المرأة ومعركة تحقيق الذات

Cover Image for المرأة ومعركة تحقيق الذات
نشر بتاريخ

الثامن من مارس يجعل من الحديث عن المرأة وقضاياها شرطا تفرضه المناسبة، ربما كل متحدث له دوافعه وهواجسه، له آماله ومخاوفه، له تطلعاته وكوابحه، لكن الجميع يشترك في مطلب تحقيق الحد الأدنى من المعايير المتفق عليها من أجل العيش الكريم لفائدة كل النساء، مطلب أخلاقي تفرضه العدالة ومنظومة حقوق الإنسان التي لا تستقيم إلا بتوازن علاقة الحق والواجب، وأما العيش الكريم فمطلب جامع يفضي بالضرورة إلى تحقيق ثلاثية الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي مقاصد بعينها لا بغيرها تنجح من خلالها المرأة في معركة تحقيق الذات؛ متفوقة على نفسها أولا لتحريرها من الموروث القروني الذي يحجزها في الإحساس بالعجز والدونية، ثم بعد ذلك اقتحام العقبات الموضوعية المتمثلة في الاستبدادين السياسي والاجتماعي وما يترتب عنهما من ارتدادات تؤثر بشكل مباشر على واقع النساء. لكن الحياة لا تتلون كلها باللون الأسود، بل هناك مساحات بيضاء تهيئ الفرص لحامل فرشاة الألوان، وهناك دائما بين الفينة والأخرى بقع تتخذ ألوانا مبهجة، بفضل جهود كبيرة يتحملها ويبذلها فضليات وفاضلون يتكبدون عناء الدفاع عن حقوق النساء، ونجحوا بشكل مبهر في تحقيق مكاسب لم تكن لترى النور لو انحاز الجميع إلى خيار الصمت والإذعان. وفي خضم المعركة تجد أن الحرية مبتدأ لخبر تحقيق الذات، فهي القيمة الكلية التي تتفرع عنها باقي المطالب، لذلك تجد أن كل من تحدث عن قضية المرأة نادى بتحريرها، مطلب وحد الكل في شكله وفرقهم حول مضمونه وتفاصيله، وحدث أن تواطأت إرادة من يصنع السياسة مع الموجة العالمية في الدعوة إلى حرية المرأة، وتحققت بعض مطالب النساء، واستطاعت بعضهن نيل الحرية بالمفهوم المعولم لها، فماذا بعد؟

لماذا لم تحقق الحرية الرضا والسعادة للمرأة؟ هل العيب في الحرية التي لا يمكن أن تمارس إلا من خلال إطار محدد لا يمكن تجاوزه وإلا فالوقوع في الخلل محتوم، ولئن كان الأمر كذلك، فمن يحدد هذا الإطار ويضع قواعده؟ أم إن العيب في المرأة نفسها التي بالغت في رفض كل قيد قائم أو محتمل من شأنه أن يحول دون بلوغها غاياتها ومهما كان الثمن؟ ثم ما الدافع الحقيقي وراء هذا الرفض الذي ينزع أحيانا إلى التطرف؟ أم يكون العيب في التركيبة الاجتماعية التي لازالت تتصيد كل عثرة لتلوم المرأة على ثورتها ضد القواعد التي تعتبرها من الثوابت وليس من المتغيرات؟ لكن لابد من الاعتراف قبل الخوض في غمار البحث عن الأجوبة، أو ربما في غمار طرح المزيد من الأسئلة، إلى إشارة مهمة، وهي أن الحديث عن الحرية بالمفهوم الدارج، وتحقيق الذات لايزال من تطلعات ومطالب النخبة، بينما غالبية النساء -مع الأسف الشديد- كل ما يحلمن به بالنظر إلى تمدد مساحات الفقر واتساع رقعة الهشاشة، مصدر قار للقمة العيش، وجدران وسقف يأويهن ويستر عوراتهن. كما يجب الاعتراف أيضا بأن المفاهيم نفسها تصبح نسبية بتغير الظروف وبيئة التنزيل، ومفهوم الحرية يصبح هلاميا إلى حد اللامعقول كلما تنوعت أشكال القيود ودرجات إحكامها، فالمرأة المثقفة المستقلة اقتصاديا ترى في الثقافة الاجتماعية السائدة قيدا يمنعها من فرص المنافسة العادلة مع الرجل في تقلد بعض المناصب مثلا، والمرأة التي تخوض تجارب السياسة -عن وعي- تدرك مدى مفاصلة الشعارات المرفوعة حول المساواة والمناصفة مع الواقع الحقيقي الذي يقيد حضورها داخل المشهد العام بشروط مسبقة لم تشارك في وضعها وعليها الإذعان للشرط أو مغادرة المنافسة، والإكراهات والعقبات كثيرة هي ذاتها تلكم القيود المفروضة، لكن وبالعودة إلى الضفة الأخرى، تجد نوعية القيود مختلفة تماما؛ قيود الجهل والأمية والفقر.. تعيد المرأة إلى الوراء قرونا، وتعيد مشاهد الاستعباد المقرف والمقزز الذي يغتال آدميتها حينما تصبح مجرد رقم بين أرقام تدير عجلة الاقتصاد المتوحش في المصانع والمعامل والضيعات.. مقابل الفتات بدون عقود عمل وبدون أية حماية، فيما يشبه أعمال السخرة، ويجعل أكبر طموحها الحفاظ على ما تبقى من ماء الوجه أمام المكتري الذي يقيد بقاءها في البيت أو الحجرة المكتراة بالدفع على رأس كل شهر، والقدرة على إعالة نفسها أو أسرتها أمام شبح الغلاء والارتفاع المتكرر للأسعار الذي يقيد إحساسها بالأمان على لقمة العيش ويأسرها في دائرة الحاجة، أما الحديث عن ربات البيوت في مجتمع يسوده الظلم، ويمارس العنف ضد المرأة بكل أصنافه، ويقايض عبوديتها وإذعانها للسائد من الأعراف والتقاليد مقابل النفقة وبقائها في بيت الزوجية، فذاك مستوى متقدم جدا من الاسترقاق، وبعد آخر من أبعاد العبودية وتجلياتها، فلا اعتبار لدورهن المركزي في ثبات الأسرة وبناء الأجيال، ولعل من أسباب ضياع الأسرة وتفسخ الأخلاق وضياع الأجيال، لهو إهمال دور المرأة فيه وعدم رد الاعتبار لهذا الدور، وهي مسؤولية تتحملها الدولة والمجتمع على السواء، فالحرية في مثل هذا الوضع، كسر لقيد المجتمع الذي يرى فيما تقوم به واجبا لا تضحية، وفرضا لا نافلة،  والحرية كسر لقيد النظرة الدونية تجاهها ومشاركة في القرار الذي يجعله المجتمع امتيازا للرجل (القوام)، ثم اعتراف لها بما تقوم به من عمل يشد عضد الأسرة ويساهم في تنميتها، وبالتالي التعويض عنه ولو بالكلمة الطيبة والامتنان في حال عدم القدرة على التعويض المادي.

