المرأة والقرآن

Cover Image for المرأة والقرآن
نشر بتاريخ

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين الذي شمل برحمته الخلائق كافة، وخصّ الإنسان بتكريم وتعظيم، فعلمه وأرسل له الرسل والشرائع، وجعله خليفته في أرضه، وأخذ منه المواثيق والعهود، وكان ختام ذلك رسالة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

هذه الرسالة التي تُعنى بالإنسان رجلا وامرأة، تجمع بينهما في الإنسانية في مجمل الأحكام المتعلقة بالإنسان، وتفرق بينهما فيما يقتضيه الاستخلاف وعمارة الأرض من أدوار مختلفة لكنها متكاملة. فكيف ينبغي أن تكون علاقة هذا الإنسان بالقرآن؟ وأخص بالذكر هنا المرأة، ماذا ينبغي أن تستشف منه كمؤمنة قد تتلو منه جزءا أو أكثر يوميا؟ ما الأثر الذي ينبغي أن تستشعره وهي تتلو آيات ربها ورسائله؟

أسئلة ينبغي أن تطرحها كل امرأة على نفسها لتصيغ من الجواب منهج حياة رسم خطوطها رب العزة من فوق سبع سماوات، حياة طهر وعزة وكرامة.

فالقرآن الكريم هو نور وهدى وموعظة ورحمة وشفاء لما في الصدور، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (الآية 57 من سورة يونس). فسائر الأحوال التي تكون بها حياة القلوب وكمالها لا تُنال إلا بقراءة القرآن وتدبره والتفكر فيه، والمرأة تدخل في الخطاب العام للقرآن عند خطابه للمؤمنين أو الناس أو ما شابه ذلك من الألفاظ الجامعة فيما يتعلق بالمصير الأخروي، وبما قد تحرزه من أجر وقرب وإنابة وخيرية وطهر وأهلية وخاصية وحفظ وشفاء وأنس وكرامة.. وكل ما شئت من خيري الدنيا والآخرة الموعود به الإنسان في هذا الخطاب العام، ولا غنى لأي إنسان ‑ امرأة ورجلا ‑ عن القرآن مثبتا وهاديا ومعينا، مهما بلغت درجة العلم والتقوى.

وللمرأة في كتاب الله منبع قوة وتكريم، إن هي حفظت وتدارست كتاب الله بعقل المتدبر وروح المخاطَب بما في هذا الكتاب العظيم من أوامر وتوجيهات وإيضاحات لمعنى الإنسان ومعنى وجوده ومآله وكل ما يتعلق برحلته الدنيوية عبورا إلى الآخرة مستقرا خالدا في رحمة الله بإذنه سبحانه، وتتجلى هذه القوة في استيعابها لطبيعتها الإنسانية قبل طبيعتها الأنثوية، هذه الطبيعة التي أودع الله فيها من الطاقات والقدرات والإمكانات ما لا حصر له، حيث كان الإنسان محط عناية خاصة من الله سبحانه، دون سائر الكائنات والمخلوقات فخصه بالعلم: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (البقرة، 31)، وكرمه وجعل منه الأنبياء والرسل وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (الإسراء، 70)، ونفخ فيه من روحه التي لا يعلم كنهها إلا الله سبحانه وتعالى فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي (الحجر، 29)، وتوج الله سبحانه وتعالى هذه الخصال التي خص بها الإنسان بشرف الاستخلاف في الأرض إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب، 72)، والأمانة هنا هي أمانة العبودية بالتخيير وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب على قول أغلب أهل التفسير.

فكون المرأة إنسانا قبل أن تكون امرأة يجعلها تستشعر حظها من هذا التكريم وهذا العلم وهاته الروح، بل وأكثر منه أن تستشعر مسئوليتها في هذا الاستخلاف كونها إنسان، هذا الشعور الذي يخرجها من قمم الضعف والاستكانة والدونية والمخلوق الذي لا حول له ولا قوة، بل ويخرجها من أسرها في أضيق التأويلات الفقهية وأعسرها عبر التاريخ، فتقرأ في كتاب الله قصصا وأحكاما كانت بطلاتها نساء ضربن أروع الأمثلة في قوة الإيمان وقوة الشخصية وتحمل مسؤولية الاختيارات والمواقف.

