بين جوار الديار وجوار الأوطان (2)

Cover Image for بين جوار الديار وجوار الأوطان (2)
نشر بتاريخ

جوار الأوطان

كم نحن في أمس الحاجة لاستحضار قيم وأخلاق حسن جوار الديار في حسن جوار الأوطان داخل الأمة وجماعة المسلمين ونحن نعيش ابتلاء ومحنة طوفان الأقصى، والعدوان على غزة التي خذلها الجار القريب قبل البعيد والأخ قبل العدو. لنقوم سلوك جوار الأوطان على ضوء واجب حسن الجوار كما جلاه الشرع ورسم معالمه الهدي النبوي، ولنعرج بحق الجار إلى واجب الولاء. قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “نقرأ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحث الأكيد والوعيد الشديد في شؤون برِ الوالدين. ونقرأ واجب إيتاء ذوي القربى واليتامى والمساكين. ونقرأ واجب الوفاء لحق الجار والصديق. كل ذلك يسعى الإسلام ليستخدمه في إطار الوَلاية لله ولرسوله وللمؤمنين. فإذا تعارض الوَلاءُ لله ورسوله والمؤمنين مع الوَلاءات القبلية، والأنانية، والقطرية، والوطنية، وما هنالك، فيُطْرَحُ كل ذلك ويقاتَل ويُستأصَل” 1.

1- من نصرة الجار إلى خذلانه

هذه الدول المتجاورة على الحدود التي صنعها المستعمر، منها من يعيش في بذخ من العيش، ومنها من يعيش في الفاقة والحرمان، ومن له فضل منها لا يعود به على من لا فضل له، ويبخل به عليه. ولو أنهم قاموا بواجب الجوار والأخوة لعاش الجميع في بحبوحة من العيش، لكنه الجشع والخضوع لإملاءات أعداء الأمة.

اليوم نرى انحطاطا قيميا وأخلاقيا في حقوق جوار الأوطان، حيث يجوع أهل غزة حتى أكلوا حشائش الأرض، وهزلت أبدانهم ومات صغارهم ومرضاهم جوعا، وجيرانهم عاجزون عن نصرتهم بإدخال الغذاء لهم وتكسير الحصار المضروب عليهم. والعدو يحاصرهم شهورا من أجل تجويعهم وتهجيرهم وتركيعهم، ولم يهرع جيرانهم وإخوانهم لنجدتهم وإطعامهم وتكسير الحصار عليهم. قال رسول الله ﷺ: “ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم” 2. هذا حكم من بات جاره جائعا، فكيف إذا بات جاره وأخوه في الدم والدين مجوعا ومحاصرا ومضطهدا؟

ومن حسن جوار الأوطان واجب النصرة، وهذا شعب فلسطين يباد ويقتل أطفاله ونساؤه ولا يوجد من ينهض لنصرته ودفع العدوان عنه، إن لم تكن النصرة بالجيوش والسلاح فلا أقل بالتظاهر والاحتجاج، وإن لم تكن النصرة بالنفير العام للجهاد فلا أقل بالنفير العام للمقاطعة وإسقاط التطبيع.. وتبقى لبنان واليمن تقدم جزءا من الواجب يشكل استثناء في هذا الجوار المتخاذل. فلبنان تفتح جبهة للمواجهة مع الكيان المحتل في جنوبه تشتت به جهود العدو في عدوانه على غزة، وهو جهد المقل، واليمن تحاصر سفن العدو وتقطع الإمدادات البحرية له في مضيق المندب، فتقابل حصاره لغزة بحصار سفنه وإمداداته بحرا، وهو الجهد المستطاع.

2-  من التخاذل إلى التآمر على الجار

يزداد السقوط الأخلاقي في قيم الجوار، بانتقاله من الخذلان عن إطعامهم وكسر الحصار عنهم والتقاعس عن نصرتهم، إلى التآمر عليهم. هذا ما أظهرته القناة 13 الصهيونية، في تقرير لها، خيانة الدول العربية لفلسطين من خلال فتحها الممر البري الرابط بين الإمارات والبحرين والسعودية والأردن وكيان الاحتلال الإسرائيلي لإنقاذ هذا الكيان المجرم من حصار اليمن.

