المرأة وجهاد التعليم.. رؤية منهاجية

Cover Image for المرأة وجهاد التعليم.. رؤية منهاجية
نشر بتاريخ

تقديم

جعل الله تعالى العلم فريضة على عباده ذكرانا وإناثا، من خلال أدلة صريحة الدلالة ترفع من درجة العلم والعلماء، وتحث على التعلم وطلب العلم. يقول سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُو مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (المجادلة، 11)، لذلك كان طلب العلم أحد أهداف بعثته صلى الله عليه وسلم وأهم وظائفه، لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (الجمعة، 2).

واستجابة للوحي لبّت المرأة إلى جانب أخيها الرجل ذلك النداء، فكانت نعم المتعلمة والمعلمة، تشوّفت لذلك الكمال الذي سما بهمتها وحرر إرادتها فكانت حاضرة حضورا فاعلا في البناء المجتمعي، حيث يشهد التاريخُ بتخرجِ العديدِ من كبارِ العلماءِ على يديها.

وتروم هذه الورقة الوقوف على أصول جهاد المرأة في التعليم، وتبيان أهميته في البناء الحضاري، من خلال مقاربةِ الحديثِ عن السؤالَين الموالِيَيْن: هل كان للمرأة حضور في جهاد التعليم؟ وما هي الرؤية التأصيلية والتجديدية لهذا الجهاد؟

وذلك من خلال المحاور الثلاثة الآتية:

1- التأصيل الشرعي لجهاد المرأة في التعليم.

2- دلالات مفهوم العلم في المنهاج النبوي.

3- نماذج من جهاد المرأة في التعليم عبر التاريخ.

أولا- التأصيل الشرعي لجهاد المرأة في التعليم

1- فريضة طلب العلم

أول ما نزل به الوحي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق، 1-5)، إشارة منه سبحانه إلى أن أساس الإيمان به وتمام عبادته؛ مبني على قاعدة طلب العلم، لكونه يجلي الفهم في العقول ويبعث الإرادة في السلوك، فهو الدافع لتغيير ما بالنفس لتشارك في التغيير الشامل، فعن أنس بنِ مَالِك قَالَ: قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {طَلبُ العِلْمِ فَرِيضَة عَلَى كل مسلم} 1.

وجدير بالذكر في هذا السياق أن نشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من زمنٍ يخلو من العلماء، دون وجود من يخلفهم في تدريس إرثهم العلمي وتبليغ أمانته فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَنتَزِع الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنَ صدورِ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضه بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يبق في الأرضِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا} 2.

لذلك اجتهد الصحابة الكرام في تعلم القراءة والكتابة ليتفقهوا في الدين، وحرصت الصحابيات كذلك على طلب العلم وحضور مجالس الوعظ والفقه في الدين، حتى أنهن طلبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهن يوما يعظهن فيه. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن) 3، وقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) 4، وذلك لوعيهن بفضله في البناء والتغيير.

2- فضل جهاد التعليم

من المعلوم في الدين بالضرورة أهمية العلم طلبا وعملا ونشرا؛ والنصوص في هذا الباب أكثر من أن تحصى، نذكر منها على سبيل المثال قول الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر، 9). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {مَنْ سلَكَ طريقًا يلْتَمِسُ فيه عِلْمًا سهّلَ اللهُ لهُ بهِ طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكةَ لتَضَعُ أجْنِحَتَها لِطالِبِ العلمِ رِضًى بِما يصْنع، وفضلُ العالِمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العُلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنّ الأنبياءَ لمْ يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرْهَمًا إنّما ورَّثوا العِلمَ فمَنْ أخذَهُ أخذَ بِحَظٍّ وافر} 5. وعن أنس بنِ مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع} 6. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة) 7. وقال أبو الدرداء: (من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص عقله ورأيه) 8، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (لأن أعلم بابا من العلم في أمر ونهي، أحب إلي من سبعين غزوة في سبيل الله) 9، وقال الحسن البصري: (ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب العلم، لا حج، ولا عمرة، ولا جهاد، ولا صدقة، ولا عتق) 10.

إن نشر العلم وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن ثم كان أفضل الجهاد الذي يرثه عنهم أخيار هذه الأمة رجالا ونساء هو سلوك طريق التعلم والتعليم؛ فالاشتغال به لمن صحت نيته لا يوازيه عمل من الأعمال، لما فيه من إحياء العلم والدين، وإرشاد الجاهلين، والدعوة إلى الخير.

