القضية الفلسطينية ورهانات المستقبل

Cover Image for القضية الفلسطينية ورهانات المستقبل
نشر بتاريخ

ما هو السرّ الكامن وراء الدعم الأمريكي اللامشروط لـ«إسرائيل»؟ بدون شك أن هذا السؤال/ السر يشغل أغلب المتابعين والباحثين في كشف خفايا هذه العلاقات المتشابكة بين «إسرائيل» وأمريكا منذ ما يزيد عن سبعة عقود، إذ أنه ورغم تعاقب الإدارات الأمريكية واختلافها ورغم مرور هذه العلاقة بفترات مد وجزر، لكن الدعم الأمريكي في خطوطه العريضة ظل ثابتا ومتواصلا.

في هذا المقال نحاول أن نقارب جانبا آخر من هذه العلاقة ينطلق من فرضية التمييز بين الموقف الرسمي للإدارات الأمريكية بديمقراطييها وجمهورييها، وموقف الشعب الأمريكي بمؤسساته المدنية والشعبية، وإن كنا ندرك صعوبة الفصل لأسباب عديدة.

لماذا تحظى “إسرائيل” بهذا الدعم الأمريكي؟

خلص بنا البحث في مقالات سابقة إلى مجموعة من الأسباب المتداخلة والمتكاملة حصرناها في أربعة دوافع جامعة لغيرها، تشكل خطا ناظما للسياسة الأمريكية تجاه حليفتها “إسرائيل”، نعرضها بشكل مختصر:

1- عقائدية إيديولوجية:

مملكة صهيون حلم مشترك بين اليهود والبروتستانت، ومن المعلوم أن الشعب الأمريكي في معظمه شعب بروتستاني متدين يتقاسم خلفيته الدينية إلى حد بعيد مع العقيدة اليهودية التلمودية، ويلعب الدين دورا أساسيا في الحياة السياسية وقد تزايد هذا الدور مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة وهو عامل أساس ومحدد في العلاقة مع الصهاينة. وقد كشفت استطلاعات لمؤسسة غالوب أن الأميركيين الأكثر تدينا الملتزمين بحضور القداسات في الكنائس أكثر موالاة لـ«إسرائيل»، حيث عبر 71% ممن يحضرون الشعائر الدينية عن دعمهم لـ«إسرائيل»، في حين أن نسبة الذين لا يشاركون في القداسات تبلغ 49% فقط. ويؤكد “والتر راسييل مييد” الباحث بمجلس العلاقات الخارجية، “أن التأييد الأميركي البروتستانتي لليهود و«إسرائيل» وجد قبل أن يطأ اليهود الدولة الأميركية الناشئة، وقبل أن تتأسس دولة «إسرائيل». ويرى أن الأميركيين الأوائل من المتدينين البروتستانت كانوا يؤمنون بأنهم شعب مختار، وأن مسيحيتهم هي المسيحية الأفضل والأصح، وأن تأسيس الدولة اليهودية في «إسرائيل» يثبت أنهم شعب مختار أيضا مثل اليهود، وأن الرب يبارك أميركا، وأنهم مباركون من الرب، وأن نجاح الإسرائيليين هو نجاح للأميركيين”.

2- سياسية إعلامية:

يعتبر اللوبي الصهيوني وعلى رأسه منظمة “أيباك” طابورا خامسا يخترق الإدارة الأمريكية والرأي العام الأمريكي، إذ يلعب دورا خطيرا من خلال ارتباطاته وشبكة علاقاته وقوته التنظيمية والإعلامية والتعبوية وحتى الاستخباراتية، في التمكين والترويج لمقولات الجانب الصهيوني باتباع استراتيجيتين عريضتين لتشجيع دعم الولايات المتحدة لـ«إسرائيل»:

-الأولى سياسية: عبر الضغط على الكونغرس لدعم «إسرائيل» على نحو لا ينقطع، باستصدار قرارات لصالح «إسرائيل» أو معارضة القرارات التي قد تمس مصالحها داخل أمريكا وفي العالم، وفقط للتذكير استعملت أمريكا حق النقض الفيتو لصالح “إسرائيل” 43 مرة، وفي حالات مفضوحة وصارخة كإدانة القتل والإبادة والعقاب الجماعي.

