الوثيقة السياسية للعدل والإحسان بين تخليق الحياة الاقتصادية وربح رهان التنمية الشاملة

Cover Image for الوثيقة السياسية للعدل والإحسان بين تخليق الحياة الاقتصادية وربح رهان التنمية الشاملة
نشر بتاريخ

بين يدي الوثيقة

بإصدار الوثيقة السياسية دخلت جماعة العدل والإحسان مرحلة تفصيل بعض مضامين مشروعها التغييري الذي لا يمكن أن يتحقق بضربة لازب (ص 10 من الوثيقة). وإذا اقتصرت الدائرة السياسية للجماعة في سنوات خلت على الدعوة لحلف إخاء أو لميثاق جامع، فهي اليوم تضع بين يدي كل متتبع لشأنها وللشأن العام المغربي وثيقة من 195 صفحة منقسمة لتقديم وأربعة أبواب. وقد تضمنت الوثيقة في المجمل 777 مقترحا معللا في غالب الأحيان بتحليل مقتضب لواقع حال المغرب في مجالات عدة همت ثلاثية السياسة والاقتصاد والمجتمع. مع التذكير بأن الوثيقة تم تصديرها بعد التقديم بمحور اشتمل على هوية ومرجعية الجماعة، وكذا الأسس والغايات والأهداف والخصائص التي ترتكز وتنبني عليها الوثيقة.

وقبل الخوض في استجلاء بعض ما جاء في المحور الاقتصادي والاجتماعي من الوثيقة والممتد من الصفحة 81 إلى الصفحة 141، فلا بد من ترسيم الإطار الذي يضبط ما سنتطرق إليه. إطار نسوقه من خلاصات تقديم الوثيقة ذاتها ومن محور المنطلقات والأفق فيها، دون أن ننسى استعانتنا ببعض تصريحات قياديي الجماعة خلال وبعد الندوة الصحفية التي خصصت للإعلان عن الوثيقة يوم 6 فبراير 2024. ونجمل ضوابط الإطار فيما يلي:

1. محاور الوثيقة مترابطة وتشكل كلا واحدا، ما يجعل كل قراءة مبتورة قاصرة المعنى، وكل تطبيق انتقائي للمقترحات لن يفي بالغرض على الوجه المطلوب. ومن ثم فسبر الأغوار الكلية للمحور الاقتصادي والاجتماعي من باب التخصص، لا يستقيم إلا بالاطلاع الفاحص لباقي المحاور خاصة المنطلقات والأفق والسياسي. ويمكن القول إن التنمية الشاملة من منظور الوثيقة لا تقتصر على ضبط إيقاع العملية الاقتصادية، بل إن رأس التنمية المنشودة حراك سياسي يتولد عن ثمار مجتمعية بعماد اقتصادي واجتماعي؛

2. التركيز منذ الإعلان على أن الوثيقة تغطي مرحلة لا تتعدى أفق 10 سنوات ما يجعلنا نصنفها كمقدمات بين يدي مشروع تغييري وليست كل المشروع. وما يزكي ذلك هو استعداد واضعيها لتعديل وتطوير ما قد يستدعي ذلك. بل وصياغة الجزء الكبير من الوثيقة بلغة سياسية تنهل من المشترك من قبيل التركيز طوال الوثيقة على رهان التنمية الشاملة حتى وإن كانت الغاية الأصلية والأصيلة هو تحقيق مجتمع العمران الأخوي (ص 22 من الوثيقة)؛

3. الحرص من قياديي الجماعة على تصنيف الوثيقة على أنها بين ما هو مذهبي وما هو برمجي دون أن يتم اعتبارها أنها برنامج انتخابي لربح الأصوات. وهذا يجعلها في منتصف الطريق بين الرؤية البعيدة المدى والاستراتيجية المظروفة في الزمن بمتغيرات الواقع.