إن التأكيد على فضل وعظم جهاد العلم ليس من باب تكرار ما هو معلوم، وإنما للبرهنة على أهمية استحضار المرأة ذلك، لتتشوف لخوض غمار هذا الجهاد وتتحفز إليه، وتعي ضرورة مشاركتها فيه، بعينها الحافظة لما غاب عن عين أخيها الرجل. وفي هذا السياق يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “للتعليم مكان الصدارة في أولويات البناء” 11.

فما هو مفهوم العلم المقصود تعلمه والجهاد في تعليمه في التصور المنهاجي؟ هذا ما سأتطرق إليه في المحور الثاني.

ثانيا- دلالات مفهوم العلم في المنهاج النبوي

1- العلم النافع مطلب جهاد التعليم

لا مراء في أن بناء الإيمان في القلب يحتاج إلى العلم النافع تعلما وتعليما، علم يؤدي وظيفة إحياء الأمة وإعادتها إلى حضن الشريعة وصراط الله تعالى؛ العلم النافع الذي يعلمنا كيف ننفذ حكم الله في إقامة الدولة وتسيير شؤونها، وكيف ننظم المجتمع ونقيم العدل والإحسان والشورى فيه، وكيف ندير شؤون المسلمين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية … وكيف نبني منظومة التربية والتعليم لنصنع مستقبل الأمة. جهاد التعليم يقوم على العلم بالله الذي هو فقه الوحي الذي به نفقه الحركة التاريخية للإنسان، وعليه نستطيع أن نفقه الواقع لأسلمته وتنزيل شرع الله عليه.

لذلك يأخذ العلم في المنهاج النبوي دلالات تتسم بالنسقية والترابط المفضيان إلى التكامل، ونفصلها كما يلي:

– علم وعلوم: فالمنهاج يميز بين العلم والعلوم؛ إذ الأول هو علم الوحي المعلن في الكتاب والسنة، العلم الذي “روحه وباعثه ودليله العبودية لله تعالى، ويكون مدده ومادته ما يستنبطه العقل المؤمن المتخصص من كتاب الله وسنة رسوله وناموسه في الكون” 12، مفاده العلم بكيفية السلوك إليه تعالى، والعلم بمحبته ومحبة رسوله، والسعي لاقتحام العقبات والتقرب إليه بالفرض والنفل، في ظل التمسك بالجماعة المحققة للولاية بين المؤمنين والمؤمنات 13، دلالة تأخذ أبعادا تربوية إحسانية تفتل في انجماع أمر المؤمنة على الله تعالى لتقتحم العقبات وتتطلع إلى الكمالات؛ من الكمال الروحي والخلقي إلى الكمال الجهادي باعتبار القوة الذاتية شرط أساس في تنزيل نصر الله، الذي لا يمكن بلوغه إلا تحت راية الجماعة المؤمنة، لتسد ثغر وظيفتها تعبئة وإنجازا.

وهذا لن يتأتى إلا بتحصيل مجموع طيب من العلوم الكونية، التي يدخل ضمنها مختلف العلوم، ويؤكد الإمام على ضرورة اكتسابها والتسلح بها، قصد انبعاث الأمة وتحقيق عزتها، يقول رحمه الله: “عريانة أمة ليس لها قدم تزاحم الأقدام في هذه المواطن… تنفع الأمة في الدنيا علوم الكون لأنها قوة، وجهاد المؤمنات لاكتساب هذه العلوم مساهمة في الجهاد” 14.

بيد إِن من الواجب الحرصُ على: “أن نجرد كل هذه العلوم مما علق بها من مباشرة الجاهليين، وما تنطوي عليه من فلسفة كافرة، وتصور مادي نطلع عليهما لندحضهما في نقاشنا للمغرورين المضللين من أبنائنا. وفي مرحلة تابعة نطوع كل هذه العلوم ونحذقها، لتنهضم في جهازنا العلمي، وتنصهر في بوتقتنا، وتخدم أهدافنا” 15.

وعليه فالمنهاج النبوي ينبه إلى الجمع بين نور القلب المصدق بالحق، وبين وعي العقل وفهمه المنضبط بالعملية والتجربة الدقيقة في التمحيص والتحكيم، “بهذا العقل فقط يمكن أن نبني، وبذلك القلب فقط يكون البناء إسلاميا على هدى من الله” 16.

