بعض معالم التدين السليم زمنَ الفتنة (1).. سلامة القلب

Cover Image for بعض معالم التدين السليم زمنَ الفتنة (1).. سلامة القلب
نشر بتاريخ

مقال مشترك بقلم: محمد كمال / حسن وفيقي / عبد القادر فرطوطي

تقديم

تحرص أبواق التيئيس؛ مشككة؛ على زرع الرعب والهلع في قلوب الآمنين، فيعتقد السامع أن العالم قد انتهى، وأنه لا مجال للحديث عن مكارم الأخلاق وقيم التضامن والتعاون والتكافل والتراحم والتآزر والتيسير والتبشير وهلم جرا، فيزداد الناس يأسا ومحنا، خاصة إذا انعدم المعيل والمعين، والناصح الأمين الذي يأخذ باليد، ويذلل الصعاب، ويدل على الخير، ويبشر ولا ينفر، يفتح؛ على الدوام؛ كل أبواب الخير، ويغلق كل أبواب الشر، فيهتدي الحائر، وتهدأ نفسه ويطمئن حين تطرق سمعه بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ” [1].

ونحن من الناس يفرحنا ما يفرحهم ويسوؤنا ما يسوؤهم، نتوجه مستبشرين إلى رب العالمين ونقول: “اللهم ناديت عبادك أن يقتحموا العقبة إليك، وأن يجعلوا كل معولهم عليك، وناديتنا أن نكون من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وأمرتنا أن نكون مع الصادقين، فارزقنا صحبة ومعية الذين أنعمت عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. ارزقنا صحبة المحبة والاتباع لرسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وصحبة الرفقة والخلة لورثته. فقد أخبرنا أن المرء على دين خليله وأمرنا أن ننظر ونبحث عمن نخالل. اجعلنا اللهم معهم في الدنيا جهادا، وفي الجنة والنظر إلى وجهك الكريم معادا….” [2]. اللهم آمين.

في ظل هذه الحيرة، نسوق هنا بين يدي القارئ بعض المعالم، نعتبرها منارات يهتدي بها التائه الذي أضناه اليأس والتيئيس، مبشرين إياه بقول رب العالمين: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [3].

نحددها؛ إن شاء الله؛ في ثلاث جامعة مرتبة كالآتي: سلامة القلب، التكسب الحلال، خدمة الناس وقضاء حوائجهم، ونرجو تحقيق ثلاثة أهداف أساسية: هدف معرفي يحيط القارئ بأساسيات هذه الثلاثية، ثم هدف وجداني، يستشعر من خلاله أهميتها وضرورتها في حياته، ثم هدف سلوكي، يخاطبنا جميعا أن: “عرفتم فالزموا”.

المعلم الأول: سلامة القلب

تمهيد

خلق الله تعالى الإنسان، وميزه بالعقل والقلب واللسان، وذرأه في الدنيا دار البلاء والامتحان، إن هو اقتحم عقبة النفس وطهر قلبه فاز بالجنة والرضوان، وإن فسد قلبه وأعرض عن الحق طُبع عليه فتردى في النيران، وكان من أتباع الشيطان.

دلنا الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام على مكمن الداء، ومدار صلاح الإنسان أو فساده حيث قال: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” [4].

القلب المقصود في الحديث الشريف ليس المضغة المادية التي تضخ الدم في جسم الإنسان، وإنما تلك اللطيفة الربانية التي اختصه الله بها، عليها مدار صلاحه أو فساده.

1.  القلوب في القرآن

قال الراغب الأصفهاني في معجمه: “قلب الشيء تصريفه وصرفه من وجه إلى وجه، كقلب الثوب، وقلب الإنسان قيل سمي به لكثرة تقلبه” [5]، وقلب الشيء لبه وفؤاده. وقد ورد ذكر القلب في القرآن على أضرب، قال تعالى في سورة الشعراء: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [6]، وقال تعالى في سورة البقرة: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [7]، وقال في آية أخرى: فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [8]، وقال عز وجل في سورة الرعد: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [9].

