المعارضة السياسية وسؤال الفاعلية

Cover Image for المعارضة السياسية وسؤال الفاعلية
نشر بتاريخ

مقدمة

تعتبر المعارضة السياسية حقا دستوريا تكفله جميع الدساتير الكونية، إذ لجميع مكونات المشهد السياسي أن تختار المعارضة السياسية لبرامج السلطة التنفيذية أو عمل أجهزة الدولة في تسيير الشأن العام.

ويحيل مصطلح المعارضة إلى مجموعة من المعاني والدلالات؛ كالممانعة والاعتراض والاحتجاج والمواجهة… بينما يدل في الاصطلاح السياسي على الحق الجماعي في تقويم ومناقشة سلوك السلطة السياسية، وتقوم فلسفتها على تقبل الرأي الآخر واعتباره حقا مشروعا.

وتجدر الإشارة إلى أن المعارضة السياسية لا تعني بالضرورة المضادة المطلقة في جميع الأحوال، وإنما تطلق على الدور السياسي الذي تمارسه أقلية أو جماعة سياسية في مواجهة الأغلبية الحاكمة والتي بيدها سلط تنفيذية عليا، فهي ركن أساس في أي نظام سياسي ديمقراطي من خلال ما تلعبه من أدوار، لكن جدوى وفاعلية المعارضة السياسية رهين بطبيعة الأنظمة السياسية، ومساحة الحرية والديمقراطية، وأيضا طبيعة المعارضة وتموقعاتها. فإلى أي حد تساهم المعارضة السياسية في البناء الديمقراطي؟ وهل يمكن للمعارضة من خارج النسق الرسمي أن تكون بديلا فاعلا عن المعارضة الرسمية في ظل الأنظمة السلطوية؟

أولا: المعارضة السياسية والديمقراطية.. أية علاقة؟

يوجد اتصال وثيق بين طبيعة المعارضة السياسية في دولة ما وطبيعة نظامها السياسي، حيث تؤثر على حرياتها ومجال عملها، وبذلك تختلف أهداف المعارضة السياسية ووسائلها باختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالمعارضة في النظم الديمقراطية شيء وفي الأنظمة السلطوية الفردية شيء آخر.

مكانة المعارضة السياسية في النظم الديمقراطية

تكمن أهمية المعارضة السياسية في مدى قدرتها على تقويم عمل السلطة الحاكمة من خلال توجيه الانتقادات لممارساتها أو تقديم التوجيهات والمقترحات والنصائح، أو التعبير عن الرأي بالطرق المناسبة لحل الأزمات أو التحديات التي تواجه الدولة.

وبذلك تكون المعارضة السياسية من أهم مرتكزات الديمقراطية القائمة على اعتبار الشعب مصدر السلطات، حيث هناك ارتباطاً وثيقاً بينهما، فهي بمثابة ضمانة للتنوع في المجتمع وتجنب الاستئثار بالسلطة وتقليص النزعة الاستبدادية من خلال فرض الرقابة على الحكومة، حيث تجعلها تشعر أنها مراقبة من قبل جهات معينة تتدخل إذا قامت بأي تصرف تخالف فيه المصلحة العامة من خلال الأعمال التنفيذية التي تقوم بها.

فالمعارضة تهدف إلى رصد الأخطاء المبكرة للحكومة بغية إيقافها والحد منها؛ وهذا ما يجعل الأنظمة الديمقراطية تكفل حق المعارضة السياسية ضمن قوانينها، وتضمن عملها بحرية دون قمع لصلاحياتها، وذلك من خلال تنظيم القوانين المرتبطة بها والتي تشمل مواد حول عملها؛ كقوانين الأحزاب والانتخابات والجمعيات والمنظمات، وتضمن حق التجمع والتظاهر والإضراب.. وغيرها من الوسائل السلمية التي تتبعها المعارضة للتعبير عن آرائها ولتحقيق أهدافها المدرجة ضمن برامج عملها. كما تتيح للمعارضة السياسية عن طريق الانتخابات النزيهة التعبير بحرية عن إرادة الشعب، وهذا ما يؤدي إلى إعطاء فرصة للتغيير السياسي من خلال الوسائل السلمية وخلق تعددية سياسية حقيقية، فتكون المعارضة السياسة الفعالة من أهم أوجه الديمقراطية.