مطلب تخليق الحياة الاقتصادية

حتى وإن تعددت المقترحات التفصيلية في المحور الاقتصادي والاجتماعي، وأخذت في غالب الأحيان أبعادا قطاعية، إلا أن روحها تكمن في ضرورة تخليق الحياة الاقتصادية للمغرب. وهذا يضعنا أمام أولوية الاقتصاد المعياري قبل الاقتصاد الوضعي والإجرائي. أو بعبارة أخرى أولوية القيم الدافعة عن الحديث عن آليات الاشتغال وتوليد الثروة وتوزيعها. جدلية تبرز على السطح عند كل أزمة اقتصادية خانقة.

يظهر مطلب التخليق منذ بداية المحور المذكور، من خلال عنوانه الفرعي الذي ركز على ثلاثية العدالة والتكافل والتنمية المستدامة كقيم دافعة لا بد منها لتحقيق التنمية الشاملة. ثلاثية يبدو أنها تنسجم مع أسس بناء الإنسان والعمران الأخوي ودولة الحقوق.

يظهر أيضا مطلب التخليق من خلال تسليط الضوء على منبع الاختلالات الهيكلية الاقتصادية قبل الحديث عن التمظهرات من قبيل الفوارق أو البطالة أو الفقر. ففي نظر الوثيقة، تتمثل أسس الأعطاب التنموية في تركيز الثروة مضاف إليه الريع والفساد والتوزيع غير العادل وقصور الاختيارات والسياسات العمومية المتبعة لعقود. والمحصلة اقتصاد ظاهره الثروة وواقعه يغدق فقرا وفوارقا.

يتجلى مطلب التخليق أيضا من خلال مضامين بعض المرتكزات الستة التي وضعتها الوثيقة شرطا لتحقيق رهان التنمية الشاملة. ومن ذلك ما جاء في مرتكز الاقتصاد المسؤول (ص 83 من الوثيقة): “… فلا يجعل الإنسان آلة أو يجعله يلهث وراء حاجيات ورغبات مادية لا تنتهي”. كما يمكن الوقوف ضمن مرتكز “اقتصاد أخلاقي” عند مقولة إن الفضائل الأخلاقية أساسية لزرع الثقة وتجذرها في العمليات الاقتصادية. ناهيك عن الحديث ضمن ذات المرتكزات عن آليات التوزيع المنصف والمتوازن مجاليا – اقتصاد العدل – أو عن ضرورة جهاز مؤسساتي فعال لمراقبة مدى احترام شروط المنافسة بعيدا عن الاحتكار واستغلال النفوذ والتفضيلات غير المشروعة.

كخلاصة أولى، لن يكون للتنمية الشاملة من مضمون ما لم تتبلور إرادة سياسية حقيقية لتخليق الحياة الاقتصادية قصد تجاوز الاختلالات العميقة والهيكلية دونما حاجة لتكسير دوران العجلة الاقتصادية. من منظور الوثيقة عدم التصدي للبنية الريعية الاقتصادية والاكتفاء بالتجديد المنمق والنمطي للآليات والعمليات والمشاريع والاستراتيجيات هو ما يجعل كل الدعوات لتصحيح المسار التنموي صرخة في واد الضياع الاقتصادي.

ربح رهان التنمية الشاملة

إن الشرط اللازم لربح رهان التنمية (ص 82 فقرة 3 من الوثيقة) متوقف على توفر الإرادة الحقيقية وتظافر جهود كل الفاعلين، واستثمار الفرص المتاحة، وحسن استعمال المقدرات المتوفرة.

ونستخلص من الوثيقة الأدوار المنوطة بالفاعلين على النحو التالي: تلعب الدولة دور الربان الموجه والمحفز والمواكب والمنتج للسلع والخدمات الاجتماعية، على أن يقوم القطاع الخاص بإنتاج الثروات وتشغيل الكفاءات والمساهمة في تنزيل الاستراتيجيات، وأن يتم توسيع مجال تدخل التعاونيات في توليد الثروة وتستمر باقي مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي في تصحيح الآفات الاقتصادية والاجتماعية.

من خلال ما سبق ودون إعادة إنتاج مضامين الوثيقة المكملة والمبينة لما سلف، فنحن أمام مطلب نظام اقتصادي تشكل فيه المبادرة الحرة قطب الرحى لكن بتوجيه مرن نحو المصلحة العامة من طرف الدولة، مع ضرورة احتفاظ هذه الأخيرة بأدوارها الاجتماعية خاصة في الأمن والعدالة والصحة والتعليم والبنيات التحتية. نظام أبعد ما يكون عن الاقتصاد “الرأسمالي الريعي” (ص 90 فقرة 1 من الوثيقة).