وخطة هذا الممر البري، تم الكشف عنها قبل بدء حرب غزة في اجتماع مجموعة العشرين في الهند، لكن تم تفعيلها بعد حصار اليمن للسفن المتجهة إلى فلسطين المحتلة في خطوة لفك الحصار اليمني عن الكيان المحتل، لإطعامه وإمداده بالغذاء وكل مستلزمات الحياة، وهو يحاصر جيرانهم وإخوانهم في الدم والعقيدة بغزة ويبيد أهلها، وبالمقابل يلقون بالفتات للغزاويين لذر الرماد في العيون وللتغطية على عجزهم وتخاذلهم بل وتآمرهم.

والانقلابيون في مصر يمارسون الحصار عوضا عن الكيان الصهيوني، بعد تدمير الأنفاق وإغراقها، والقضاء على سند غزة في رفح المصرية وسيناء، ويغلقون معبر رفح ولا يفتحونه إلا بأمر الكيان المحتل، وهو المنفذ الوحيد الذي لا يقع على حدود الكيان الصهيوني.

ويبقى التطبيع أكبر مؤامرة وخيانة لفلسطين الجار، باعتراف الجار بحق السارق في مسروق جاره، أرض فلسطين، وبالتعاون مع القاتل المجرم، على حساب دم الجار الفلسطيني وحقوقه التاريخية. فالتطبيع أعطى الضوء الأخضر للكيان المحتل ليتمادى في جرائمه، وما يتسرب من الإعلام العبري يفضح المتآمرين ودورهم في الحرب القذرة على غزة ودعمهم للعدوان.

قالت مجلة “الإيكونوميست” في تقرير لها، الخميس 16 – 11- 2023، إن العديد من الحكومات العربية ترغب بالقضاء على حماس، وأضاف التقرير أن العديد من دول الخليج، على سبيل المثال، ترغب في أن تتخلص إسرائيل من حماس، مع خشيتها من أن يؤدي هذا إلى إيقاظ التطرف في بلدانها. كذلك لفت التقرير إلى أن هذه الدول تتمنى نهاية ما يعرف بـ”محور المقاومة”.

ختاما

لا شك أن مواقف الشعوب منفصلة عن مواقف الأنظمة، فإذا كانت الأنظمة قد تخاذلت وتآمرت، فإن الشعوب ما تخاذلت ولا تآمرت، ولا زالت وفية لحق الجوار والدم والعقيدة، غير أنها مقصرة في القيام بواجب النصرة على أكمله، بسبب العقبات والموانع التي يضعها المطبعون، فإن إسقاط التطبيع خطوة أساسية في نصرة أهل الدار قبل أهل الجار.

وإذا قيل “الجار قبل الدار” فقد قيل أيضا “على قدر الجار يكون ثمن الدار”، وأنعم بها من قيمة أن تكون مجاورا للأرض المباركة، أرض القدس والأقصى، حاميا لحماها ومرابطا في أكنافها، وأبئس بها من قيمة أن تجاور الخونة المتخاذلين.

وإن بعدت المسافة بين الديار والأوطان فهي قريبة معنى ومبنى. فالمغرب الكبير وفي قلبه المغرب الأقصى كان وسيبقى مدافعا عن القدس والأقصى منذ صلاح الدين، وسيبقى أبناؤه مستحضرين واجب جوار الأوطان بجنب جوار الديار، وواجب الولاء لله ورسوله والمؤمنين. ومن الولاء محبة الصابرين الصامدين دفاعا عن الأقصى والقدس، ومعاداة أعداء الله أعداء الدين الصهاينة ومن والاهم لاغتصابهم الأقصى وكل فلسطين، ولتقتيلهم وإبادتهم وتجويعهم وتشريدهم لأهل فلسطين.


[1] عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين، ص56.
[2] رواه الطبراني في الكبير عن أنس بن مالك.