لذلك يجب أن تحظى المعارضة بالدعم والتشجيع بغية الحفاظ على التداول السلمي للسلطة، لكن “ينبغي أن تكون عتبة الأخلاق عالية، ومستوى التعامل في النقد والمعارضة رفيعا ونزيها، ومتى تم التصويت على قرار فقد انتهى حق الاعتراض وقبح التشكيك والتعقيب ليتفرغ الجميع للعمل الإيجابي” (1). الأمر الذي يتطلب خلق فضاء ديمقراطي ملائم تكون فيه الكلمة للشعب، وتكون الحكومات منفذة لتطلعاته وممثلة لصوته في دائرة القرار، وهو ما تفتقده الأنظمة الديكتاتورية حيث يتم العمل على حدها ومنعها وقمعها ومحاصرتها بكل الطرق خوفاً من زعزعة النظام.

أشكال المعارضة ووسائلها

تتخذ المعارضة السياسية وسائل عديدة لتحقيق أهدافها والتعبير عن الآراء والقضايا التي تطرحها والأنشطة التي تقوم بها. فمن بين الوسائل هناك الأحزاب السياسية التي تمارس معارضتها داخل البرلمان في مناخ سياسي ملائم، تكون فيه التعددية حقيقية، في محاولة لملء الفراغ الذي يوجد عادة بين السلطة الحاكمة والمواطنين عبر الوساطة أو المساهمة في تغيير السلطة من خلال العملية الانتخابية. كما يمكن أن يكون هناك معارضة من خارج البرلمان، وتتمثل في الحزب الذي لم يحصل على مقاعد أو لم يشارك في الانتخابات.

وقد تتخذ المعارضة السياسية شكل جماعات المصالح؛ المتمثلة بالجمعيات والهيئات والمنظمات والنقابات والاتحادات المهنية.. باعتبارها إحدى الوسائل التي تُعبر عن المعارضة السياسية، حيث تكون أهدافها مطلبية. أو الجماعات والمنظمات الموجودة خارج اللعبة، أو أفراد لهم وزن وتأثير في المجتمع، أو منظمات مدنية أو نخب مثقفة.

كما أنّ جماعات الضغط تؤثر على السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وعلى القرار السياسي والرأي العام، من خلال الضغط على الحكومة لإجراء تعديلات وإصدار تشريعات والتأثير على أوضاع المواطنين خاصة في ظل ارتباط المال بالسلطة.

فضلاً عن ذلك تتخذ المعارضة السياسية من وسائل الإعلام والاتصال طريقة للتعبير عن الآراء وطرح الأفكار ورفض الفساد والاستبداد، من خلال تتبع قضاياه ومناقشتها وتوثيقها.

كما شكل العلماء العاملون معارضة حقيقية عبر التاريخ، كانت سدا منيعا ضد الاستبداد والفساد والظلم، انطلاقا من مجالسهم ومنابرهم، ولم يكونوا يخافون في الله لومة لائم مهما كلفهم ذلك من تضحيات.

لكن اليوم معظم العلماء تراجعوا عن هذا الدور خوفا أو طمعا، بل أصبح علماء البلاط يضفون الشرعية على قرارات حكامهم، ولم يصمد منهم إلا القليل من أولي العزم.

هذا وقد تلجأ المعارضة إلى الإضراب والتظاهر وتقديم الطعون للتعبير عن آرائها، أو الاحتجاج في الشارع أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تبتكر أي وسائل جديدة تستخدمها للضغط على السلطة لتحقيق مطالبها.