-الثانية إعلامية: عن طريق ترويج خطاب إيجابي عام حول «إسرائيل»، عبر ترديد أساطير عنها وعن تأسيسها إضافة إلى الدعاية للجانب “الإسرائيلي” في النقاش السياسي عبر وسائل الإعلام المملوكة في أغلبها لصهاينة، وكذلك من خلال مراكز أبحاث ودراسات يشرف عليها يهود صهاينة أو متصهينين.

3- اقتصادية استراتيجية:

حاول الغرب في إطار الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، بل ومنذ بدايات القرن إيجاد حليف استراتيجي يكون بمثابة قاعدة متقدمة في الشرق الأوسط تشكل اختراقا لمنطقة النفوذ الشيوعي للحد من امتداده، لاسيما بعد أن استطاع السوفيات أن يكسبوا حلفاء كثرا في المنطقة العربية على رأسهم سوريا ومصر، وقد تزايدت هذه الضرورة بعد حرب 73 التي جعلت من أولى أولويات أمريكا والغرب السيطرة على مصادر النفط بشكل مباشر في سياق مخططات “كيسنجر” للسيطرة على المنطقة وثرواتها الطاقية والمعدنية وأسواقها الاستهلاكية والعسكرية.

4- سيكولوجية نفسية:

تشكل الهولكوست أو المحرقة عقدة ذنب مزمنة في الوعي الجمعي الغربي، وهو شعور تغذيه آلة الدعاية الصهيونية في كل مناسبة وفرصة، وتجعله وسيلة للابتزاز الأخلاقي والعاطفي والمالي، ويحاول الغرب في إطار ثقافة التطهير والتكفير التخلص من هذه العقدة بتقديم دعم لا مشروط ولا منطقي سياسيا واقتصاديا وقانونيا، مع العلم أن عددا من المؤرخين والمفكرين الغربيين يطرحون علامات استفهام حول الأرقام والدوافع والحقائق، حيث إن العصابات الصهيونية حققت مجموعة من المكاسب من خلال الترويج لمأساة المحرقة النازية، فقد تمكنت من كسب التضامن العاطفي من الدول الغربية وشعوبها وسرعت وتيرة تهجير اليهود إلى فلسطين، وأجبرت الأثرياء اليهود على أن يتبرعوا للمنظمات الصهيونية، وحصدت المليارات من الدولارات كتعويضات من ألمانيا والنمسا وبولندا، وصنعت تاريخا مشتركا معاصرا ليهود أوروبا، وسببا “وجيها ومقنعا” للتشبث بفكرة إقامة الدولة وحق قيام الدولة وعدم الذوبان في المجتمعات الأخرى.

هل يختلف الموقف الرسمي في الغرب عن الموقف الشعبي؟

هل يختلف الموقف الرسمي الغربي عن الموقف الشعبي؟ وهل الدعم لـ«إسرائيل» هو دعم رسمي أي من الإدارات الأمريكية والساسة فقط؟ أم أنه دعم شعبي له قاعدته الجماهيرية في صفوف الأمريكيين والرأي العام الغربي؟ وهل يمكن الرهان على الرأي العام في الغرب لإحداث تغييرات في المواقف الرسمية للدول والأنظمة؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة/الرهانات في ظني لها أهميتها القصوى في استراتيجيات العمل لخدمة القضية الفلسطينية مستقبلا، فعلى ضوئها تتحدد مجالات الاشتغال وأساليبه، إذ أنه عوض الاشتغال على اختراق الموقف الرسمي الأمريكي دبلوماسيا وسياسيا، ينبغي أن يتحول الاشتغال إلى العمل على توجيه المزاج والرأي العام الأمريكي والغربي كأولوية من الأولويات القصوى، خاصة في ظل هذا الانفجار الإعلامي الهائل غير المتحكم فيه، وفي ضوء متغيرات ومستجدات عرفها العالم، للتعاطف مع عدالة القضية الفلسطينية ومظلومية الشعب الفلسطيني، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي الغربي والأمريكي من جديد عبر إبداع استراتيجيات اختراق إعلامية وتواصلية ونفسية وإنسانية وحقوقية قادرة على إحداث هذا التغيير لصالح الحق الفلسطيني.

