال: أرأيت حانوت القصاب، ونحن نمر اليوم في السوق؟

قال: وما حانوت القصاب؟

قال: أرأيت ذلك السليخ من الغنم البيض المعلقة في تلك المعاليق، لا جلد عليها ولا صوف، وليس لها أرؤس ولا قوائم؟

قال الصغير: وما ذاك السليخ؟ إنه إن صح ما حدثتني به عن أمك، فهذه غنم الجنة، تبيت ترعى هناك ثم تجيء إلى الأرض مع الصبح، وإني لمترقب شمس الغد، لأذهب فأراها وأملا عيني منها.

قال: اسمع أيها الأبله! إن شمس الغد ستشعر بها من تحتك لا من فوقك .. لقد رأيت أخي مذ كنت جذعا مثلك؛ ورأيت صاحبنا الذي كان يعلفه ويسمنه قد أخذه، فأضجعه، فجثم على صدره شرا من الذئب، وجاء بشفرة بيضاء لامعة، فجرها على حلقه، فإذا دمه يَشْخَب ويتفجر، وجعل المسكين ينتفض ويدحص برجله، ثم سكن وبرد؛ فقام الرجل ففصل عنقه، ثم نخس في جلده ونفخه حتى تطبل ورجع كالقربة التي رأيتها في القرية مملوءة ماء فحسبتها أمك؛ ثم شق فيه شقا طويلا. ثم أدخل يده بين الجلد والصفاق، ثم كشطه وسحف الشحم عن جنبيه، فعاد المسكين أبيض لا جلد له ولا صوف عليه، ثم بقر بطنه وأخرج ما فيه، ثم حطم قوائمه، ثم شده فعلقه فصار سليخا كغنم الجنة التي زعمت! وهذا -أيها الأبله- هو الذبح والسلخ!

قال الصغير: وما الذي أحدث هذا كله؟

قال: الشفرة البيضاء التي يسمونها السكين!

قال الصغير: فقد كانت الشفرة عند حلقه حيال فمه؛ فلماذا لم ينتزعها فيأكلها؟

قال الكبش: أيها الأبله الذي لا يعلم شيئا ولا يحفظ شيئا، لو كانت خضراء لأكلها!

قال: وما خطب أن تجيء الشفرة على العنق، أفلم يكن الحبل في عنقك أنت فجعلت تجاذب فيه الرجل حتى أعييته، ولولا أني مشيت أمامك لما انقدتَ له؟

قال الكبش: ما أدري والله كيف أفهمك أن هذا كله سيجري عليك، فسترى أمورا تنكرها، فتعرف ما الذبح والسلخ، ثم تصير أشلاء في القدور تضرم عليها النار، فيأكلك ابن آدم كما تأكل أنت هذا الكلأ..!

قال الصغير: وماذا علي أن يأكلني ابن آدم، ألا تراني آكل العشب، فهل سمعت عودا منه يقول: الرجل والسكين، والذبح والسلخ..؟

قال الكبش في نفسه: لعمري إن قوة الشباب في الشباب أقوى من حكمة الشيوخ في الشيوخ، وما نفع الحكمة إذا لم تكن إلا رأيا له ما يمضيه، كرأي الشيخ الفاني، يرى بعقله الصواب حين يكون جسمه هو الخطأ مركبا في ضعفه غَلطةً على غلطةٍ لا عضوا على عضو ..؟ وهل الرأي الصحيح للعالم الذي نعيش فيه إلا بالجسم أي نعيش به؛ وما جدوى أن يعرف الكبير حكمة الموت، وهو من الضعف بحيث تنكسر نفسه للمرض الهين، فضلا عن المرض المعضل، فضلا عن المرض المزمن، فضلا عن الموت نفسه؛ وما خطر أن يجهل الشباب تلك الحكمة، وهو من قوة النفس بحيث لا يبالي الموتَ، فضلا عن المرض؟