ثانيا: المعارضة السياسية في المغرب بين الترويض والممانعة

تتعدد تصنيفات المعارضة حسب تعدد المعايير، ومن بينها التصنيف القائم على معيار المشروعية، حيث يتم التمييز بين نوعين من المعارضة؛ معارضة مشروعة: وهي التي تتبع في عملها الأساليب القانونية المعمول بها في المجتمع الذي توجد به، وتحتكم إلى العقل والحكمة وما تستخدمه من وسائل للوصول لأهدافها تتبنى خيار السلمية وتهدف للمصلحة العامة.

على عكس المعارضة غير المشروعة؛ التي لا تكترث لتحقيق مصلحة المجتمع وإنما تمارس المعارضة فقط من أجل المعارضة، وقد تعمل خارج القانون وتستعمل العنف لفرض آرائها، وقد تخدم أجندات أو أهداف خارجية.

وتجدر الإشارة إلى أن الدول السلطوية توظف هذا التصنيف سياسيا لضرب المعارضة ووصفها بغير المشروعة رغم سلميتها واحترامها للقوانين المعمول بها.

أزمة المعارضة الرسمية

إن غياب الديمقراطية الفعلية ومرتكزاتها يُفرغ المعارضة السياسية من مضمونها الفعلي، ويؤثر على قدرتها التغييرية، ويدفع بها نحو الأزمات المتعددة الأوجه. لذلك تشهد المعارضة من داخل النسق في بلداننا العربية أزمات صارخة، ناتجة عن التسلط المؤسسي والفردي واحتكار القرار، ليس فقط في بنيات النظام ولكن أيضا على مستوى ضعف توزيع المسؤوليات داخل الأحزاب، والبيروقراطية التسلطية في إدارة الشأن الحزبي، والانسداد التنظيمي حيث هناك نخبة تحتكر القرار، “فليس مستغربا أن يكون البديل الواعد من جنس المبذول المرفوض، إذ الماء واحد والتغذية واحدة وإن اختلفت الأشكال، الحكومات العربية وأحزاب المعارضة، أي المستبدل المرفوض والبديل الواعد يمثلان معا بدقة متناهية هذه الحقيقة” (2). بالإضافة إلى هذه الأمور، فإنّ الدول العربية وأنظمتها تقمع وتستبد بالمعارضة وتتعامل بحساسية اتجاه الحقوق والحريات والديمقراطية، فلا تمنح إلا جزءا يسيرا منها إذعانا للضغوطات الأجنبية، دون أن يسمح ذلك للمعارضة بمساحة شاسعة من الحقوق والحريات.

لذلك نجد لديها معتقلات تضم عشرات الآلاف من سجناء الرأي، ومحاكمات غير عادلة، ونفي وتهجير للمعارضين خارج البلاد أو محاصرتهم، وتزوير للانتخابات، وعدم استقلالية القضاء، وضعف تشكيل الحكومات على أساس الأكثرية. بل بعض الدول تمنع نشوء الأحزاب أو تكتفي بتعددية شكلية متحكم فيها، وهو ما يحول دون معارضة سياسية فعالة.

وقد لا يخفى على كثيرين أن مأزق المعارضة السياسية في المغرب لا يختلف عما سبق ذكره، ولا يشكل استثناء، ولم يكن وليد اليوم، فبالنظر لطبيعة النظام السياسي، رغم قوة المعارضة في بداية الاستقلال والصدامات التي عرفتها  مع المؤسسة الملكية والقصر، لم تعرف البلاد هيكلا حقيقيا للمعارضة السياسية الجماهيرية المؤثرة، إذ استطاعت قوى سياسية مهيمنة الاستمرار في السلطة بالرغم من اختلاف أطيافها الحزبية، فيما تعجز بقية الأحزاب عن منافستها بشكل جاد وضاغط، وبقيت المؤسسة الملكية مهيمنة على المشهد السياسي ومتحكمة فيه، فغالبا ما تتخذ القرارات السياسية على المستوى المركزي، أما الحكومة والبرلمان فلا يتجاوز فعلهما تنفيذ التوجهات الملكية.

