النصر المحرز.. بداية انتهاء مسلسل النكبة

Cover Image for النصر المحرز.. بداية انتهاء مسلسل النكبة
نشر بتاريخ

شاهد العالم أجمع انتصار المقاومة الفلسطينية على المحتل الصهيوني بما يملكه من ترسانة أسلحة قوية، يستغلها دون انضباط للقوانين الدولية في دك المباني المدنية وتقتيل الأطفال والرجال والنساء والشباب وتهجير أصحاب الأرض بشكل قسري..

انتصار أعقب مواجهات دامت طيلة شهر رمضان الفضيل بعد محاولات فاشلة لعزل المسجد الأقصى عن رواده المسلمين، وتهجير المقدسيين عن أرضهم خاصة في حي الشيخ جراح لصالح اليهود تحت طائلة حكم قضائي أصدرته محاكم الاحتلال، وبقوة السلاح، ليدخل قطاع غزة على خط المقاومة انتصارا للمسجد الأقصى، الأمر الذي أربك حسابات المحتل ليطلب الهدنة بين الطرفين.

كل هذا يحدث أثناء إحياء الفلسطينيين – أبناء وأحفادا – ذكرى 73 سنة من طرد اليهود أباءهم من أراضيهم سنة 1948م، وهو العام الذي عرف بعام  النكبة، أحيوا الذكرى على إيقاع نفس الجرائم، غير أن المقاومة فصلت المعركة لصالح أصحاب الأرض، فجاء الإحياء بطعم النصر، بما يدل أن عهد “النكبة” إلى زوال بحول الله تعالى.

ما قصة عام النكبة؟ ولماذا يوجد في القرن الواحد والعشرين وبوجود منظمة الأمم المتحدة لنشر السلم العالمي صراع حول الأرض والوطن؟

عام النكبة

عام النكبة تسمية تطلق على عام 1948م الذي تم فيه احتلال معظم أراضي فلسطين  من قبل الحركة الصهيونية، وطرد ما يربو على 750 ألف فلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين، عبر عشرات المجازر والفظائع وأعمال النهب ضد الفلسطينيين، وهدم أكثر من 500 قرية، وتدمير المدن الفلسطينية الرئيسية وتحويلها إلى مدن يهودية، وطرد معظم القبائل البدوية التي كانت تعيش في النقب، ومحاولة تدمير الهوية الفلسطينية ومحو الأسماء الجغرافية العربية وتبديلها بأسماء عبرية.

لكن القصة لم تبدأ من هنا، بل فصولها تعود إلى القرن التاسع عشر؛ الذي اشتد فيه التنافس الامبريالي بين الدول الأوربية بحثا عن مصادر جديدة للمواد الأولية من ذهب وفضة وحديد وأراضي خصبة  ومنتوجات فلاحية وتوابل وحرير.. لينقسم العالم إلى امبراطوريات استعمارية وشعوب مستعمرة. لكن ما علاقة فلسطين بكل هذا؟

كانت فلسطين تحت حكم الامبراطورية العثمانية منذ سنة 1516م، ويقصد بها الأراضي الواقعة على الساحل الشرقيّ للبحر الأبيض المتوسط​​، ويتحدّد موقعها الفلكيّ بين خط عرض 32 درجة شمالاً، وخط طول 35 درجة، وتبلغ مساحة أراضيها حوالي 27.026 كيلومتراً مربعاً.

ومن أجل موقعها الجغرافي الاستراتيجي لم تسلم فلسطين من الأطماع الاستعمارية التي سعت بكل السبل وشتى الوسائل إلى القضاء على الامبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على أهم الطرق التجارية البحرية والبرية الرابطة بين إفريقيا وأوربا إلى آسيا.

ومع اشتداد التنافس الاستعماري ظهرت الحركة الصهيونية بأوربا، وهي حركة سياسية يهودية هدفها بناء وطن قومي لليهود الذين كانوا في هذه الفترة يعيشون خاصة في شرقي أوروبا، تحت نير اضطهاد مكثف من قبل سلطات الامبراطورية الروسية، وحكومات أوروبية أخرى.

جذور القضية الفلسطينية

يعتبر تأسيس الحركة الصهيونية بأوربا، بزعامة حاخامات وكبار التجار اليهود، اللبنة الأساس في الصراع القائم إلى يومنا هذا حول الأرض والوطن والهوية. وقد عقد أول مؤتمر لهم بمدينة بال السويسرية  في أغسطس 1897م برئاسة “تيودور هرتزل” الذي حدد في خطاب الافتتاح أن هدف المؤتمر هو وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود، وأكد أن المسألة اليهودية لا يمكن حلها من خلال التوطين البطيء أو التسلل بدون مفاوضات سياسية أو ضمانات دولية أو اعتراف قانوني بالمشروع الاستيطاني من قبَل الدول الكبرى.

