المرأة والتغيير في نظرية المنهاج النبوي

Cover Image for المرأة والتغيير في نظرية المنهاج النبوي
نشر بتاريخ

توطئة

من أجل تغيير المجتمع والرقي به لابد من تغيير الإنسان، تغيير ينبغي أن يتسم بالعمق والتدرج والشمول كي يكون ناجعا ومؤثرا. جاء في كتاب “الإسلام والحداثة” للأستاذ عبد السلام ياسين: (أفقنا التغيير العميق الذي لا يمكن أن تبنيه وتقوده بعون الله إلا حركة مباشرة متواصلة) [1]، ويستطرد قائلا: (مهمتنا أن نكوِّن ونعيد التكوين، أن نصبر ونصابر ونعلم؛ لأن تغيير الذهنيات والمواقف مشروط بالتدرج، أما التسرع فلا يمكن المرء من إقناع الآخرين بقضيته وضمهم إلى صفه) [2]. وقال رحمه الله كذلك: (المستقبل لتغيير عميق شامل، تغيير من داخل الإنسان، من تربية الإنسان، من تعليم الإنسان. التغيير أجيال، التغيير أمهات صالحات، التغيير مدرسة صالحة، التغيير مَنَعةٌ ضد الامتداد السرطاني للثقافة الدوابية، التغيير إعادة بناء الأمة على أصولها، التغيير تعبئة أمة، قومة أمة) [3].

إن المتتبع لكتابات الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى يخلص إلى أن محور التغيير وموضوعه هو الإنسان الذي يراد تغيير سلوكه وأخلاقه وإرادته وعقله، كي ينهض بأعباء التعبئة والبناء. وتغيير الإنسان أسبق وأهم من تغيير السياسات والهياكل، فالتغيير الأول عنده أصلي والثاني تبعي. قال رحمه الله: (وكل تغيير في السياسة والاقتصاد فإنما هو تبَعٌ لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان، ونفسيته وعقيدته وأخلاقه وإرادته، وحركته كلها على الأرض لتكون حركةً لها غاية ومعنى، وارتباط بمصيره بعد الموت، وبمصير أمته في التاريخ) [4]، وعدم مصاحبة التغيير الأول للثاني يُعَدُّ عنده مضيعة للجهد، وتكرارا لتجارب فاشلة.

والمرأة المسلمة معنية بقضية التغيير؛ تغيير النفوس لتكون طائعة لله تعالى محسنة، وتغيير الأمة لترتفع من انحطاطها ومن أمراض الجهل والظلم والتخلف إلى سماء العدل والحرية والازدهار، ولا يمكن المراهنة على أي تغيير مع إغفال الدور الحيوي والطليعي للمرأة، فالتغيير لا يقوم به الرجل وحده بل مع المرأة وبمشاركتها الفعالة.

المقاربة المفاهيمية لمصطلح التغيير

يعتبر مصطلح التغيير من المصطلحات التي تعدد ذكرها في القرآن الكريم، فهذا المصطلح اختلف مفهومُه وتبايَن معناه بتباين مظانه في النَّصِّ القرآني؛ ويَحسن بنا قبل معرفة دلالة التَّغْيير في القرآن الكريم أن نعرف مفهومَ المصطلح َومعناه في اللغة.

الدلالة المعجميَّة اللغوية للفظ التغيير:

غَيَّرَ في اللُّغة على أصليْن، هما:

• إحْداث شيء لم يكن قبلَه.

• انتِقال الشيء من حالةٍ إلى حالة أخرى

وجاء في “النهاية” في حديث الاستِسْقاء: “مَن يَكْفُرِ اللَّهَ يَلْقَ الغِيَر”، والغِير: الاسْم من قولك: غَيَّرت الشيء فَتَغيَّر [5].

وفي حديث جرير بن عبد الله: أنَّه سمع النَّبيَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول: “ما مِن قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقْدرون أن يغيِّروا فلا يغيرون، إلاَّ أصابَهم الله بعقاب” [6]. قال الزجَّاج: معنى “يغيِّرون”؛ أي: يدفعون ذلك المنكر بغيره من الحقِّ [7].

التغيير عامة هو التحول من حال إلى حال، وهو أيضا قدرة الإنسان على إدارة ذاته، وامتلاكه الإرادة والقوة والعزيمة الصادقة لتحقيق ذلك، كما أنه يحمل معنى بصيرة الإنسان بذاته ومعرفته بعيوبه ونقاط ضعفه.

