القرآن والسلوك إلى الله

Cover Image for القرآن والسلوك إلى الله
نشر بتاريخ

تعريف السلوك

هو سير قلبي بخطى الإقدام. إقبال على الله بالباطن كما الظاهر. قطع لمسافات النفس حتى تصفو من كل شائبة ثم دخول على الحضرة القدسية بعد طرح جميع الأغيار خارج القلب. ومن الأغيار حب الرئاسة والشفوف على الأقران، وهذا من أخطر الحجب التي تخفيها النفس عن نفسها.

السلوك هي لواعج تغلي في القلب من شدة الشوق دون إغفال التواصي بالحق (الله) والتواصي بالصبر (مع المؤمنين). يقول الإمام: “دعْ المصطلحات، وتعال يشْكُ بعضُنا إلى بعض لواعجَ الشوق إلى الله، ونتواص بالحق وهو الله، ونتواص بالصبر مع الذين يريدون وجه الله. فإن لم تكن لي ولك إرادة، ولا شوق، ولا تعلق بالحق، فيا خُسْراه! وإن لم يكن لي ولك تصديق بأن من لم يجعل الله له نورا فماله من نور، وأن لله عبادا يتولاهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ويجعل لهم نورا، ويجعلهم نورا، وأن النور يقتبس من قلوب العارفين بالله بالصحبة، ومن ذكر الله عكوفا على بابه، ومن صدق الإرادة والطلب، ودوام الحضور والوقوف بالباب: إن لم يكن لي ولك شيء من ذلك فيا حسرة على العباد” 1.

أركان السلوك

عندما نتحدث عن السلوك فإننا ضمنيا نتحدث عن أركان ثلاثة هي عماد السير إلى الله: الصاحب والمصحوب ثم المشروع الجامع.

الصاحب

من أهم ما ينبغي توفره لدى الصاحب السالك شروط منها الانكسار والافتقار، إذ يتساءل القلب المتولع بالحب لحضرة جلاله عن عظم الحاجة إليه. وقد أشارت أغلب كتابات ومسموعات الإمام إلى السؤال الحارق الآتي: ألك إلى الله حاجة؟ والحديث عن الشوق إلى رب العالمين.

أول درجة الانكسار هي التوبة.

عندما نتحدث عن سالك فإننا إلى حد ما نتحدث عن تدرج في مراتب الدين، وأن بضاعة المحب قلبه، لذلك فإنه يعتبر رأسماله الوحيد الذي به ستطوى الطريق، لذلك فالتوبة الملحة تكون توبة قلبية، توبة من خفايا النفس.

التوبة من الاستعلاء.

التوبة من العلم.

التوبة من المناصب.

التوبة من المنغصات. لأن النفس لصيقة بالإنسان ولا يردعها إلا وصفة طبيب محنك ومجرب.

التوبة من كل تلك الحجب التي تلقي بك في خارج الحضرة، والحضرة لا تقبل إلا الجمال؛ “إن الله جميل يحب الجمال” الحديث.

التوبة من الأغيار، لأن الله غيور.

التوبة التي علمنا المصحوب هي توبة لا تنقطع، ولا ينبغي لها أن تنقطع، لأنها بكل بساطة مفتاح محبة مولانا للسالكين. والدليل من القرآن الكريم إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. التواب كثير التوبة، والتطهر شرط الدخول على الحضرة لأنها مقدسة: التطهر الظاهري والتطهر الباطني.

ثم الاستقامة، فاستقم كما أمرت، وهي أعظم كرامة، فالسالك مطالب بالاستقامة لا شهود الكرامة. ومن الاستقامة لزوم يومه وليلته قدر المستطاع.

المصحوب

الصحبة مفتاح القلوب، والمصحوب طبيبها الذي يحسن فتحها استجابة للمحبة التي تربطه بها، هو الذي يخرج المرء من الغفلة عن حقائق السير، ويرفع همته ويعلمه كيف يدخل في تجارة لن تبور ما دام الصدق دليله والصفاء وقود سيره، يعلمه أيضا كيف تطوى له المسافات في عالم الروح لتصبح الطريق أمامه معبدة مستقيمة واضحة لا شية فيها.