وتدريجيا تم استدراج المعارضة وتقليم أظافرها منذ قبلت بالتناوب التوافقي للتداول على السلطة، وأصبح هم الأحزاب السياسة -التي فقدت مناضلين متمرسين- تحقيق مكاسب انتخابية تمكنها من تكوين أغلبية، وقد تُلجئها النتائج المحدودة إلى الاصطفاف في المعارضة كتحصيل حاصل، وليس كخيار استراتيجي، وسرعان ما تتغير المواقع عقب كل عملية انتخابية متحكم فيها من التقطيع الانتخابي مرورا بالعملية الانتخابية ووصولا إلى إعلان النتائج.

وهكذا فشلت المعارضة في الحفاظ على استقلالها السياسي إزاء مراكز النفوذ السلطوي، وتم ترويضها وتشكيل معارضة مستأنسة من داخل النسق الرسمي، بغية إضفاء شيء من الشرعية على الأداء المجمل للنسق السياسي واستخدامها سياسيا للإبقاء على وهم التعددية أو لمواجهة المعارضة الحقيقية.

وبقيت أقوى قوى المعارضة السياسية الحقيقية لحد الآن، خارج المشهد السياسي الرسمي.

وقد أفضى غياب أو تغييب المعارضة السياسية الرسمية وبعدها عن هموم المواطنين وتطلعاتهم، في ظل أزمة التمثيلية التي يعرفها المغرب وعجز الأحزاب السياسية عن تقديم بدائل نظرا لإفلاسها السياسي وفقرها الجماهيري إضافة إلى توطين الفساد والاستبداد، إلى ضرورة بروز معارضة من خارج النسق الرسمي؛ أهدافها بعيدة عن كل حسابات انتخابية، ترفع شعار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وتعكس نبض المجتمع.

وقد شكلت حركة 20 فبراير لحظة تاريخية فارقة في تاريخ المغرب أثبتت أن المعارضة الحقيقية التي تستجيب لنبضات الشارع توجد خارج قبة البرلمان. وأصبح “الاحتجاج سلوكا ثابتا يسعى من خلاله المحتجون على الدوام إلى فرض تنازلات على السلطة القائمة” (3).

المعارضة الفاعلة بالمغرب

بناء على ما تقدم؛ للمعارضة السياسية كامل الحق في شرح وجهات نظرها بخصوص مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهم الوطن والمواطنين عبر مختلق الوسائل المشروعة، بدون إقصاء وبغض النظر عن المرجعية أو الإيديولوجية التي تؤطرها، من أجل الحصول على قرار صائب أو موقف حكيم يعود بالمصلحة على الوطن ككل ويجنبها المزالق التي قد تودي إلى ما لا يحمد عقباه، والذي لن ينتج غير العداء والإقصاء للمخالفين وإشاعة المزيد من الظلم.

وفي المقابل يجب أن تتوفر في المعارضة السمات الأساسية لكل فاعلية؛ كالقدرة على وضع أهداف محددة واضحة تلتزم بها ضمن إطار زمني لتحقيق مطالب معينة، والقدرة على تعبئة الموارد من خلال التخطيط والتنظيم والاتصال، والقدرة على حشد الجماهير لتتمكن من التأثير في السياسات ونجاح تحركاتها واحتجاجاتها، وهذا الأمر يتطلب وقتاً وجهداً لتحقيقه، كما يجب أن تمتلك أفكارا وبرامج معقولة ومقنعة وملائمة للنسق العقدي للأمة، وأن تجهر بقول الحق والصواب، وأن تقدم البدائل المعقولة بأسلوب راق ودقيق خدمة للمصلحة العليا للبلاد والعباد، وأن تكون لها القدرة على الثبات على المواقف وتحمل الكلفة  لأن ثمن المعارضة الجادة يكلف باهضا.