والتغيير عند الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله وغايته العظمى ومحور حركته القاصدة ومحط طموحه يدور حول تغيير المجتمع؛ بنياتِه واقتصادِه وسياستِه، ويُشَرِّعُ لذلك شرائع، ويرسُم له منهاجا. لكن ذلك التغيير لا يدور حول نفسه، ولا ينتهي عند مقدماته، بل يدور حول الإنسان، ويخدُم غاية تحرير الإنسان من كل عبودية، ليدخل في العبودية لله عز وجل.

المرأة موضوعا للتغيير

اعتبر الإسلام المرأة شقيقة الرجل في الأحكام، ومعنية مثله بإصلاح نفسها واستكمال إيمانها لتحقيق الغاية الكبرى التي من أجلها خلق الله تعالى الإنسان، غاية تحقيق العبودية الكاملة له سبحانه في أجمل صورها، وهي مقام الإحسان، يقول الله تبارك وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وقال تبارك وتعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]. وبذلك فهي معنية بقضية التغيير، وتتربع عقبة النفس على رأس العقبات التي يطلب إلى المرأة اقتحامها ومغالبتها. لتتأهل إلى الانخراط في عملية التغيير المنشود، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولا يمكن أن يتحقق ذلك ما لم يكن الهم الأول لكل مؤمن ومؤمنة نيل رضى الله، فالمرأة المؤمنة مطالبة بتحرير إرادتها للقيام بالمهام المنوطة بها لرفع الظلم عن نفسها ومجتمعها، قدوتها في ذلك خريجات المدرسة النبوية، النماذج الكاملة من النساء، و”إلى هذه النماذج الكاملة من بني البشر تشرئب أعناق المؤمنات) [8]، للاقتداء بالنساء الصادقات الكاملات من الصحابيات الجليلات منهن تتعلم المؤمنات، ومن ضمن ما أكده الأستاذ عبد السلام ياسين أن الصحابيات كن محررات الإرادة، يجالسن المؤمنين ويؤاكلنهم ويستضفن ويصحبن رسول الله، ويشمرن ساعة الجد يطلبن العلم ويأخذن المبادرة، فكما أن شرع الله انتشل من قبل المرأة العربية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من غياهب القهر والمعاناة، أصبح من العاجل اليوم أن تستنقذ المرأة المسلمة المعاصرة ـ التي فاقت اختها الجاهلية سقوطا ـ من براثن الظلم والإهمال.

فالمؤمنة الصالحة مدعوة لكسب الفضائل ومقاومة الرذائل، وامتلاك القوة الإيمانية الإرادية للترقي صعدا في معارج الكمال الروحي والكمال الخلقي والكمال الجهادي، وعلى المؤمنات جهاد لاقتحام عقبات الفكر، والعادات، والفقه المنحبس… فإذا كانت المرأة الغربية انتزعت بعض الإنصاف بنضال وتطور اجتماعي فالمرأة المسلمة لا تقل عنها كفاءة.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: (حقوقكِ التي كفلها الشرع تنتزعينها من تعسف الرجل، وتتقدمين في العلم لكيلا يحتكر هو الاجتهاد ويميلَ به إلى سوء استعمال «درجته». ثم واجباتك في صد العدوان على الدين مما يليك” [9] “علما يشرق في القلوب إيمانا وتصديقا وفي العقول تدبيرا وتطبيقا”، العلم سلاح ضروري لخوض معركة التغيير. ولكي تأمن المرأة زوجا ومطلقة على غدها وغد أبنائها لا بديل في الأفق القريب عن تمكينها من استقلالها الاقتصادي.

المرأة صانعة التغيير

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: (فللمؤمنة في فقه التغيير وتفقيه الرجال بأسلوبه المرتبة الأولى …) [10].