– العلم نور وتوازن: ويحدد المنهاج النبوي معنى العلم النافع في محددات تفضي إلى التوازن في الشخصية العلمية التي تجمع بين العقل والنقل والإرادة، وهذا التوازن هو الأساس الذي يبنى عليه التجديد، يقول الإمام المجدد: “لا بد للتجديد، كي يكون إسلاميا، من الاستنارة بالنقل الصحيح، بالعقل المستقل عن الهوى، الخادم للقلب المستنير بنور الله” 17، فالعلم النافع هو العلم الذي يورث خشية الله عز وجل، يقول تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر، 28).

– العلم الجامع: ومن دلالته في المنهاج النبوي أنه جامع، يتأسس على الشمولية والتوازن بين نور حق الوحي وبين حركة الواقع في الكون، فهو فقه كلي ينتظم فيه المطلب الإحساني الفردي والمطلب العدلي الاستخلافي الجماعي، الذي يؤدي وظيفة إحياء الأمة وإعادتها إلى حضن الشريعة وصراط الله، علم يشمل الفرد والجماعة والأمة، الدعوة والدولة، والدنيا والآخرة، ويشمل كل مجالات التربية والسياسة والاقتصاد… وكل القضايا. يقول الإمام: “نحن نبحث عن المنهاج النبوي المتصل سندا علما وعملا، تربية وتوفيقا، نبحث عن المنهاج النبوي الكفيل بالفتحين، فتح بصيرة المؤمن السالك، وفتح النصر. سلوكان متلازمان كما كان سلوك الصحابة الأبرار” 18.

– علم التربية الإيمانية: والعلم النافع؛ علم التربية الإيمانية، دلالته يلخصها المنهاج النبوي في التقوى والإيمان بالغيب. يقول الإمام رحمه الله: “تصديق للرسل وعمل صالح، وإيقان باليوم الآخر. عاقبة من اتصف بذلك وفعله، الهدى من الله والفلاح. وكل من التقـوى والإيمان والإيقـان صفات قلبية. والأعمال لا تصلح الصلاح المنـزه عن الشوائب إلا بصلاح النية، والنية في القلب” 19. العلم النافع هو العلم الذي تثمره التربية الإيمانية التي تستمد الإيمان من القلوب، من خلال صحبة جامعة مؤلفة، توطن العلم بالله في القلوب ليشع وينطلق سلوكا عمليا يحقق التوازن المطلوب بين العلم والإيمان.

– علم الاجتهاد الجماعي: وإن حاجة الأمة الإسلامية إلى علم يجدد الفهم ويقوم الاعوجاج ويرد الأمور إلى نصابها؛ لأمر ملح أمام ما يعرفه الواقع المرير من انزواء العلماء، في الركن الاحتياطي، ومن تفتت العلوم وتجزئها، ومن اختلاف المشارب والإرادات. فالأمة تحتاج لعلم يفتح باب الاجتهاد الجماعي يستحضر أصول ومقاصد الشريعة، ويستدعي التخصصات العلمية لمعالجة قضايا العصر، علم تساهم فيه المؤمنة لتجديد الدين ونفض غبار التاريخ، لإحياء السنة النبوية الشريفة ولانبعاث المنهاج النبوي، فقد صار لزاما أن يجدد الخطاب وأدواته وفقا لمقاصد الشريعة، لتجاوز الفقه الجامد المعزول عن فقه الواقع، من خلال قراءة تجديدية للنصوص. وههنا ينفعنا العلم بالله والعلوم الكونية لنزاحم بها الركب برؤية تجديدية، ولا نكتفي بفتات موائد الغالب المتفوق.