سنتوقف عند بعض استطلاعات الرأي التي تجريها بعض المؤسسات -لها مصداقيتها العلمية على أية حال- لنكون صورة على المزاج الأمريكي العام عبر عقود، والتأثيرات التي يخضع لها في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم حاليا تواصليا وسياسيا واقتصاديا.

تكشف استطلاعات للرأي تتم بشكل دوري منذ 1975 تقوم بها مؤسسة غالوب العريقة، وريثة “المعهد الأمريكي للرأي العام”، أن شعبية «إسرائيل» تزيد على شعبية الرؤساء الأميركيين، ويظهر استطلاع أجرته المؤسسة في الفترة من 3 إلى 18 فبراير 2021 أن شعبية «إسرائيل» تبلغ 75%، وهي ثاني أعلى نسبة بعد نسبة 79% المسجلة في عام 1991 بعد حرب الخليج، وحسب استطلاع آخر أجرته شبكة “سي إن إن” (CNN)  بين 21 و25 من أبريل 2021 تفوق نسبة تأييد «إسرائيل» بين الأميركيين نسبة تأييد الرئيس “جو بايدن” حيث بلغت نسبة التأييد له ولسياساته 53% مقابل معارضة 43%، وفي آخر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب يقيم 85% من الجمهوريين «إسرائيل» بشكل إيجابي، مقارنة بـ77% بين المستقلين و64% بين الديمقراطيين. كما يتعاطف 80% من الجمهوريين مع الإسرائيليين أكثر من الفلسطينيين، وتريد أغلبية قوية من الولايات المتحدة أن تضغط أكثر على الفلسطينيين في المفاوضات، وأقل من نصفهم يفضلون إقامة دولة فلسطينية، وينظر 66% من الديمقراطيين إلى «إسرائيل» نظرة إيجابية، لكن الثلثين يؤيدون أيضا إقامة دولة فلسطينية، ويتعاطف أقل من نصفهم أكثر مع «إسرائيل» في النزاع.

هذه الإحصاءات توضح مدى الاختراق الصهيوني للمجتمع الأمريكي، وقد تكون هي نفسها أدوات للاختراق، غير أنها تعطينا مؤشرات حقيقية أو قريبة من الحقيقة، مما يدعونا إلى طرح السؤال على الأسباب الأربعة الجامعة التي جعلناها آليات للتحليل، ألا يمكن تحييد ثلاثة عوامل منها على الأقل، نظرا للتغيرات التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين، فتكلفة دعم “إسرائيل” صارت مكلفة جدا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وإنسانيا وديموقراطيا لأمريكا، كما أن أمريكا والغرب استطاعوا إيجاد أنظمة رأسمالية حليفة في المنطقة، انتقلت بعد أن انتقلت الحرب الباردة من الشرق الأوسط والخليج إلى مناطق نفوذ أخرى في إفريقيا وآسيا، كما أن العالم بات يعرف انتقالا من التحالفات العقائدية والإيديولوجية إلى التحالفات الاقتصادية المالية، يضاف لهذا تغيرا هائلا في منظومة القيم تنحو إلى التسامح والتعايش وتثمين حق الحياة في صفوف الشباب، فالشباب في الغرب أكثر انفتاحا وقبولا بوجهة النظر الفلسطينية وروايتها للأحداث.

لهذا ليس مستغربا أن نجد أصواتا ترتفع في الغرب وأمريكا ترفض العنف الصهيوني وتدينه وتدعو إلى حل عادل مثل السيناتور “بيرني ساندرز” والسيناتورة “إليزابيث وارين”، المعارضين للعنف الإسرائيلي والمطالبين بوقف الهجمات الإسرائيلية، وفيما بعد انضم إليهما أكثر من 25 نائبا من أعضاء مجلس النواب، وهي سابقة في السياسة الأمريكية، وبداية تحول ينبغي أن يرصد ويستثمر، فالساسة الأمريكيون في خدمة الناخب الأمريكي، والناخب الأمريكي تحدد أولوياته واهتمامه ومزاجه وسائل الإعلام، ووسائل الإعلام والتواصل والتأثير وصناعة الرأي وتوجيهه مملوكة لمؤسسات ذات ارتباطات أو ولاءات صهيونية، وهذه هي عناصر المعادلة التي ينبغي حلها، فالرهان على الإعلام ووسائل التأثير غير المتحكم فيها، هي الكلمة المفتاح، رغم مواقف بعض مواقع التواصل المتحاملة كالفايس بوك وغيرها.