من خلال استقرائنا لهذه الآيات وآيات أخرى، يمكن تقسيم القلوب إلى ثلاثة: قلب سليم، وقلب مريض، وقلب ميت مطبوع عليه والعياذ بالله.

فالقلب السليم هو ذلك القلب المطمئن بذكر الله تعالى المتعافى من المرض، وأما القلب المريض فهو الذي يسكنه النفاق وتثخنه سهام الفتن والمعاصي، وأما القلب الميت هو الغافل عن ذكر الله تعالى المغلف بالران، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.

2.  القلب السليم وعلامته

قال الله تعالى حكاية لدعوة إبراهيم عليه السلام: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [10].

القلب السليم كما تبينه السنة المطهرة هو قلب المؤمن الذي يحسن الظن بربه، يرجو رحمته ويخاف عذابه، يحبه ويحب رسوله، لا يتجسس على المسلمين، ولا يحسد، ولا يغتاب، ولا ينمم. وبسلامة القلب وصلاحه يتفاضل المؤمنون.

روى ابن ماجة عن ابن عبد الله عمرو قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال: “كل مخموم القلب صدوق اللسان”، قالوا صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: “هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد” [11]، القلب المخموم هو القلب الذي سلم من أمراض الغل والحسد والبغي والإثم.

 فالقلب السليم إذن هو الذي تطهر واطمأن بذكر لا إله إلا الله، ومن علاماته الرضى والتسليم لله تعالى في سائر الأحوال، والخشوع في الصلوات والأذكار، وحب المؤمنين، وحب الخير للناس وخدمتهم وبذل النصح لهم.

3.  كيف السبيل إلى صلاح القلب وسلامته؟

يجيبنا عن هذا السؤال المهم خبير بالقلوب وعللها، يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: صلاح التيار القلبي الإيماني الساري في أوصال الأمة يكون بصلاح قلوب المؤمنين، وصلاح القلوب يكون بالتربية، يقصد بالتربية هنا التربية على شعب الإيمان، وذلك بتجديد الإيمان في القلوب، فموطن الإيمان القلب، بل هو منطلق الإيمان فإن خبت بواعث الإيمان في القلب، بطل العمل ونطق اللسان نفاقا. ومتى قوي الإيمان في القلب اشتدت بواعث العمل الصالح، ولهذه التربية شروط أولها الصحبة والجماعة، وثانيها ذكر الله تعالى، وثالثها الصدق والإخلاص [12] فمن أراد أن يصلح قلبه ويداويه من أمراض الغفلة وأعطاب الفتن ويسلك به إلى ربه، مقتحما العقبة إليه، لا بد له:

 – مِن صحبة في جماعة يتواصى معها بالصبر والمرحمة فتنمو فيه الإرادة ويستقيم على الجادة ف’المرء على دين خليله، فلينظر أحكم من يخالل’ كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [13].

– مِن ذِكر لله كثير، خاصة ذكر الكلمة الطيبة المجددة للإيمان الباعثة له: بقول لا إله إلا الله والإكثار منها يتجدد الإيمان في القلب، فيصح ويستقيم، روى الإمام أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جددوا إيمانكم» قالوا: يا رسول الله! وكيف نجدد إيماننا؟ قال: «أكثروا من قول لا إله إلا الله».

– من صدق الرجوع إلى الله تعالى، وصدق النية، وإخلاص العبودية له اعترافا وطاعة. وأعلى الصدق صدق طلب وجه الله عز وجل. فذلك هو التطلع إلى مقامات الإحسان والإيقان.