لو أذن الشاب من الفتيان بيون انقطاع أجله، وعلم أنه مصبحه أو ممسيه، لأمدته نفسه بأرواح السنين الطويلة، حتى ليرى أن صبح الغد كأنما يأتي من وراء ثلاثين أو أربعين سنة؛ فما يتبينه إلا كالفكر المنسي مضى عليه ثلاثون سنة أو أربعون. ولو أذن الشيخ بيوم مصرعه، وأيقن أن له مهلة إلى تمام الحول، لطار به الذعر واستفرغه الوجل من ساعته؛ ورأى يومه البعيد أقرب إليه من الصبح، وابتلته طبيعة جسمه المختل بالوساوس الكثيرة، تجتلبها كما تجتلب الرياح صدوع المنزل الخرب. فذاك بالشباب يقبض على الزمن؛ فيعيش في اليوم القصير مثل العام رخيا ممدودا؛ فهو رابط جلْد؛ وهذا بالكِبَر يقبض الزمن عليه فيعيش في العام الطويل مثل اليوم متلاحقا آخره بأوله، فهو قلق طائر. ولا طبيعة للزمن إلا طبيعة الشعور به، ولا حقيقة للأيام إلا ما تضعه النفس في الأيام.

ثم إن الكبش نظر فرأى الصغير قد أخذته عينه واستثقل نوما، فقال: هنيئا لمن كان فيه سر الأيام الممدودة. إن هذا السر مو كسر النبات الأخضر، لا يقطع من ناحية إلا ظهر من غيرها ساخرا هازئا، قائلا على المصائب: ها أنذا …

فهذا الصغير ينام ملء عينيه والشفرة محدودة له، والذبح بعد ساعات قليلة؛ كأنما هو في زمنين؛ أحدهما من نفسه، فبه ينام، وبه يلهو، وبه يسخر من الزمن الآخر وما فيه وما يجلبه.

إن الألم هو فهم الألم لا غير. فما أقبح علم العقل إذا لم يكن معه جهل النفس به وإنكارها إياه. حسب العلم والعلماء في السخرية بهم وبه هذه الحقيقة من النفس. أنا لو ناطحت كبشا من قروم الكباش، ووقفت أفكر وأدبر وأتأمل، وأعتبر شيئا بشيء ذهب فكري بقوتي، واسترخى عصبي، وتحلل غضبي كله، وكان العلم وبالا علي؛ فإن حاجتي حينئذ إلى الروح وقواها وأسبابها أضعاف حاجتي إلى العلم. والروح لا تعرف شيئا اسمه الموت، ولا شيئا اسمه الوجع؛ وإنما تعرف حظها من اليقين، وهدوءها بهذا الحظ، واستقرارها مؤمنة ما دامت هادئة مستيقنة.

وقد والله صدق هذا الجذَعُ الصغير؛ فما على أحدنا أن يأكله الإنسان؟ وهل أكلنا نحن هذا العشب، وأكل الإنسان إيانا، وأكل الموت للإنسان – هل كل ذلك إلا وضع للخاتمة في شكل من أشكالها؟

يشبه والله إن أنا احتججت على الذبح واغتممت له، أن أكون كخروف أحمق لا عقل له، فظن إطعام الإنسان إياه من باب إطعامه ابنه وابنته وامرأته ومن تجب عليه نفقته! وهل أوجب نفقتي على الإنسان إلا لحمي؟ فإذا استحق له فلعمري ما ينبغي لي أن أزعم أنه ظلمني اللحمَ إلا إذا أقررت على نفسي بَديّاً أني أنا ظلمته العلف وسرقته منه.

كل حي فإنما هو شيء للحياة أعطيها على شرطها، وشرطها أن تنتهي، فسعادته في أن يعرف هذا ويقرر نفسَه عليه حتى يستيقنه، كما يستيقن أن المطر أول فصل الكلأ الأخضر. فإذا فعل ذلك وأيقن واطمأن، جاءت النهاية متممة له لا ناقصة إياه، وجرت مع العمر مجرى واحدا وكان قد عرفها وأعد لها. أما إذا حسب الحي أنه شيء في الحياة، وقد أعطيها على شرطه هو، من توهم الطمع في البقاء والنعيم، فكل شقاء الحي في وهمه ذاك، وفي عمله على هذا الوهم؛ إذ لا تكون النهاية حينئذ في مجيئها إلا كالعقوبة أنزلت بالعمر كله، وتجيء هادمة منغصة، ويبلغ من تنكيدها أن تسبقها آلامها؛ فتؤلم قبل أن تجيء، شرا مما تؤلم حين تجيء!

