“الوثيقة السياسية”.. أصالة راسخة أم واقعية سياسية؟ (2)

Cover Image for “الوثيقة السياسية”.. أصالة راسخة أم واقعية سياسية؟ (2)
نشر بتاريخ

يحق للمتتبع المنصف القول باطمئنان إن ما أنتجته جماعة العدل والإحسان في وثيقتها السياسة هو مشروع أرضية صلبة تبتغي التأسيس لتعاقد مجتمعي متين، بمقاربة تشاركية لا تقصي أي مكون من مكونات الشعب المغربي، بغض النظر عن خلفيته الثقافية أو السياسية، أو حجمه التمثيلي، ما دام الكل مصطفّا في صف مناهضة الاستبداد والفساد، وملتزمًا بقيم التسامح والاحترام المتبادل.

قد يجد بعضهم أن الجماعة لم تأت بجديد يذكر في طرحها السياسي يختلف عما تزخر به أدبيات النظرية السياسية الحديثة. والحاصل أن الجماعة لم تزعم يوما أنها تريد القفز عما أنتجته الحكمة البشرية من معارف، وكان هاجسها في كيفية الإفادة من تلك المعارف دون أن تقتبس معها روحًا غريبة عن هويتها الإسلامية، وهنا يكمن جزء مهم من إنجاز “الوثيقة”.

نعم، إنّ ما يلفِت النظر عند أول قراءة للوثيقة هو كثافة استعمالها لمفاهيم تنتمي إلى معجم السياسة الحديثة. وهو ملحظ مهم، خاصة إذا استحضرنا الانتقاء الشديد الذي توليه الجماعة  لنوعية مفردات خطابها. فكيف إذن يمكننا فهم هذا التوظيف المفاهيمي في خطاب الوثيقة في علاقته بأصالة مشروع الجماعة؟

لقد أولى الإمام عبد السلام ياسين -رحمه الله- أهمية بالغة في مكتوباته للتأصيل لعمق الفكرة الإسلامية وتخليصها من كل شائبة، ولإكساب العقل المسلم حصانة نقدية قوية ضد الغزو الفكري الذي ابتلي به العالم الإسلامي. ولذلك، نبّه إلى خطر الاقتباس من منظومات فكرية تختلف في جوهرها عن جوهر الإسلام، وأن الخطر يصير ماحقا إذا جاء الاقتباس في معرض التأصيل للمشروع الإسلامي. وحذّر -رحمه الله- من مغبة الاستخفاف بحمولة المفاهيم المستوردة وما تتضمنه من معان لصيقة مستنكَرة يصعب فصل بعضها عن بعض، وأن بعضها يحمل معه منظومة فكرية بأكملها لا يتفطن إليها المقتبسُ المنبهرُ حتى تنمو وتترعرع فإذا ما كان يظنه اقتباسا جزئيا يكشف عن أخطبوط ضخم ينسف المشروع الإسلامي من داخله.

لقد كان -رحمه الله- ذا بصيرة ثاقبة وإخلاص كبير للفكرة الإسلامية، لا يتساهل في استعمال مفاهيم غريبة عن بيان القرآن والسنة إلا لضرورة معتبرة. ولكمال بصيرته لم يدعُ أبدا إلى الانقطاع عن الواقع، أو الانغلاق على الذات، ولا إلى الاستنكاف عن الإفادة مما عند الآخر من سبق معرفي في شتى المجالات. كان -رحمه الله- يدرك أن نهضة المسلمين تمر بالضرورة عبر الاستفادة اليقظة من التجارب البشرية، غربا وشرقا، لذلك، شدد على أهمية  الحس النقدي في عملية الإفادة تلك، وبيّن شروطه، وبسط أدواته التشريحية: تدقيقا في المفاهيم، وبحثا عميقا في جذورها، وكشفا عن أبعادها المستترة، وتمييزا لصالحها من فاسدها، ومحذرا من الانبهار الانهزامي بما عند الآخر من سبق دنيوي. كل ذلك، يحكمه ويؤطره ما كان يُذكّر به دائما: معيار الإخلاص والولاء المطلق للقضية الإسلامية، معيار العبودية لله تعالى، أولا وأخيرا.

وقد استطاع -رحمه الله- أن يبث هذا الوعي الحاد في صفوف إخوانه أفرادِ جماعة العدل والإحسان، لينطلقوا مشتبكين مع واقعهم بكل ثقة وثبات، محصَّنة أصولهم من خطر الاستلاب الداهم، مجتهدين لمرحلتهم بجرأة الأمناء الأقوياء، لا يثنيهم شيء عن الإدلاء الصادق والمسؤول بشهادتهم على عصرهم كما فعل من سبقهم بإحسان. 