فمن خلال تجربة بعض البلدان خاصة النامية منها، نجد أن النظام السياسي لا يعترف بحق ممارسة المعارضة إلا إذا كانت منضوية داخل المؤسسات الحكومية مثل البرلمان أو الحكومة نفسها، وهذا مخالف لأعراف السياسة. بل يجب أن تنتفي روح العداء والإقصاء الممنهج بين السلطة الحاكمة والمعارضة أيا كان شكلها سواء كانت من داخل النسق الرسمي أم من خارجه، لأن المعارضة تساهم في الإصلاح والتنمية على جميع المستويات والأصعدة وتسدي خدمة للنظام السياسي ليصحح أخطاءه. فالمعارضة السياسية لا تعني المشاغبة وإفشال قرارات المؤسسات الحاكمة ديمقراطيا والمعبرة عن تطلعات أبناء الوطن؛ بل تكون مرهونة بزمن معين وبسياقات معينة وفي انسجام تام مع ما تمليه مصالح البلاد والعباد، فلا تبخيس للأعمال الجيدة ولا سكوت أو محاباة، سواء كانت مرجعيات المعارضة يسارية تحركها أهداف اجتماعية محضة، أو إسلامية قائمة على مبدأ أصيل في الإسلام هو النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكانت الأهداف الاجتماعية جزء منها فقط، أو كانت غير ذلك.

لكن يبقى “العنوان الأبرز لهذه المرحلة؛ العودة القوية للسلطوية في أسوأ تجلياتها، من انتهاك صارخ للحقوق والحريات، وتنكيل ممنهج للمعارضين، واستفراد متعمد بالسلطة” (4).

فقد جدد النظام في أساليبه لضرب المعارضة؛ من تضييق على الأرزاق، ومتابعات الصحافة الجادة، بل حتى المدونين عبر الوسائط الاجتماعية لم يسلموا من المحاكمات والمتابعات، والأخطر من ذلك تلفيق تهم غير أخلاقية للمس بسمعة المعارضين تصل إلى حد الاتهام بالاتجار بالبشر أو الخيانة الزوجية أو الزنا أو ما شابه، بل تسخر الإعلام المأجور إلى جانب الأجهزة الأمنية لتحقيق أهدافها حسب ما أشارت إليه العديد من المنظمات الدولية والجمعيات الحقوقية بالمغرب وحذرت من تبعاته. “مما يعكس البون الشاسع بين الخطاب الرسمي والممارسات القمعية السلطوية، المتجلية في اللجوء إلى الاعتماد المتزايد على المقاربة القمعية عند التعاطي مع الاحتجاجات السلمية، ومباشرة الاعتقالات والمحاكمات ومصادرة حرية الرأي والتعبير… مما يؤشر على أن الدولة لم تقطع مع أساليب الاعتقال والمحاكمات الصورية وتلفيق التهم وتسييج الحقل السياسي بالممنوعات ومصادرة الحريات” (5).

ويجب التنبيه إلى أن ضرب المعارضة إذا بلغ حدا معينا قد يدفع بها للارتماء في أحضان جهات خارجية تستعملها لتنفيذ أجندتها، وقد تتبنى خيار العنف أو التخريب، ويصبح التعامل معها أمرا صعبا، خاصة إذا لم تكن مبادئها وقيمها واضحة، وهو ما حدث فعلا في بعض البلدان.

ويعتبر المراقبون أن جماعة العدل والإحسان شكلت على مدار الأربعين سنة الماضية أقوى تنظيم معارض، باعتبارها أكبر تنظيم سياسي ومجتمعي في المغرب، ولما لها من قدرة على التعبئة والحشد، وأيضا لخطها المتفرد في التغيير، وثباتها على المواقف رغم الثمن الباهظ الذي تدفعه، لم يثنها ذلك على الاستمرار، فكلما ضربت اشتد عودها. فالمعارضة بالنسبة لها حسب ما جاء في أدبياتها “معارضة لا تحط رحالها في البسيط السياسي المنفعي الدنيوي الذي يأخذ الحاكم بمعيار الجدوى وتحقيق المصلحة لا تتجاوز ذلك، هذه المعارضة والمحاسبة على الجدوى والإنجاز وجه واحد من وجهي المعارضة، وهي واجبة في شروط المسؤولية العامة الشاملة وفي جو التآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن أخذ الكافة للكافة، ومحاسبة الحاكم والمحكوم بالمعيار الأخلاقي الإيماني الشرعي هو المطلوب” (6).