2- الحاجة لجهاد التعليم

بعد بسط بعض دلالات مفهوم العلم النافع المقصود تعلمه وتعليمه، يتبين لنا جليا ضرورة مشاركة المرأة في جهاد التعليم؛ باعتباره لبنة من لبنات البناء والتغيير ومنطلقهما، ومؤشرا يقاس به تقدم الشعوب أو تخلفها. يقول الإمام في هذا السياق: “وأعظم ميدان للمواجهة ميدان التربية والتعليم، ذلك الميدان هو من أفضل وأعلى أبواب الجهاد -جهاد التعبئة والبناء- لأنه يركز على تكوين الإنسان المؤهل للبناء، لأن الإنسان أس التغيير وأداته ووسيلته وهدفه وغايته في الوقت نفسه. التعليم يمكن من تربية أجيال سليمة العقيدة، مستوعبة للمعارف والمهارات العلمية والعملية. يمكن من بناء أجيال حاملة رسالة، تتضلع من علوم القرآن والسنة وأحكام الشريعة على كل المستويات. ثم تستطيع أن تخدُمَ تلك الأهداف بأحدث خبرة وأعلاها. التعليم إذا هو مفتاح التغيير وقاطرة التنمية” 20.

نحن بحاجة لجهاد التعليم لصناعة المعلم المربي القدوة. يقول الإمام رحمه الله: “مطلبنا عالم متوازن، ومعلم منسجم في نفسه، مرتاح في سربه الاجتماعي، سوي في بنيته النفسية الخلقية، كفء في مادته العلمية، مراقب لله تعالى في أمانته، مطمئن بالإيمان، صابر على معالجة النفوس الناشئة والعقول، زاهد فيما بأيدي الناس، ذو مروءة وعفة وهمة” 21.

والحاجة ملحة لإسهام المرأة في جهاد التعليم لما تعرفه منظومة التربية والتعليم من ارتباك وارتجال، ولما تقتضيه المرحلة من تكثيف الجهود، لأجل المراجعة والإصلاح. لا بد إذا من جعل التعليم أولوية الأوليات بعيدا عن المزايدات السياسية والمقاربات الارتجالية. والتعليم يحتاج أيضا لجهاد المرأة، لتصحيح المسار والرجوع بها إلى مكانتها اللائقة، ولرفع أشكال الحيف والتمييز والتحقير التي تعطل مساهمتها، لتمكينها من تحقيق ذاتها وإبراز كفاءاتها وخبراتها.

واقع الأمة الأليم بحاجة لجهاد التعليم حتى نقتحم جميعا عقبات العقليات والذهنيات الموروثة؛ كعقبة الذهنية الذكورية وعقبة العادات والتقاليد الجارفة التي تحرم المرأة من حقها في التعليم، وحتى تقتحم المرأة عقبة النفس التي تقعدها مع القواعد الخاملات، لتقتحم عقبات الآفاق، وتعانق نور العلم وتتحرر من الجهل والأميات والظلم والاستبداد، فتنهض بأوضاعها وأوضاع أمتها، يقول الإمام رحمه الله: “أمةً مشكلتها الحياتية الأولى هي الخروج من ربقة التخلف لجديـرة أن تستفيد من جهود كل أبنائها وبناتها. وللمرأة مكانها تحت دولة القـرآن في وظائف التعليم بمراحله” 22.

وفيما يلي نعرض نماذج من نساء كان لهنَّ حضور قوي في مجال جهاد التعليم عبر التاريخ، لنفض غبار التهميش والتمويه الذي طال مسار المرأة على مستوى التمثلات، مما كان له بالغ الأثر على التراث المكتوب والشفهي، الأمر الذي نتج عنه رسوخ أفكار مغلوطة مفادها عدم جدوى تعليم المرأة من الأساس. نستحضر بعض النماذج من النساء العالمات للاقتداء والتحفيز، ولدحض ادعاءات المحقرين من شأن المرأة والمقللين من قدراتها.