وبالصحبة تشفى القلوب من أكدار الأغيار وتصفو للمحب مشارب الإيمان. وبما أن المصحوب يتخذ من القرآن الكريم مشربه، علما وتعليما وجهادا وسلوكا وتفكرا وتدبرا وحكمة ونصيحة وشرعة ومنهاجا، سنفهم أن من صحبه لابد سيتشرب منه؛ كل على قدر همته وصدقه.

كما أن الطريق الموحشة لا يصح قطعها منفردا في زمن تهجم عليك الفتن كقطع الليل المظلم، إذ لابد من رفقة تؤمن بما يلتاع في قلبك وتشاطرك الهم والهمة. فكم من إرادة منطفئة اتقدت وسط الهمم، وكم من جمرة منطفئة التهبت بين أحضان الجمار المتقدة، إذ “المرء على دين خليله”.

المشروع: القرآن الكريم

كلام الله عز وجل هو كلام المحبوب الذي تستكين عنده القلوب. يحمل من الأسرار ما ينفتح لكل قلب بمقدار النور الذي يسكنه. هو ربك يخاطبك وكأنه لا يوجد في الكون غيرك، خطاب يأسرك ويلامس خفاياك بدون استئذان، يرتب أوراقك التي تبعثرت ويجبر فلتات روحك، ملاذك قبل كل شيء وبعد كل شيء، إن فرطت فيه أصابك الذبول وعلاك الشحوب وترامت عليك الأحزان من كل حدب وصوب، وإن أكرمته أكرمك وكساك ثوب السكينة، وبسط لك بساط الفرح. القرآن رسالة من الله عز وجل إلى البشر كافة. فيه مفاتح السعادة وبه تبنى الهمم السعيدة، بل به يعرف الله. أنزله الله «نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يَضِل نهجه، وشعاعا لا يُظلم نوره، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه» 2.

المصحوب مشربه الأساس هو القرآن الكريم؛ تعليما وتعلما وتحكيما وجهادا، ومنه تتنقل أنواره وأسراره التي كشفها الله له إلى قلبك المتبع والمحب، فلا محبة بدون اتباع ولا اتباع بدون محبة.

فما دور القرآن الكريم في السلوك؟

* ما قبل القرآن

ولقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة.

القرآن الكريم نزل أول ما نزل على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. قول ثقيل يلقيه الله عز وجل على قلب سيدنا رسول الله. اقرأ باسم ربك الذي خلق. حجم ثقل هذا الكلام العالي لن يحمله إلا قلب يتسع لكل الكون وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.

وهذا ما أعَدَّه الله به قبل يوم “اقرأ” المشهود:

– استنكاره لعادات الجاهلية.

– تحنثه في غار حراء بعيدا عن الناس، وكان يتحمل العناء والمشقة.

– دور السيدة خديجة في تقاسم هموم الزوج الروحية، إذ تخلت عن العديد من مطالبها لتكون بجانب زوجها في مرحلة انعطاف مهمة في حياته، ولم نسمع أنها طالبته بحقوق زوجية أو اشتكت بعده عنها وتحنثه بالليالي الطوال، وهو ما يقابل اعتكافات المؤمنين اليوم ورباطاتهم.

التفكر إذاً كان عنوان مرحلة ما قبل التلقي القرآن. ثم جاءت ضمة سيدنا جبريل عليه السلام وما يقابلها من تعهد ورعاية للمصحوب لطالب الإحسان. فكانت مرحلة تخلية عظيمة جدا ستجد الوعاء مستعدا لدخول القرآن الكريم كاملا بكل أحرفه ومعانيه وأسراره.