يمكن القول مما سلف إن الطرح الاقتصادي والاجتماعي لجماعة العدل والإحسان من خلال وثيقتها السياسية ينطلق من السوق الموجه المحترم للأخلاقيات، وفي نفس الوقت يلزم الدولة أن تكون موجها للمصلحة العامة ومحتفظة بل منتجة للسلع والخدمات الاجتماعية. وهذا طرح لا هو بالمنحاز للرأسمال ليصنف رأسماليا، ولا يطلق العنان للسوق ليصنف ليبراليا، وفي الوقت ذاته لا يعطي للدولة حق الهيمنة والتخطيط الجامد حتى يصنف اشتراكيا. هو طرح بتوليفة تحتاج لصناعة مصطلح جديد قد تصعب صياغته في المعجم المشترك الحالي. لكن دعونا نقترب منه بتسميته “اقتصاد متمحور حول الإنسان”.

الإشكال الذي طرحناه للتو، هو مطروح أيضا بخصوص تعريف التنمية الشاملة، والتي لم تضع لها الوثيقة مضمونا محددا ضمن محورها الاقتصادي والاجتماعي. محور أسهب في متطلبات المرحلة في باب السياسة الاقتصادية لمجالات عدة، ووقف عند آليات التمويل وبعض مظاهر العدالة الاجتماعية. قد نستشف مضمون التنمية الشاملة في موقع آخر من الوثيقة (ص 22 فقرة 3) “… فإننا في العدل والإحسان نؤكد على أهمية الأبعاد المادية للتنمية، لكن لا نتصور تحقيق أي نمو اقتصادي أو تقدم تكنولوجي أو تطور سياسي وتنظيمي دون استحضار الأبعاد التربوية والأخلاقية…”. المنطلق واضح، قبل السوق وجعجعته وما يقتضيه من سياسات وتنظيم لا بد من التربية والأخلاق.

كخلاصة ثانية، إذا كانت التنمية الشاملة هي المبتغى والتخليق هو المنطلق فذاك يعني أنه بدون تخليق للحياة الاقتصادية فمهما صفت النية فالمحصلة ستنتج ولو جزئيا نفس الأعطاب، وليأخذ قطار التنمية سكته الصحيحة فالجواب من منظور الوثيقة هو في القاطرة التي يجب أن تتولد عنها الإرادة السياسية اللازمة للإقلاع.

تحليق فوق مقترحات المحور الاقتصادي والاجتماعي

مقترحات المحور الاقتصادي والاجتماعي للوثيقة السياسية للعدل والإحسان والتي بلغ عددها 314 مقترحا، ابتدأت بالمقترح 221 وانتهت بالمقترح 534.

وإذا بدت جل المقترحات متقاطعة مع ما وصلت إليه اجتهادات الحكمة الاقتصادية والاجتماعية البشرية، إلا أن المضمون التربوي والأخلاقي لم يغب عن الكثير منها. والقارئ لمجموعة من المقترحات يفهم أن واضعي الوثيقة قاموا بمراعاة مبدأ التدرج وعدم تكسير دوران عجلة الاقتصاد خاصة في مواضيع شائكة ومنها المنظومة المصرفية والتي يصعب غض الطرف فيها لمن ينهل من الشرع الإسلامي. في المقابل تم الحسم في مقترحات أخرى بخصوص ضرورة تفكيك بنية الريع وما يرتبط بها. وتجدر الإشارة أنه تم التركيز في الصفحات من 123 إلى 125 من الوثيقة على ضرورة جعل الأوقاف والزكاة مصادر وازنة لتمويل الاقتصاد وفق آليات ومساطر مبتكرة.