البحث عن النجاح في اختبار تحقيق الذات في مجتمع ينتقص من المرأة وينظر إلى دورها بتمييز سلبي، هو بحث بالضرورة عن السعادة والرضا، إذ إن الحرية فيه وسيلة لا غاية في نفسها، لكن حينما تتحول الوسيلة إلى غاية هي منتهى القصد، تنحصر الطريق أمام ما دونها، لذلك لم تحقق المكاسب التي حصلت عليها النساء في مجتمعاتنا العربية التي تعاني من ازدواجية الانتماء ما بين الأصالة و(الحداثة)، السعادة والرضا للمرأة. فالمرأة التي ربطت الحرية بالتمكين الاقتصادي، وقعت في فخ العبودية لعمل مزدوج داخل البيت وخارجه أحالها إلى مكدودة ممتهنة، مربوطة في ساقية الاستهلاك دون توقف. والمرأة التي ربطت الحرية بمطلب الانعتاق من الهيمنة الذكورية، وقعت في صراع حقوقي صرف ضد رجل هو ذاته ضحية ظلم سياسي واقتصادي يمارس ضده العنف والسادية ويمنعه من حقوقه المشروعة، فلا يجد في الصراع الحقوقي إلا حلبة للتنفيس عن استيائه وغضبه، لتعود المرأة إلى وضع الضحية وتحكم حولها الدائرة من جديد ولكن بلبوس وغلاف آخر.

لا شك أن العيب ليس في الحرية، فهي سابقة عن كل تكليف أو التزام، بل هي شرط لهما، ومن الطبيعي أن لا تكون مطلقة لا حدود لها، فلا بد لها من ضابط يجعل لوظيفتها معنى وقيمة تخدم الفرد والمجتمع بالشكل الذي يحافظ على تماسك النسيج الاجتماعي وفق ما اتفق عليه من قوانين تحصنه، ولا شك أن العيب ليس في المرأة التي رفضت كل قيد فرضته العادات والتقاليد التي تصر المجتمعات على اعتبارها من الثوابت التي لا يجب المساس بها، خاصة حينما تلبسها زورا لباس الدين لإضفاء الشرعية عليها وربط الثورة ضدها بالمروق، ولكن الخلل تسلل بيننا حينما جردت المعاني من انتمائها إلى مصدرها الأصيل، وخضعت للنزوات البشرية التي لا يحد من غلوائها سوى حدود ما شرعه الله تعالى العالم بخلقه، من قوانين وشرائع، وحدها كفيلة بالحفاظ على التوازن في العلاقات الإنسانية، ضامنة لكل ذي حق حقه. ثم إن مسألة المعنى ضرورية في كل مطلب، بل مؤصلة لكل وجود، ولا معنى للحرية أو غيرها إن لم ترتبط بسؤال المصير ومعنى الخلاص في بعديه الفردي والجماعي، وارتباط بعضهما البعض، فأول الخلاص انعتاق من العبودية لغير الله من زينة الحياة الدنيا وتأليه للأشخاص واستجابة لأهواء النفس ورغباتها التي لا تنتهي، وتحرر من حدود الدنيا إلى سعة الآخرة، وانعتاق من جور الأديان والمذاهب والفلسفات إلى عدل الإسلام.

غيض من فيض…