وقد حدد المؤتمر ثلاثة أساليب مترابطة لتحقيق الهدف الصهيوني، هي: تنمية استيطان فلسطين بالعمال اليهود الزراعيين، وتقوية وتنمية الوعي القومي اليهودي والثقافة اليهودية، ثم أخيراً اتخاذ إجراءات تمهيدية للحصول على الموافقة الدولية على تنفيذ المشروع الصهيوني. والأساليب الثلاثة تعكس مضمون التيارات الصهيونية الثلاثة: العملية (التسللية)، والثقافية (الإثنية)، والسياسية (الدبلوماسية الاستعمارية).

بيد أن الحركة الصهيونية لم تنجح في مساعيها إلا بفضل الظروف السياسية التي سادت العالم في بداية القرن العشرين، والتي تأزمت أكثر باندلاع الحرب العالمية الأولى. ومع إعلان المملكة المتحدة الحرب على الدولة العثمانية في نوفمبر 1914م بدأ مجلس وزراء الحرب البريطانيّ يناقش مستقبل فلسطين تحت تأثير اللوبي الصهيوني من أصحاب المال.

وبتوصل الحرب العالميّة الأولى إلى طريق مسدود، وحاجة بريطانيا إلى المال والدعم تم إصدار وعد ضمن في رسالة بتاريخ 2 نوفمبر عام 1917 من وزير خارجيّة المملكة المتحدة “جيمس آرثر بلفور”  إلى اللورد “ليونيل دي روتشيلد”؛ أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا.  نُشر نص الوعد في الصحافة في 9 نوفمبر عام 1917، وعرف تاريخيا بوعد بلفور، ويعد أحد أهم أسباب نجاح الحركة الصهيونية في الاستيطان بفلسطين، وهذا مقتطف من الرسالة المشؤومة:

“تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.

لقد أصبح السعي إلى بناء وطن قومي لليهود بالأراضي الفلسطينية يعرف دعما دوليا، فبعد وعد بلفور أصدرت عصبة الأمم التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى صك الانتداب لصالح بريطانيا وجعل فلسطين تحت وصايتها بعد تفكيك الامبراطورية العثمانية التي خسرت الحرب وتم تقسيم أراضيها.

أضفى صك الانتداب الشرعية  على بريطانيا لتنفيذ وعدها في تمليك من لا يستحق أرضا هي في الأصل لا تملك شبرا منها؛ فالانتداب سهل على بريطانيا  بذل الجهد في تسهيل تحقيق غاية الحركة الصهيونية، ففتحت الباب لهجرة اليهود من أصقاع العالم للاستيطان بفلسطين، وملكتهم الأراضي والمنازل، وسهلت لهم سبل تأسيس النواة الأولى للدولة اليهودية من خلال تأسيس الوكالة اليهودية التي ارتكبت مجازر عدة في حق الفلسطنيين.

عاش الفلسطينيون في منتصف القرن العشرين يكافحون الانتداب البريطاني والهجرات اليهودية التي كثرت وبوتيرة سريعة، ليزداد الأمر سوءا بحصول الحركة الصهيونية على دعم دولي آخر في منتصف الحرب العالمية الثانية بإعلان الكونغرس الأمريكي دعمه لليهود بإنشاء وطن قومي لهم بفلسطين بعد ضغط اللوبي المالي الصهيوني.

تأسيس دولة يهودية وتقسيم فلسطين

أصبحت قصة احتلال فلسطين عندها بداية واضحة مع إعلان منظمة الأمم المتحدة التي تأسست بتاريخ 24 أكتوبر 1945م، وتشمل أهدافها الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وحماية حقوق الإنسان، وتقديم المساعدات الإنسانية. تم تقسيم فلسطين عبر قرار يحمل رقم 181، والذي أُصدر بتاريخ 29 نوفمبر 1947م بعد تصويت 33 دولة لصالح القرار مقابل 13 دولة فقط ضده و10 دول امتنعت عن التصويت.  ويتبنّى هذا القرار خطة تقسيم فلسطين القاضية بإنهاء الانتداب البريطاني  وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة، وهي:

– دولة عربية: تبلغ مساحتها حوالي 4,300 ميل مربع (11,000 كـم2)، ما يمثل 42.3% من فلسطين، وتقع على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوباً حتى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر.

– دولة يهودية: تبلغ مساحتها حوالي 5,700 ميل مربع (15,000 كـم2)، ما يمثل 57.7% من فلسطين، وتقع على السهل الساحلي من حيفا وحتى جنوب تل أبيب، والجليل الشرقي بما في ذلك بحيرة طبريا وإصبع الجليل، والنقب بما في ذلك أم الرشراش أو ما يعرف بإيلات حالياً.