تقرأ عمن جادلت دفاعا عن حقها وحق أبنائها، فسمع الله قولها من فوق سبع سموات وفرج كربها، حيث نزلت فيها آيات تتلى إلى يوم الدين؛ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (المجادلة، 1) صورة ناصعة من هذه الصحابية الجليلة خولة بنت ثعلبة التي لم تستكن لواقع فرضه عليها زوجها بظهاره منها – وهي عادة جاهلية يُحرِّم بها الزوج زوجته ‑، وضع رأت فيه هذه المرأة ضياع حقها وحق أبنائها فقامت دونه حتى استرجعته بوحي من الله، موقف جعل سيدنا عمر رضي الله عنه يقف لهذه المرأة وهو يسير في جمع من الناس حيث استوقفته، فأنصت إليها حتى انصرفت، فلامه رجل لوقوفه مع هذه العجوز، فأجابه سيدنا عمر: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، فوالله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها.

تقرأ عمن اختارت طريق الإيمان خلافا لزوجها فضرب الله بها المثل في أعظم كتاب وأكرمه وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (التحريم، 11)، إنها آسية امرأة فرعون طاغية زمانه، التي اختارت العبودية لله بدل العبودية لزوجها، وأبانت عن نموذج المرأة المسئولة عن نفسها واختيارها وسط البيئة الفاسدة، حيث واجهت الإغراءات و المساومات وتطلعت إلى ما عند الله، فضرب الله بها المثل للذين آمنوا رجالا ونساء ليبقى ذكرها خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

تقرأ عمن خُيّرن بين الدنيا والآخرة، فاخترن الله ورسوله، هنّ أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن، أردن التوسعة كباقي النساء، فخيّرَهُن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من الله بين الدنيا والآخرة، أي البقاء معه مع ضيق الحال أو التسريح بحثا عن زينة الدنيا، وقد روى البخاري (4786) ومسلم (1475) قصة تخيير عائشة رضي الله عنها حيث أمرها رسول الله صلى الله عليه  سلم أن لا تستعجل حتى تستأمر أبويها، فأجابت: “في أَيِّ هذا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فإنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسوله وَالدَّارَ الآخِرَةَ”، وكذلك فعل كل أزواجه صلى الله عليه وسلم، فأبانت عائشة رضي الله عنها عن موقف الصدق والثقة في الله وحسن الظن به وبرسوله، وعن شخصية المرأة الواعية العارفة بما لها وما عليها. لم يكن عندها مثقال ذرة من شك تجعلها تترد وتستشير حتى تختار، بل كان جوابها قاصدا بيّنا واضحا لا تستأمر ولا تشاور فيه؛ خيار الله ورسوله والدار الآخرة.

كثيرة هي المواضع التي تحدث فيها القرآن عن المرأة حديث التكريم والتعظيم؛ فهما وإيمانا وقدرة على اتخاذ القرار، ومثالا للتضحية، وإنسانا مسئولا بكل معاني الكلمة وما تحمله من ثقل؛ فهذه مريم العذراء العابدة المتبتلة، وهذه امرأة عمران التي دعت الله بكل ثقة فاستجاب لها، وهذه أم سيدنا موسى عليه السلام التي ألقت بابنها ثقة بموعود الله، وغيرهن كثير. فهذه النماذج السامقة من النساء اللواتي ذكرن في القرآن بمواقفهن وإيمانهن، واللواتي خوطبن في مواطن الخطاب العام بالتكليف وعمارة الأرض، لا بد لكل مؤمنة أن تجعل منهن القدوات التي تستنير بسيرهن مع باقي المؤمنات في حياتها، وتجعل من كل ورد تقرأه ورد تدبر وتذكر حتى لا تغيب عنها هذه النماذج الطيبة التي ضرب الله لنا بها المثل، فتستشعر القوة والتكريم والعزة التي أرادها لها الله، ولا تدع لخطابات التدجين والتحقير موضعا في عقلها ولا قلبها، تأخذ من عزيمتها وتفت في عضدها العجز والكسل والنكوص. فالمرأة في القرآن إنسانة مكرمة في مواطن الخطاب للإنسان، وأنثى معززة في مواطن خصوصيتها الأنثوية كأم وكزوجة وكامرأة على وجه العموم، لا ينقص من كرامتها الإنسانية إلا نكوصها عن دين الله والالتزام بشرع الله، وهي في ذلك مخيّرة مكلفة ومسئولة.