ثالثا- نماذج من جهاد المرأة في التعليم عبر التاريخ

1- نماذج نسائية من العهد النبوي

نقف بداية مع نماذج نسائية من العهد النبوي، فبناء على الإشارات السابقة التي وقفنا معها؛ حول فرضية العلم وتشجيع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صَحابَتَهُ لطلبه، نجد عهد النبوة يسجل صفحات مشرقة لاستجابة رعيلِه من المؤمنات لذلك النداء، مِن مثيل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي كانت مرجعا للصحابة في مجال الحديث والفقه، وحول نبوغها يقول الإمام الزركشي رحمه الله: (سَلَخْتُ سنينَ في دراسةِ السيدةِ عائشة، كنت فيها حُيال معجزةٍ لا يجد القلمُ إلى وصفها سبيلاً، وأخُصُّ ما يُبهِرُك، عِلمٌ زاخرٌ كالبحرِ، وسِعةُ آفاقٍ واختلافُ ألوانٍ، فَما شِئتَ إذْ ذاك من تَمكُنٍ في فِقْهٍ أو حديثٍ أو تفسيرٍ أو علمٍ بشريعةٍ، أو آدابٍ أو شعرٍ أو أخبارٍ أو أنسابٍ أو مفاخرَ أو طبٍّ أو تاريخٍ، إلاَّ أنتَ واجدٌ ما يَرُوعُكَ عندَ هذه السيدة) 23. وأمنا أم سلمة التي جمعت بين الأحكام والتفسير والآداب والعبادات.. ومنهن محدثات كأمنا أم حبيبة بنت أبي سفيان وأمنا حفصة بنت عمر بن الخطاب وأسماء بنت أبي بكر وغيرهن.

وبالمثل فقد ورد أَنهن كن يشاركن الرجال في المناظرات للتحقق من بعض الأحكام، كما يشاركن في تبليغ العلم ورواية الحديث، وتعليم الكتابة؛ باعتبارها أحد أهم وسائل التبليغ. وتؤكد كتب السيرِ على أنه قد تتلمذ كبار الصحابة والأئمة والمحدثين على أيدي أمهات المؤمنين والصحابيات والتابعيات من بعدهن.

وبذلك الرعيل من العهد النبوي، يحفز الإمام رحمه الله نساء هذه الأمة للاقتداء فيقول: (إنما صلاح نساء الإسلام في محنتهن الحاضرة باستيحاء النموذج النبوي الصحي، وتنفسِ عبيرهِ، وتجديد أجوائه، والانغراس في بيئة إيمانية تجدد ذلك النموذج روحا وسلوكا وعلما واتباعا واعتصاما، إلى النماذج الكاملة من بنات البشر تشرئب أعناق المؤمنات، وإلى جهاد يلحِقهن بهن) 24.

2- مسار جهاد المرأة في التعليم ما بعد عهد النبوة

وكذلك كان مسار جهاد المرأة في التعليم ما بعد عهد النبوة، إذ تؤكد المصادر التاريخية أَنه لم يخل عصر من جهاد المرأة في التعليم وحضورها الوازن فيه، رغم الحيف الذي طالها، فقد كان يشد إليهن الرحال من أجل طلب الإجازة والسماع والتدريس، من مثيل (المحدثة المسندة أم الكرام كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، وهي عالمةٌ صالحةٌ حضر دروسها العلماء الكبار مثل الخطيب البغدادي، وقرأ عليها الأئمةُ الكبار كالسمعاني. حدثت بالبخاري، وكانت إذا حدثت قابلت ما يقرأ عليها بأصل سماعها، وسمع منها خلق كثير. وقد اعترف العلماء بفضلها وسبقها في تدريس الجامع الصحيحِ للبخاري) 25، و(حفصة بنت الحاج الركوني التي كانت أستاذة وقتها، قامت بتدريس أبناء المنصور الموحدي في قصره) 26، و(عالمةُ المنطق خديجة بنت محمد العاقل صاحبةُ الشرح على متن السلم في المنطق، والشرح على أم البراهين في العقيدة) 27، (وفاطمة الغرناطية، من أهل القرن السادس الهجري، الأديبةُ والفقيهةُ، كان لها مسجد تقرأ فيه الأدب والنحو والبلاغةَ والبدع بحضرة جماعة من الطلاب) 28. والنماذج كثيرة يصعب حصرها في هذا الورقة.

فالخصائص التي حبا الله تعالى بها المرأةَ تؤهلها للقيام بدورها الريادي في التربية والتعليم. يقول الإمام رحمه الله: “المؤمنةُ هي قطب الرحمة بما هي مؤمنةٌ بالله، وبما هي أنثى فطرها الله عز وجل على الحب والحنان، وأغدق على قلبها من ذخائر العطف من أجل تعهد الحياة وبناء الإنسان. لذا فللمؤمنة في فقه التغيير وتفقيه الرجال بأسلوبه، المرتبةَ الأولى في زمن سيف جهاده المحبةُ والرفق والرحمةُ للعالمين” 29، وبذلك استطاعت المرأة المؤمنة أن تسجل أروع الأمثلة في جهاد التعليم، فكانت حاضرة فاعلة مكملة لدور أخيها الرجل عبر محطات متتالية من التاريخ الإسلامي. وعلى هذا المنوال ينبغي أن تكمل المؤمنة المسير اقتفاء بمن سبقنها على طريق المنهاج النبوي.