* صحبة القرآن

أوقات قراءة القرآن هي محطات نورانية خاصة يلقي فيها القرآن بأنواره على قلب كل سالك طالب وجه الله تعالى، ومنها ما نجده في ورد يوم المؤمن وليلته. وفيما يلي سأتطرق إلى بعض منها:

– الورد اليومي: القرآن غيور لا يعطيك سره إلا إذا جعلته رفيق رحلتك. فاقرأ وارق لم يقلها سيدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه هكذا من فراغ. لذلك فأقل ما يقرأ السالك حزبين في اليوم. فإن تمكن من ذلك زاد وعلى قدر الزيادة يكون العطاء من الله.

– القيام: الله عز وجل أنزل سورة سماها سورة الليل، ولا توجد سورة النهار؛ وفي ذلك إشارة إلى أن قرآن الليل يرقيك درجات، يتبشبش لك ربك والملأ الأعلى يفرح بك، والملائكة تحف مجلسك.

– مجالس الذكر : يثيبك المولى بها ما تعهد به مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده” أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (2699).

– مدارس القرآن: هدفها أن تكون المؤمنة مدرسة متنقلة عبر الأجيال.

يستكمل السالك جمال تذوق القرآن عندما يستظهره من صدره محمولا بسر الصحبة، ينفتح له في كل ختمة باب الفهم بقدر ما تفرغ من الأغيار.

“وأنذر عشيرتك الأقربين”

الأسرة هي النواة والمنطلق، والاهتمام بالطفل منذ نعومة أظافره وتوجيهه إلى القرآن هو أشد طرق التربية والربط بالله تعالى اختصارا لوقت نضجه ونبوغه، من فرط في هذه المرحلة يجني ثمار تفريطه، ومن عض عليها بالنواجذ فهو يتلمس حتما عناية الله بأهل القرآن. يقول الإمام: “ويُرجى للنفوس الناشئة في جَوِّ القرآن، المتمرسةِ به، أن تُشْفَى من سَقامها، فيَعْبُرَ الناشئُ عتَبَةَ الرجولة وقد تجاوز الزهْوَ بالتفوق، والاستكبارَ على الأقران” 3.

لا ننسى الأسرة باعتبارها حصنا وبرجا استراتيجيا مهما تعتبر المؤمنة حارسته الأساس من موقعها أما أو زوجة أو أختا أو بنتا. كل هذه الفئات معنية بتمثل معاني القرآن الكريم قبل حروفه، لأن من أهم وسائل التربية الحديثة التربية بالقدوة.

“واصدع بما تؤمر”

القرآن الكريم كلام الله الداعي إلى الخير، فمن سلوك المؤمنة الحاملة لكتاب الله الدعوة إلى الله باعتبارها مهمة مقدسة عظيمة لا ينتدب لها الله عز وجل أيا كان. في القرآن الكريم تجد قول الله تعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (النحل، 125)، ونبيك الحبيب يقول : “بلغوا عني ولو آية” (رواه البخاري)، بناء على فهم منهاجي متكامل يجمع بين العدل والإحسان، بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة.

أنواع قراءة القرآن

كيف نقرأ القرآن الكريم وبأية نية، كي يكون سببا لنا في الارتقاء في سلوكنا إلى الله تعالى؟ تساؤل تجيب عنه هذه التصنيفات التي أقترحها على ذوي الهمم العالية.

 – القراءة السمعية البصرية: وهي قراءة الورد اليومي الذي يجتهد فيه المؤمن ألا يقل عن حزبين في اليوم بمعدل ختمة على الأقل كل شهر.

 – القراءة الصوتية: وهي قراءة تحيلك إلى تعرف فن من فنون الصوتيات ورسم الكلمات والانضباط إلى قواعد التجويد ومعرفة القراءات، باعتباره علما قائما بذاته يطلب من أفواه الرجال لما يغلب عليه من طابع تعلمي تعليمي

– القراءة التفسيرية: قراءة تستفزك لفهم المعاني والكلمات مع الاستعانة بكتب التفسير ومعرفة أسباب النزول، والإحاطة بما يرافق القرآن من علوم تجعلك تستطيع تشكيل المعنى وفق بنية متكاملة محيطة بكل حيثيات النص القرآني.

