المرأة بين عمق التربية وفعل التمكين

Cover Image for المرأة بين عمق التربية وفعل التمكين
نشر بتاريخ

لكل امرأة صفة تميزها عن غيرها، فقدراتها الخاصة وثقافتها وذكاؤها وعاداتها ومعتقداتها ورؤاها ونوع تفكيرها.. من المقومات التي تبني شخصيتها، بل وما تحمله في ماهية نفسها من مخاوف وحواجز نفسية، وما تتسم به من صفات خلقية واجتماعية، هو بدوره يرسم ملامحها الكبرى.

وتبقى الهمة العالية والقوة الاقتراحية والثقة في النفس، صفات متلازمة ومهمة تحتاجها المرأة لتكون مؤهلة لتبليغ الدعوة وحمل الرسالة النبوية، مع القدرة على مجابهة كل الصعاب، وكل ذلك بالتأكيد يكتسب من الصغر، لذا يجب أن تربى الفتاة منذ صغرها على الخلق الحسن وعلى الأدب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس إلى الخير، اعتبارا للحمولة الفكرية والنفسية التي تتراكم عبر مراحل عمرها، والتي تؤثر بشكل بليغ في تشكيل شخصيتها.

إن أهم ما يجب أن تحرص عليه المرأة في حياتها هو تقوى الله عز وجل، يقول سبحانه في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (الأحزاب، 70). والتقوى مأخوذة من الوقاية، فهي تجعل بين العبد وبين معصية الله حاجز وقائي منيع، ومن النار حصن. ومن أجمل ما قيل في التقوى قول الإمام علي رضي الله عنه: “التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل”. وهي لا جدال الباعث للمرأة في اكتساب باقي الفضائل، بل كل الخصال المحققة لإعمار الأرض على الوجه الذي يرضي الله تعالى، المكملة لوظيفة أخيها الرجل.

فاتسام المرأة بالخلق السامي والفضيل الذي يجلب محبة الناس؛ من حياء وتواضع وصبر وعفة وحشمة وكرم.. هو الأساس الباني لها ولذريتها من بعدها، فلابد أن تكون أساس تربيتها؛ قلبا وقالبا، علما وسلوكا وأخلاقا، لأن المرأة – بحكم التخصص الذي أناطه الله تعالى بها – متفردة في خصائصها السوسيولوجية والبيولوجية والسيكولوجية، ومن هنا جاءت الحاجة إلى معرفة موقعها البارز والأثر الفاعل في تاريخ البشرية، فهي الوعاء الحاني الذي يحتضن الإنسان وهو جنين إلى أن يكبر، وقد اعتبر الإسلام المرأة الينبوع الأول الذي ينهل الأولاد منه، وهي الأمين الأول على صيانة ورعاية التنشئة، والتهيئة من البداية، لذلك أولاها عناية كبيرة.

وقد عالج قضية المرأة الكثير من المفكرين، أبرزهم الأستاذ عبد السلام ياسين، الذي يستنهض همة المرأة لتقوم بدورها الحضاري في تعبئة الأمة، وصناعة المستقبل من خلال برجها الاستراتيجي؛ في قوله: “آن أن توقظ المؤمنات بنات جيلهن ليقدن جهادا مختلف الأشكال، متنوع الوجوه، شاملا لكل مرافق الحياة، جهاد تعليم، وتتويب، وتوعية، ومحو للأمية العقلية والسياسية” (تنوير المؤمنات ج 2/321).

وفي السياق ذاته يؤكد مالك بن نبي على ضرورة  تكاثف جهود المجتمع والمرأة؛ لاسترجاع دورها في الفعل التاريخي مع احترام وظيفتها الخاصة في قوله: “يجب علينا أن نعيد إلى المرأة وعاء الحضارة الحاني، الكرامة التي وهبها لها الإسلام عندما أنقذها من عادات الجاهلية القاسية، ولكن فلنعد لها كرامتها لنجعل منها السيدة التي توحي إلى الرجل بالعواطف الشريفة لا الفارسة التي تسيطر عليه”.

إن للمرأة رسالة حضارية واعدة بكل القيم الوضاءة التي تقف على قمتها الباسقة قيم الجمال والخير والحق والإيمان، وديننا الحنيف وضع المرأة في أعلى المواضع وأحصنها وأحسنها، باعتبارها إنسانا كاملا كالرجل سواء بسواء في إنسانيته وشعوره وحقوقه، لا يختلفان إلا في الوظائف المنوطة بكل منهما أداء لواجب إعمار الأرض والاستخلاف، وهو أول من نادى بتحريرها من الطغيان والظلم والاحتقار والإذلال، وكلفها إلى جانب الرجل بمسؤولية التغيير والبناء؛ من خلال وظيفة تشاركية تكاملية لا تقصي أحدهما عن الآخر،  في تعاون وتبادل للأفكار والمعارف والتجارب، فعلى كواهلهن تربى الأجيال، وترتقي  المجتمعات.

وتاريخنا الإسلامي، منذ بزوغه، حافل بنماذج من النساء اللائي أسهمن في بناء المجتمعات من خلال مستويات عدة، كن فيه حاضرات بقوة وفاعلية، فكن طبيبات ومربيات وعالمات ومجاهدات..

ففي مجال الطب مثلا نجد أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم زاولنه وبرعن فيه.

قال هشام بن عروة عن أبيه قال: “ما رأيت أحدا أعلم بالطب من عائشة فقلت: يا خالة ممن تعلمت الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه” (الطب النبوي لأبي نعيم الأصفهاني. 1/201).

والشفاء بنت عبد الله القرشية أيضا اشتغلت في الطب، واشتهرت بمعالجة النملة، أي نوع من الأكزيما. وكذلك سودة بنت مسرح، قابلة من قابلات العرب، كانت تقبل سيدتنا فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما رفيدة الأسلمية بنت سعد الأسلمية فكانت طبيبة متميزة بالجراحة، تعلمت من والدها الكاهن سعد الأسلمي، وبعد إسلامها جمعت صاحباتها المومنات وقامت تعلمهن التمريض ورعاية الجرحى، ونصبت لها خيمة في المدينة المنورة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول ممرضة وطبيبة في الإسلام، وهي بذلك منشئة أول مدرسة للتمريض في العالم، وصاحبة أول عيادة في الإسلام، وواضعة للقواعد الصحيحة للتمريض.

وكان العرب يطلقون اسم آسيات والأواسي على النساء اللاتي يعملن في تضميد الجراح – أي ما يصطلح على الممرضات في عصرنا هذا -، وكانت أمية بنت قيس الغفارية أول زعيمة للآسيات، خرجت في غزوة خيبر ولم تبلغ السابعة عشر من عمرها، وقد أكبر الرسول صلى الله عليه وسلم حسن بلائها فقلدها بعد انتهاء الغزوة بقلادة تشبه الأوسمة الحربية.. وغيرها كثير من الآسيات في فجر الإسلام.

وجملة القول، إن مهمة المرأة أعظم من أن تقزم في جانب دون آخر، فهي المربية البانية المكملة لدور أخيها الرجل. تملك بيدها المعول؛ فإما أن تبني وإما أن تهدم، لذلك ينبغي الاهتمام بها في جميع مراحل حياتها ليصح البناء.