خاتمة

وختاما يتبين لنا أن الإمام رحمه اللهُ قد أعاد لمفهوم “جهاد التعليم” دلالاته النبوية، حيث بيّن فضل طلب العلم النافع الذي هو أساس الإيمان وتمام العبادة، وركز على ضرورة حضور المرأة في مجال التعلم والتعليم، حضورا فعالا كما كانت الصحابيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالعلم المقصود في المنهاج النبوي هو العلم الذي يكون روحه وباعثه عبادة الله تعالى، ويكون مدده ما يستنبطه العقل من الوحي ومن آلاء الله في الكون. العلم المطلوب في المنهاج النبوي هو العلم الذي يفضي إلى التوازن في شخصية المؤمن والمؤمنة، بين العقل والنقل والإرادة، العلم الجامع الذي يفتح باب الاجتهاد الجماعي حيث تكون عين المرأة الحافظة حاضرة فيه.

فضلا عن ذلك، فإن مشاركة المرأة في جهاد التعليم لا مناص منها، لتصحيح مساِرها ومسار الأجيال من ورائها، فالأمة تحتاج في جهاد التعليم إلى رجالها ونسائها، من أجل اقتحام عقبات الأنفس والآفاق، وبناء الإنسان القادر على التغيير والبناء.


[1] أخرجه ابن ماجه (224) أوله في أثناء حديث، والبزار (6746) مختصراً، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (17).
[2] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، بَابُ رَفْعِ الْعِلْمِ وَقَبْضِهِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَالْفِتَنِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، رقم 2673، ج 4، ص 2059.
[3] الإمام البخاري، الجامع المسند الصحيح، دار التأصيل، القاهرة، ط 1/2012، كتاب العلم، باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم. حديث رقم (98)، ج 1، ص 270.
[4] الإمام البخاري، الجامع المسند الصحيح، دار التأصيل، القاهرة، ط1/2012، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، ج 1، ص 130.
[5] أخرجه أبو داود  346، والترمذي 2682، وابن ماجة 223، وأحمد 21715.
[6] جامع الترمذي، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 2، مصر، 1395ه.
[7] أخرجه ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ص 268.
[8] أخرجه ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ص 31.
[9] الإمام النووي، المجموع شرح المهذب، ص 21.
[10] الموسوعة العقدية – الدرر السنية، إشراف علوي بن عبد القادر السقاف، الكتاب 8، الباب 2 زيادة الإيمان ونقصانه.
[11] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص 121.
[12] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيميا وزحفا، الشركة العربية الإفريقية للنشر والتوزيع، ص 200.
[13] عبد السلام ياسين، سنة الله، مطبعة الخليج العربي، ط 1، 2005، تطوان، ص 204.
[14] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، ط 1، 1996، الدار البيضاء، ج 2، ص 66.
[15] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، م س، ص 215.
[16] المرجع نفسه، ص 204.
[17] عبد السلام ياسين، العقل والنقل والإرادة، مجلة الجماعة، العدد 5، السنة 1، 1400ه، ج 2، ص 47.
[18] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، م س، ص 370.
[19] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ط 1، 2001، ص 55-56.
[20] عبد السلام ياسين، العدل، الإسلاميون والحكم، مطبعة الأفق،  ط1، 2000، الدار البيضاء، ص 567.
[21] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبعة الأفق، ط 1، 1994، 173.
[22] عبد السلام ياسين، العدل، م س، ص 311.
[23] بدر الدين الزركشي، الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، تحقيق وتعليق سعيد الأفغاني، المكتب الإسلامي، ط 2، 1970، بيروت، ص 3.
[24] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، م س، ج 2، ص 236.
[25] عفاف عبد الغفور حميد، جهود المرأة في نشر الحديث وعلومه، ضمن مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 19، العدد 42، رمضان 1428ه، ص17.
[26] ابن الزبير، صلة الصلة، ج 3، صص 565-566.
[27] عبد الهاد التازي، المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي، دار النشر الفنك، ط 1/1992، ص 97. 
[28] حياة قارة، النساء في فضاء البحر الأبيض المتوسط، ص 72. 
[29] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، م س، ج 1، ص 72.