لذلك على المؤمنة واجب ألا تضع غثاء، ولا تتسبب في التكثير الأرنبي بينما غيرها يربي صقورا ونمورا، وموقعها الاجتماعي بصفتها أما مؤمنة يلزمها العمل على تربية أطفالها نفسيا وعقليا ليتأهلوا في مهنة الاندماج الاجتماعي، ومهنة الإنتاج الاقتصادي. مهمة المرأة الحفاظ على الفطرة السليمة والمساهمة بشكل فعال في التنشئة، ويعتبر تربية النشء منطلقا وبرجا استراتيجيا ومشتلا: (من برجها الاستراتيجي الجهادي تبعث المؤمنة بُعوثا في طليعتها البنات والأبناء، حفاظا عليهن وعليهم على الأقل، إن لم يكن الاستعدادُ ليسبِق الفارِسُ مُجَلِّياً. جيل يتقدم بالدعوة قُدُماً بعد جيل، راسخا علمُه بما هي المهمة، ثابتة أقدامه، متوكلا على ربه. ويَكون برج المؤمنة مشتلاً لتربية الشجر الطيب، ومنطلقا للبعوث الغازية، لا مجَّردَ ملاذٍ في الأحضان، ومَرْفإٍ للمراكب المنكسرة، ومطعمٍ ومضجع) [11]. ولا يقتصر دور المرأة في هذه الوظيفة وإن كانت لها الأولوية، بل لها دور في المشروع التجديدي لإعادة الخلافة على منهاج النبوة. بحيث يجب إعادة البناء المجتمعي على أساس ومنوال من تربين التربية النبوية، أمهات المؤمنين والصحابيات الكريمات شموس هداية تشهد مواقفهن وأعمالهن على ما خص به الإسلام المرأة من حقوق، كن رضي الله عنهن مشاركات متزعمات في بناء صرح الأمة، تربين على طلب معالي الأمور يسامين إخوانهن الرجال في طلب ما عند الله، يتعبأن لإصلاح الدنيا والدين ويعبأن أخواتهن المسلمات. وقد أجمل الأستاذ عبد السلام ياسين مجالات التدافع للمرأة المؤمنة التي تكون فيه الريادة لها أو العمل إلى جنب الرجل في إنجاح المشروع التجديدي، فموقع المؤمنة السياسي وانتماؤها للحركة الإسلامية يحتم عليها العمل على إنجاح المشروع الإسلامي، وذلك من خلال إزاحة الباطل من مواقعه ثم بناء الحق، (صبر وجلد وتحمل وطول نفس، ورفق مع ذلك لا عنف. آن أن توقظ المؤمنات بنات جنسهن ليقدن جهادا مختلف الأشكال، متنوع الوجوه، شاملا لكل مرافق الحياة، جهاد تعليم وتتويب وتوعية ومحو للأمية العقلية والسياسية، جهاد لمقاومة غطرسة الرجل الذي يتذرع بالإسلام وشريعته ليظلم المرأة. جهاد لكيلا يمارس الرجل قِوامته ممارسة لئيمَةً يُقايضُ بالنفقة عبودية المرأة له وعبادتها إياه. جهاد كسب القوت ما دام المجتمع فقيرا لا يستطيع كفالة الأمهات، وما دام المجتمع لا يعطي التربية المقام الأول ليأْجُرَ الأم المربية «منتجة» الإنسان أفضلَ ما يأْجُر العاملين) [12].

خاتمة

هذه محاولة بسيطة في هذه الأسطر القليلة لمقاربة مفهوم التغيير عند الأستاذ عبد السلام ياسين في قضية المرأة، مع الاعتراف بعدم ملامسة جميع جوانبها لغزارة وعمق هذه المقاربة عند الإمام المجدد والمبثوثة في كتبه الغزيرة. ونخلص في نهاية هذه الورقة إلى أن (التعبئة البعيدة المدى تبدأ منكن أمهات الأجيال، صانعات الغد، ولد عمل صالح، وتربية، ومدرسة تحضنها الأمهات) [13]. فمن تحرير أنفسنا وعقولنا نبدأ، بحيث يتوقف جهاد التحرير على قوة الإيمان ثم على قوة التكتل والمساندة للجهاد الشامل. تغيير يبدأ بذواتنا ثم ينبعث يقظة في أجيال المستقبل لتعيد الأمة كما كانت في عهد النبوة الكريم (أمةً مجاهدة كما كنا، راشدةً، تقررُ مصيرَها بإرادتها الحرة، وتفرض قرارها بقوة الساعد المُنتج، وتدبير العقل المتحرر من الخرافة وفلسفة الإلحاد، وتنظيم الطاقات البشرية والاقتصادية، القومةُ أن يصبح أمرُنا شورى بيننا، أن تحمل الأمة عبء الحاضر والمستقبل) [14].


[1] – عبد السلام ياسين: “الإسلام والحداثة”، ص: 324.

[2] – “الإسلام والحداثة”، ص: 194.

[3] – عبد السلام ياسين: “العدل: الإسلاميون والحكم”، ص: 691.

[4] – عبد السلام ياسين: “إمامة الأمة”، ص: 88.

[5] – أبو السعادات الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، حرف العين المعجمة، (باب الغين مع الراء).

[6] – سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنَّهي.

[7] – للتوسع أكثر انظر: تهذيب اللغة للأزهري، مادة (غير) ج 3 /98.

[8] – عبد السلام ياسين: “تنوير المومنات”، الجزء 2، ص 287.

[9] – عبد السلام ياسين: “تنوير المؤمنات”، ج 1. ص: 213.

[10] تنوير المؤمنات، ج 1، ص 72.

[11] – تنوير المؤمنات، ج 2، ص 240.

[12] – تنوير المؤمنات، الجزء 2، ص 361 – 362.

[13] – تنوير المؤمنات، الجزء 2، ص 357.

[14] – “إمامة الأمة”، ص: 45 / 46.