– القراءة التدبرية: وهي قراءة استكشاف بعض المعاني الخفية التي لا تنكشف لك إلا بتكرار النظر ومساءلة الآيات. مثال: غير المغضوب عليهم؛ لم يقل عز وجل الغاضب عليهم وإنما قصد أن الله وكل مخلوقاته غاضبة عليهم..

 – القراءة الإشارية: هي قراءة التقاط الإشارات من كتاب الله والتوجيهات واعتبارها رسائل ربانية فورية؛ تتطلب أن يكون القلب يقظا نبيها فطنا أن الله محيط بأمره وأنه يصنع على عينه.

أمثلة:

ألست تقرأ ألا بذكر الله تطمئن القلوب؛ فما حالك مع الذكر؟ إن لم يطمئن قلبك فرتب أوراقك ونظم أورادك وأصلح سرك وأسل دمعك، فثمة خلل وثلمة لن تسدها إلا جلسة تخلو بها مع ربك تدنيك من حمى المحبوب. أحبه فإنه يحب الذاكرين وقد أعد لهم مغفرة وأجرا عظيما.

ألست تقرأ فاسجد واقترب؛ اسجد إذا، سجادتك محراب قلبك وهو يسجد لعظمة ذي الجلال والإكرام، اسجد لمن رفع السماء بغير عمد، اسجد لمن خلق الإنسان من علق، اسجد لمن جعل في كل جسد مضغة إن صلحت صلح بصلاحها وإن فسدت فسد بفسادها… اسجد لتشهد علوه وانخفاضك، اسجد لتشهد قدرته وضعفك، اسجد لتشهد غناه وفقرك. اسجد لتشهد عزته وذُلَّك، اسجد لتشهد ربوبيته وعبوديتك. اسجد لترى الله سبحانه وتعالى.

ألست تقرأ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛  فاطرق باب كرمه والجأ إلى عظيم فضله، فربك الواسع لا ينقضي منه العطاء، ولا يتوقف منه الجود، لا حد لوهبه، يعطي بلا حساب وعنده المزيد. أقرضه قرضا حسنا يضاعفه لك أضعافا مضاعفة.

ألست تقرأ إنك بأعيننا؛ فعن أية حماية تبحث وتُقَلّبُ وجهك وأنت تحت نظر الله، يسلمك بإذنه من كل سوء، يواسيك وقد فاضت بقلبك الآهات. يرتب أوراقك التي بعثرتها في الطريق. َيجذبك إلى الوجهة التي تليق بك وأنت عبد في كامل خضوعه واستسلامه، إني وجهت وجهي للذي فطرني.

ألست تقرأ ففروا إلى الله؛ فلمَ تستعيض عنه بالبشر؟ مخلوق لا يملك لنفسه حيلة ولا حول له ولا قوة، تتلهف معتقدا اعتقادا جازما أن الحل عنده وتنسى أن ربك يدبر الأمر. كيف غفلت أنه لا فاعل في الكون سواه وما من أمر يتم إلا بإذنه؟ عجبا لك تفر إلى المخلوق وتحيد بيقينك عن الخالق. اللهم صدق اللجوء إليك وكمال الأدب في حضرتك.

ألست تقرأ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا؛ قرآن ربي كلام الله الجليل وشفاء كل عليل، في كل آياته أسرار، إن صحب يومك وَجَّهك، وإن صحب ليلك رفع قدرك، وإن صحب روحك أدخلك على الله فاكتفيت به عن الكل وبذلت له ما قدمت وما أخرت.

القرآن نور من الله يضيء ظلمة قلبك، ويحطم أصنامه، ويرتب أركانه، ويفصح لسانك ويقوم اعوجاجه، ويخفف أثقالك، ويعلي قدرك، ويدنيك من ربك بقدر حبك له، َفمن أحب الله أحب كلامه.


[1] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 116.
[2] نهج البلاغة، ج2، ص177.
[3] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ص 150.