كما تتشكل المعارضة من عدد من الحقوقيين البارزين في المغرب ورواد الإعلام الحر الذين لم يسلموا بدورهم من المضايقات والمتابعات، فمنهم من تم زجه بالسجون؛ كالإعلاميين سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين، ومنهم من فتحت لهم ملفات قضائية؛ كالحقوقي البارز المعطي مونجيب، بل حتى الأعضاء الفاعلين في حزب النهج الديمقراطي لا يتم التعاطي معهم كباقي الأحزاب السياسية نظرا لمقاطعتهم للانتخابات ومواقفهم التي لا تروق النظام، وقد أشارت العديد من المنظمات إلى أن هذه المتابعات والمحاكمات سياسية بامتياز.

وتبقى التنسيقيات الوجه الجديد للمعارضة في انتظار تشكيل جبهة وطنية قوية. والحقيقة التي أصبحت جزءا من المشهد المغربي هي تواتر الاحتجاجات في الزمان والمكان. فالنزول “إلى الفضاء العمومي أصبح في التاريخ المعاصر من أكثر وسائل التعبير مباشرة، ليس لأنه يظهر للعيان طابع وحدة هذه الجماعة -المحتجون- وإنما بتأكيده أنها مصدر كل معيار وكل سيادة” (7)، واستطاع المحتجون الشباب ابتكار وسائل جديدة للاحتجاج.

خاتمة

خلاصة القول أنّ المعارضة السياسية ضرورية لتعزيز الديمقراطية داخل الدول، ومكمل حقيقي للسلطة السياسية الحاكمة، تنبع من سنة إلهية كونية وضعها الله عز وجل، وهي شرعية الاختلاف في الرأي، تروم تحقيق المصالح ودرء المفاسد في مجالات الحكم والسياسة وما يتبعهما.

فالمعارضة الناصحة التي تساعد على تنقية الأجواء السياسية، السائدة منذ القديم بين السلطة الرسمية للدول وبين المعارضة، من شوائب الشك والإقصاء والظلم الممنهج أحيانا، والظنون والأحكام السيئة والجاهزة وعدم الانفتاح على ما يوجد في جسم الوطن من اختلافات وفعاليات سياسية قادرة على المساهمة في تنمية الوطن والنهوض بالإنسان المقهور.

تبذل المعارضة قصارى جهدها في سبيل تحقيق المصلحة العامة من خلال ما تسديه من خدمة مباشرة وغير مباشرة للبلد؛ عبر توجيه الغضب الشعبي وترشيد فعله، وعبر التقويم والنصح، وذلك لم يكن ليتحقق إلا بتقبل النصيحة وسماع كلمة الحق أيا كان مصدرها أو مرجعيتها.

فهل تحتكم السلطة المغربية إلى صوت العقل والحكمة، وتتعاطى مع المعارضة بمقاربة غير المقاربة القمعية المبنية على الهاجس الأمني؟ أم ستدفع بالأوضاع نحو مزيد من التأزم؟


1- عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، مطبوعات الصفاء للإنتاج، الطبعة الأولى 2000، ص 556.

2- زيد بن علي الوزير، محاولة في تصحيح المسار ، مركز التراث والبحوث اليمني، الطبعة الأولى 1992، ص 252.

3- عبد الرحيم العطري، الحركات الاحتجاجية.. مؤشرات الاحتقان ومقدمات السخط الشعبي، دفاتر وجهات نظر، عدد 14، مطبعة النجاح الجديدة البيضاء 2008، ص 136.

4- التقرير السياسي الصادر عن الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، الجماعة نت، 18 يوليوز 2022.

5- التقرير السنوي حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب خلال سنة 2017، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، مطابع الرباط نت، أكتوبر 2018، ص 26-27.

6- عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، مرجع سابق، ص 133.

7- عبد السلام بن عبد العالي، الفلسفة فنا للعيش، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 2012، ص 117.