لا يسعنا المجال في هذه السطور لتفكيك بنية المقترحات وكل مضامينها، ولا يهمنا في هذا المقام التمحيص في التقطيع القطاعي أو الوظيفي المعتمد لتصريف المقترحات، ولا نروم أيضا من خلال تحليقنا هذا إثارة الجدل حول منطق المصالح المتداخلة في عالم معولم عند ذكر سلاسل الإنتاج العالمية أو التجارة الخارجية أو الرأسمال الأجنبي أو التمويل الخارجي.

ما يستوقف القارئ هما شكلين من التعابير المضمنة في بعض المقترحات:

1. الشكل الأول مرتبط باستنتاج للتهديدات المحيطة بالاقتصاد المغربي والتهمم بالمستقبل الاقتصادي والاجتماعي للبلد؛ فتجد عبارات من قبيل: السيادة الرقمية، الأمن الغذائي، الأمن الطاقي، الاستقلال الاقتصادي، الأمن الرقمي، إعادة النظر في الاتفاقيات، الحفاظ على البيئة والموروث، مراجعة عقود استغلال الاستكشافات الغازية بما يحقق مصالح المغرب، سيادة المغرب على مخزون الفوسفاط، تقليل الاعتماد على الخارج، إعادة تقييم اتفاقيات التبادل الحر، تشجيع الإنتاج الوطني، استرجاع الدولة لسيادتها على مصادر الثروة، تعبئة الادخار الوطني، إلزام الشركات الأجنبية بإبرام اتفاقيات شراكة مع المقاولات الوطنية…

2. الشكل الثاني مرتبط بوضع سلم الأولويات الاقتصادية بشكل يراعي مبدأ الاستقلالية الاقتصادية، ومن ذلك: سد الحاجيات الأساسية أولا، أسبقية النفقات الضرورية على الكمالية في وضع الميزانية السنوية للدولة، السياحة الداخلية أولا، تقييم الجدوى وضمان الشفافية، إعطاء الأولوية للتنمية المحلية، ضبط الطلب على الماء الموجه للقطاع الفلاحي، تعزيز ثقافة الاستهلاك المسؤول، إعطاء الأولوية للتخفيف من عبء استرداد الدين على ميزانية الدولة، تمكين السكان من موارد مجالهم، توحيد أنظمة التقاعد ودمجها في صندوق واحد…

كخلاصة ثالثة، تتراوح المقترحات المقدمة في المحور الاقتصادي والاجتماعي بين مقترحات مؤسسة تحتاج لإرادة واجتهاد عملي وطول نفس بل ولمصانعة لجيوب مقاومة التغيير؛ وبين مقترحات أقرب ما تكون للأجرأة في أي سياق كان حتى وإن اختلفت المنطلقات أو النتائج. ويبقى سؤال التنزيل الأمثل لرزنامة المقترحات الاقتصادية والاجتماعية رهينا لضرورة توفر الإرادة الباحثة عن تخليق الحياة الاقتصادية أولا مع ما يقتضيه ذلك من تدافع وتقاطبات وتجاذبات.

في سياق متصل

لقد انخرط جل الفاعلين السياسيين خاصة الرسميين خلال السنوات الثلاث الأخيرة في سياق النموذج التنموي الجديد، والذي صدر تقريره العام في أبريل 2021، لكن الظاهر هو أن جماعة العدل والإحسان من خلال الدائرة السياسية التابعة لها غردت خارج السرب بإصدارها لوثيقتها السياسية بتاريخ 22 أكتوبر 2023 وإعلانها بتاريخ 6 فبراير 2024. علما أنه حسب تصريحات قياديي الجماعة، الوثيقة ما هي إلا صيغة محينة لمثيلاتها التي أعدت منذ سنوات ولم يتقرر إصدارها.

إذن أتت الوثيقة عكس التيار لتسائل بشكل مغاير المسار التنموي للبلد من خارج الصندوق كما يقول الإنجليز؛ ولتضع للتنمية الشاملة للمغرب موازين جديدة وترسم لها منطلقات ومعالم سياسية واقتصادية واجتماعية ومجتمعية، قد يبدو بعضها متقاطعا مع النموذج التنموي الجديد لكن في العمق هناك تباينات حد القطيعة في أمور جوهرية اعتبرها النموذج مسلمات في حين جعلتها الوثيقة إشكالات.