إننا أمام واقع جديد في أمريكا والغرب يتسم بانتشار المد الإسلامي والتحاق أجيال جديدة من العاملين للإسلام، وتزايد أعداد المجنسين من المسلمين والعرب من أبناء الجيل الثالث والرابع، وتنامي أعداد الأكاديميين والمراكز البحثية والهيئات المستقلة أو ذات الارتباطات العربية والإسلامية والحقوقية، وانتهاء فترة الرخاء المالي والاقتصادي بتوالي الأزمات الاقتصادية، وتذمر دافع الضرائب والتيارات الوطنية والبراغماتية من تكلفة الدعم لـ”إسرائيل” (آخر دعم أمريكي تم إقراره تجاوز 37 مليار دولار من المساعدات).

هذا الواقع ينبغي أن يستثمر بشكل حكيم جدا، ويبدأ من تجنب الصدام في الخطاب وعوض مهاجمة “إسرائيل” ينبغي التسويق لمعاناة الشعب الفلسطيني والمآسي الإنسانية بشكل محترف ومهني وموحد ومنظم، فقط يكفي أن نعلم أن ميزانية “أيباك” أقوى أذرع اللوبي الصهيوني لا تتعدى 50 مليون دولار سنويا، لندرك أنه يمكن رفع التحدي. يمكن أن نقنع الغرب والأمريكان -خاصة الكاثوليك- أن دعمهم للصهاينة يكلفهم كثيرا من ميزانيتهم ومصالحهم وإنسانيتهم ومنظومة قيمهم، فالفضح الإعلامي للجرائم الصهيونية والهمجية والملاحقة القضائية ومحاصرة مجرمي الحرب في المنظمات والمحاكم الدولية، واختراق المؤسسات الأكاديمية ودعم الأكاديميين الغربيين الأحرار، سيساهم في تشكل وعي جديد على مدى جيل أو جيلين، وستساهم حماقات الصهاينة في تسريع الوتيرة، فالصهاينة وصلوا مرحلة من العلو والطغيان والغرور لا يقيمون وزنا للحلفاء أو الأعداء، ويستخفون بالإعلام والمنظمات الحقوقية والهيئات الدولية والرأي العام وحتى بحلفائهم، وهذه بداية النهاية، وقد كشف حادث اغتيال وتشييع الصحافية شيرين أبو عاقلة مؤخرا جزء من هذه الحماقة.

إننا باختصار أمام خارطة طريق تتحدد أهم معالمها في:

1.   المراهنة بشكل أكبر على أوروبا والصين وروسيا والقوى الصاعدة كفاعلين في ملفات الشرق الأوسط.

2.   اللعب على التناقضات المصلحية الحاصل الآن، وكشف كلفة الدعم الغربي لـ”إسرائيل” بالأرقام.

3.   تشكيل لوبي إسلامي عربي سياسي واقتصادي وإعلامي في أمريكا.

4.   اختراق المنتديات الدولية والمنظمات العالمية الحقوقية لعزل “إسرائيل”.

5.   الرهان على الرأي العام والمجتمع المدني الغربي.

6.   التسويق الإعلامي والسياسي الجيد للمعاناة الفلسطينية خاصة في شقها الإنساني.

7.   استغلال التحولات الكبرى على مستوى خريطة الأديان في أمريكا والتحولات الديمغرافية.

8.   الرهان على النخب اللائيكية والتيار البراغماتي داخل الإدارة الأمريكية وكذا التيارات الوطنية.

ويظل السعي لإقامة أنظمة سياسية عادلة وديمقراطية، ذات سيادة وقرار مستقل، غير تابعة ولا خاضعة في المنطقة العربية، هو أولى الأولويات وإحدى أول الخطوات على درب تحرير فلسطين، ويظل أملنا كبيرا في الله الملك الوهاب أن يوقظ ويقيض أجيالا من الشباب في الغرب لخدمة أمته من بوابة فلسطين، وأن تكون نخبة ذكية مؤثرة حيوية متحررة من غثائية الأمة وعدم فعاليتها التاريخية، وتستغل الفرص التاريخية القادمة التي تشكل إرهاصات نظام عالمي جديد لإحداث تحولات كبرى في عقليات ونفسيات الإنسان الغربي.