– أما القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة، فتم إخضاعه لوصاية دولية.

وكان هذا القرار من أول محاولات الأمم المتحدة لحل القضية الفلسطينية ظاهريا، لكن بعد سنة واحدة، وبالضبط يوم 14  مايو 1948م، وبعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في نفس اليوم، أعلن ديفيد بن غوريون الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية قيام الدولة الإسرائيلية وعودة الشعب اليهودي إلى ما أسماه أرضه التاريخية. وهو الإعلان الذي نال الاعتراف به من طرف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي بعد دقائق فقط.

لكن أين كانت الدول العربية الإسلامية من هذا التقسيم لأرض مقدسة في عقيدتهم؟ وكيف وافق الفلسطيني على إشراك الآخر في أرضه ومنزله ومقدساته؟

أثناء توظيف الحركة الصهيونية كل السبل والمال لتحقيق غايتها، كانت الدول العربية الإسلامية قابعة تحت نير الاستعمار، وكل الشعوب المسلمة تكافح من الخليج إلى المحيط لفك قيود الظلم مثلها مثل الشعب الفلسطيني الذي تعرض للتشريد والتشتيت والقتل والتهجير، وبشكل مكثف وتحت أنظار الأمم المتحدة والدول الكبرى.

فبعد يوم واحد من الإعلان الرسمي لتأسيس دولة إسرائيل، التي لم تقبل عمليا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي حدد مساحتها الجغرافية، لأن الهدف الذي خطط له في القرن التاسع عشر كان واضح المعالم ويتلخص في بناء وطن قومي لليهود من البحر إلى النهر، شنت منظماتها المسلحة حملات تطهير وتقتيل وهدم القرى وطرد الفلسطينيين.

بعد عام النكبة، ومنذ 73 سنة، أصبح الشعب الفلسطيني مشتتا، إما فلسطينيو الداخل؛ يعيشون تحت حكم “الدولة الإسرائيلية” ويلقبون بـ”فلسطينيي 48″، أو فلسطينيو الضفة الغربية وغزة. واللاجئون  بالدول المجاورة كلبنان والأردن وسوريا يعيشون في مخيمات اللجوء، بالإضافة إلى اللاجئين بالدول الأوربية.

هل انتهت قصة “النكبة”؟

الآن في 2021م، وبعد أن قطعت الإنسانية شوطا طويلا في الدفاع عن حقوق الإنسان ورفض كل شكل من أشكال التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين، يشاهد العالم عبر الشاشات قوما يعيشون نهارهم وليلهم تحت القصف، ومنازل تهدم على رؤوس أصحابها وهم نيام جراء الصواريخ التي لا تفرق بين مشفى أو حي أو مدرسة..

أبناء قتلى وأمهات ثكلى ذنبهم أنهم أصحاب أرض رفضوا بيعها أو تركها، أرض يسقونها بدمائهم لأنها مسرى الرسول وأولى القبلتين، أناس ارتضوا لأنفسهم مرارة العيش وقهر الحياة وذلها تحت ظلم الاحتلال من أجل بيت المقدس وأكنافه، صابرين مدافعين عنه بالحجارة وبأعمارهم التي تضيع في غياهب سجون الاحتلال أو برصاصة غادرة..

قصة فلسطين قصة سرقة أرض وتاريخ وهوية، قصة تحالف الاستكبار الاقتصادي العالمي مع الأنظمة الاستبدادية والترسانة الإعلامية؛ التي تحاول جعل الظالم ضحية، وصاحب الأرض دخيلا، والكيان العنصري الإرهابي صاحب حق ديني.

لذا عندما يدرك كل مسلم أينما كان وكيفما كان؛ حاكما أو محكوما، غنيا أو فقيرا، مثقفا أو أميا، رجلا أو امرأة، أن القدس وكل ما يحيط به أرض ليست للفلسطينيين فقط وإن كانوا أولى الناس بها، إنما هي أرض المسلمين جميعا، أولى قبلتهم، ومسرى نبيهم، هي عرضهم الذي إن قبلوا انتهاكه ستكون نهايتهم جميعا.. عندما يعم هذا الوعي فلن تستمر النكبة، وسنمضي من نصر إلى نصر بإذن الله تعالى حتى تتطهر الأراضي المقدسة من دنس المحتل الصهيوني.

المراجع المعتمدة:

  • تاريخ فلسطين الحديث – عبد الوهاب الكيالي.
  • فلسطين والانتداب البريطاني 1939 1948 – فلاح خالد علي.
  • النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود – عارف العارف.
  • وعد بلفور – حسين فوزي النجار.