لقد أبان العقل السياسي للجماعة عبر “الوثيقة” عن كفاءة وجرأة عاليتين من خلال قدرته على الغوص عميقا في فهم لوازم الواقع بأبعاده المتعددة، وتفطّنه المتجدد للمسافة الفاصلة بين ما تنشده الجماعة من غايات، وما تشهده العين من واقع معقدٍ يتطلب حكمةً نافذة تربط المشهود بالمنشود، ربطَ رفق  وحكمة، حيث صاغ خطابا سياسيا مرحليا، جدير به المساهمة الفعالة في التأسيس العملي لوطنٍ مشترك يتسع لكل أبنائه وبناته حريةً وعدلا وكرامة، جامعًا بين صلابة عمق الأصالة ورشاقة الإفادة من جديد الحكمة البشرية في استيعاب حركية الواقع.

قد يصعب على بعضهم فهم ومجاراة هذا المنهج الجامع بين صلابة وثبات فقه الواجب ومرونة فقه الواقع، بين المنطق الحدّي، الثنائي القطبي، الذي تنحصر قضيته في الفصل القاطع بين مطلق الخير ومطلق الشر، ومنطق التدرج المتعدد المستويات، الذي ينتبه إلى ما يوجد بين هذين القطبين المتباعدين في أرض الواقع من مستويات متنوعة. فرغم ما للأول من أهمية بالغة في عملية بناء المبادئ والمثل العليا للفرد والجماعة، إذ به يُعرف مطلق الحق من مطلق الباطل، لكنه على أهميته القصوى تلك يبقى غير كاف للتعامل مع الواقع إذا لم تنعشه رياحُ حكمة قانون التدرج، بل “شريعته” بتعبير الإمام رحمه الله. ذلك أن الحق حقوق، وحق أسبق من حق، والباطل أباطيل، وباطل أضر من باطل، والحكيم من يميز بين هذا وذاك، ولا يتجاهل أو يستخف بحقائق الواقع التي لا تطاوع قِيَمه، ولا تستهويه الأطروحات السطحية المحلقة في عالم الخيال لِما تقدمه من حلول سهلة وسريعة تريح عقله من تعقيدات الواقع، وتدغدغ عاطفته بانتصارات وهمية، فهو يتدرج في معالجة واقعه بكل ثقة وثبات، لأنه يحسن التفريق بين موجبات التدرج و”تبريرات” التدحرج.

إنه يستحيل المضي قُدمًا في عالم السياسة باستعداد فقير من فقه الواقع مهما كانت النوايا طيبة. ومَن يسكنه هَمّ التغيير الفعلي، ويترك أريكته لينزل إلى الساحة، يجتهد في البحث عن سبل ووسائل تنزيل مشروعه إلى عالم الواقع، متدرجا نحو أفقه الاستراتيجي حسب إمكان المرحلة، سيعلم أن التغيير يقتضي ترتيبا معينا للأولويات، والصبر على أضرار أخف من أجل مواجهة ما هو أخطر وأشد، في تدرج لطيف رفيق يراعي الظرف والسياق، وينظر بتبصر في المآلات.

على العقول المسلمة الغيورة على دينها وأمتها، أن تنظر بتجرد من كل وهم في حاضر المسلمين الأليم، وأن تبدع في إيجاد التوازن المطلوب: بين ما يقتضيه واجب بيان الحق من الباطل، وبين مرونة التدرج التي يفرضها واقع الحال. لا بد لها، وهي تقوم بقطيعة كبرى مع الوهن والاستبداد، أن تبدع في إنشاء تحالفات مع غيرها من العقول السياسية ذات المرجعيات المختلفة، لا يخيفها الاختلاف، ولا تتعالى على حقائق الواقع، بل تقتحم كل ذلك بثبات وفطنة، بعقلٍ يعي جيدا قوة الأرض التي يقف عليها، وهي الإسلام، وما توفره من إمكانات التحليل والتفكيك والاحتواء وإعادة الصياغة لأي منظومة، مهما عظم شأنها.

إنّ وعي “الوثيقة” بكل ذلك يظهر جليا في كل محاورها وفقراتها ظهورا يعكس بصدق ما استهلّت به مضامينها عندما وَجّهت قُراءها إلى منهجيتها المعتمدة في كلمات تنضح حكمة، جاء فيها:

“ينطلق المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان من رؤية مرجعية تقوم على الاتصال بين القيم الإسلامية والحكمة البشرية في تفاعلها مع الواقع الإنساني والاجتماع البشري، ولذلك فإن مطلب ترسيخ القيم الإسلامية ليس إجراء زجريا يتم فرضه على الأفراد والمجتمعات، بقدر ما هو فعل تربوي وعمل دؤوب يتغيى التدرج في تنزيل مبادئ الإسلام وقيمه ومقاصده في حياة الأفراد والمجتمع.

ويقتضي العمل على ترسيخ القيم الإسلامية والإنسانية ضرورة تجديد الرؤى وإحكام التصورات التي تراعي متغيرات الواقع وتحولات المجتمع دون إهدار المقاصد الكبرى، ودون تردد في القبول بفضائل الحكمة الإنسانية وما أثلته من قيم مثلى” (الوثيقة السياسية، ص 23).

وختاما، وردا على سؤال عنوان المقال، هل نحن بصدد أصالة راسخة أم واقعية سياسية؟ والجواب في اعتقادي أننا إزاء هذه وتلك، واقعية حكيمة بأصالة راسخة.