4.  مفاتيح لإحياء القلب وعلاج ما به من علل

ذكر الأستاذ فتح الله أرسلان حفظه الله في سلسلته (القلب السليم) منابع لإرواء القلوب الذابلة وتزويدها بالإيمان وعلاج أمراضها، مِن ذلك:

1- قيام الليل: منبع لينتبه القلب من غفلته ويستيقظ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [14]، وهو دأب الصالحين ووسام المخلصين.
2- الدعاء: مخ العبادة وهو عنوان الافتقار إلى الله عز وجل وعلاج لمرض الكبر وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي.. [15]، وهو كذلك منبع ليقظة القلب وسموه كي يطلب الحاجة العظمى مع الطالبين في الأوقات المباركة التي يستجاب فيها الدعاء حيث ينزل ربنا إلى السماء الدنيا يقول: هل من داع فأستجيب له، والدعاء مع من سبقونا بالإيمان، فهو علاج لأمراض القلب وعنوان للصفاء الذي هو آنية العطاء.

3- الإكثار من ذكر الله: إن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى حتى يطمئن ويخبت، ومن أعظم الأذكار التي أوصانا بها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله الكلمة الطيبة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغفار والتسبيح.

4- القرآن: نور وشفاء وموعظة وهدى، هو منبع آخر لإحياء موات القلب، في الدعاء المأثور ‘اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا’، والربيع في اللغة هو ماء حياة النبات، فالقرآن إذن حياة للقلب وعلاج لسقمه، وإذا كان مع التلاوة تدبر فهو يفتح مغالق القلب وينوره وينمي إرادته للسير إلى الله.

5- الصوم: منبع ينمي عند المؤمن مراقبة الله عز وجل وإخلاص العمل له سبحانه، ويزيد شفافية في الروح، ويذهب من كثافة النفس، فيرق القلب وتذهب قسوته ويلين لخلق الله.

 فهذه أعمال، وأعمال أخرى، يقوم بها المؤمن ويتعلمها في مجالس الإيمان، ويتعاون مع إخوته لتصبح سلوكا يوميا فتترك في قلبه أثرا طيبا وترقى به في مدارج الإيمان متشوفا لمقام القرب والرضوان.

5. سلامة القلب والسلوك الجماعي الجهادي

لا شك أن أمام حاملي رسالة دعوة الإسلام مهمات كالجبال، وإن الاستعداد لها يتنافى مع الغفلة والكسل والسذاجة، فدعوة الإسلام “بحاجة لقلوب عالية الهمة، كما هي بحاجة لعقول راجحة النظر، وشخصيات قارة لا تنفعل انفعالا، بل تستفتي الشرع وتتدبر، حتى إذا عزمت مضت لا يثنيها شيء، فهذا معنى سلامة القلب.. إن القلوب السليمة التي تسير إلى الله عز وجل هي التي تقوم بمهام الجهاد وليس لها من هم إلا الله سبحانه، هذه القلوب وحدها التي يمكن أن تقوم بواجبات الجهاد ومقتضياته، إن مصير الأمة لا يكون في الاتجاه الصحيح إلا إذا كان كل مؤمن وكل مجاهد يسير على أمر الله عز وجل، فيسعى للقائه بتطبيق أمره سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة وإخلاصا” [16].

– يتبع –


[1]  مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري المحقق / المترجم: محمد فؤاد عبدالباقي، صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، الطبعة: الأولى: 1374ه، رقم الحديث:
[2] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 487.
[3] سورة يونس، الآية: 58.
[4] رواه الشيخان عن النعمان بن بشير
[5] نقلا عن أبي العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي، الكتاب: عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، المحقق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1417 ه -1996 م، ج: 3، ص: 330.
[6] سورة الشعراء، الآية: 88.
[7] سورة البقرة، الآية: 10.
[8] سورة المنافقون، الآية: 3.
[9] سورة الرعد، الآية: 28.
[10] سورة الشعراء، الآيتان: 87/88.
[11] https://dorar.net/hadith/sharh/63755
[12] ياسين عبد السلام، الإحسان 1، ص: 21. بتصرف
[13] سورة الكهف، الآية:28.
[14] سورة الزمر، الآية: 9.
[15] سورة غافر، الآية: 60.
[16] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 209.