لقد كان جدي والله حكيما يوم قال لي: إن الذي يعيش مترقبا النهاية يعيش معدا لها؛ فإن كان معدا لها عاش راضيا بها، فإن عاش راضيا بها كان عمره في حاضر مستمر، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها، فلا يستطيع الزمن أن ينغص عليه ما دام ينقاد معه وينسجم فيه، غير محاول في الليل أن يبعد الصبح، ولا في الصبح أن يبعد الليل. قال لي جدي: والإنسان وحده هو التعس الذي يحاول طرد نهايته، فيشقى شقاء الكبش الأخرق الذي يريد أن يطرد الليل، فيبيت ينطح الظلمة المتدجية على الأرض، وهو لحمقه يظن أنه ينطح الليل بقرنيه ويزحزحه…!

وكم قال لي ذلك الجد الحكيم وهو يعظني: إن الحيوان منا إذا جمع على نفسه هما واحدا، صار بهذا الهم إنسانا تعسا شقيا، يعطى الحياة فيقلبها بنفسه على نفسه شيئا كالموت، أو موتا بلا شيء…!

وتحرك الصغير من نومه، فقال له الكبش: إنه ليقع في قلبي أنك الساعة كنت في شأن عظيم، فما بالك وأنت منتفخا وأنت ههنا في المنحر لا في المرعى!

قال الصغير: يا أخا جدي … لقد تحققت أنك هرمت وخرفت، وأصبحت تمج اللعاب والرأي…!

قال الكبش: فما ذاك ويلك؟

قال: إنك قلت: إن هذا الإنسان غاد علينا بالشفرة البيضاء، ووصفت الذبح والسلخ والأكل؛ وأنا الساعة قد نمت فرأيت فيما أرى، أنني نطحت ذاك الرجل الذي جاء بنا إلى هنا، وهجت به حتى صرعته، ثم إني أخذت الشفرة بأسناني، فثلمته في نحره حتى ذبحته، ثم افتلذت منه مضغة فلُكتُها في فمي؛ فما عرفت والله فيما عرفت لَخَناً ولا عفنا في الكلأ هو أقبح مذاقا منه!

إن الإنسان يستطيب لحمنا، ويتغذى بنا، ويعيش علينا: فما أسعدنا أن نكون لغيرنا فائدة وحياة، وإذا كان الفناء سعادة نعطيها من أنفسنا، فهذا الفناء سعادة نأخذها لأنفسنا. وما هلاك الحي لقاء منفعة له أو منفعة منه إلا انطلاق الحقيقة التي جعلته حيا، صارت حرة فانطلقت تعمل أفضل أعمالها.

قال الكبير: لقد صدقتَ والله، ونحن بهذا أعقل وأشرف من الإنسان؛ فإنه يقضي العمر آخذا لنفسه، متكالبا على حظها، ولا يعطي منها إلا بالقهر والغلبة والخوف. تعال أيها الذابح، تعال خذ اللحم وهذا الشحم؛ تعال أيها الإنسان لنعطيك؛ تعال أيها الشحاذ…!


[1] ألية عظيمة ويقال كبش أليان إذا كان عظيم الألية.\
[2] هذه القصة شهدها الأمير الأديب (أسامة بن منقذ) المتوفى سنة 584 للهجرة، وقصها في كتابه (الاعتبار)؛ والأمير المذكور في القصة هو (معين الدين أنر) وزير شهاب الدين محمود. وقد تصرفنا في عبارة القصة.\
[3] الساجور: سلسلة الأسد والكلب ونحوهما.\