القرآن الكريم والصحة النفسية.. أسس وظواهر

Cover Image for القرآن الكريم والصحة النفسية.. أسس وظواهر
نشر بتاريخ

مداخلة في ندوة عن بعد بعنوان: “النفس البشرية في القرآن الكريم حقيقة ومطمحا”، بثتها قناة الشاهد يوم الجمعة 8 أبريل 2022

الحمد لله الذي نور بالقرآن القلوب وجعله شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين.

والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على من اتخذ القرآن سبيلا إلى ربه ومنهاجا، وعلى آله وصحبه أعلام الهدى ومصابيح الدجى، وسلم تسليما سرمدا أبدا.

إن عظمة القرآن وآثاره على النورانية لا يحدها كلام ولا يجمعها حديث، له الأثر البالغ في تحقيق التوازن لدى النفس، فهو يزكيها لتصبح نفسا مطمئنة تسكن لخالقها، فتطيع أوامره وتجتنب نواهيه، فتطمئن إلى محبته وعبوديته وذكره، وتطمئن إلى لقائه ووعده، وتطمئن إلى قضائه وقدره، وتطمئن إلى كفايته وحسبه.

ولقد تعرضت النفس البشرية على مر العصور إلى جملة من الأمراض النفسية التي تهدد سلامة الفرد في علاقته مع ربه، ومع نفسه، ومع المجتمع، ولعل أكثرها شيوعا في عصرنا الحالي أمراض الاكتئاب الناتجة عن كثرة الهموم والأحزان، فتثقل النفس ويوهن القلب، وتقعد الجوارح، فلا يزال المرض بالمؤمن حتى يصير عاجزا كسلانا مهموما محزونا، لا يقدم شيئا ذا نفع لا لنفسه ولا لأسرته ولا لأمته.

ولأن حاجة النفس إلى التزكية والتهذيب عظيمة، فقد عمل القرآن الكريم على حفظها من التوتر والاضطرابات، والترفع بها إلى كل فضيلة ترفع قدرها وتحفظ كرامتها، ويسمو بها عن كل رذيلة تبخس قيمتها فتتحقق لها صحة نفسية وسكينة وطمأنينة.

فنجد الله عز وجل في كتابه العزيز يرشدنا إلى تجنب الهموم والأحزان. قال تعالى: وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ (آل عمران، 139).

وأرشدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من هذه الأمراض. فعن عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني، إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحا).

ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات كما علمنا إياها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ويقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: (ويذهب الحزن وينجلي الهم متى طرد ترتيل القرآن أشباح الظلام من القبر الخامد المنطفئ الأنوار) (تنوير المومنات).

والقرآن الكريم له تأثير كبير على كل الأدواء الحسية منها والمعنوية، فهو مستشفى لعلاج جميع الأمراض، والله عز وجل هو الطبيب الأعظم. يقول الله عز وجل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (الشعراء، 80). وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (الإسراء، 82).

ذكر الله عز وجل القرآن بأنه شفاء ولم يذكر بأنه دواء، وذلك لأن الدواء قد يشفي وقد لا يشفي، بينما الشفاء أساس العلاج من الأمراض (كل الأمراض).

وهو شفاء للقلوب التي في الصدور من أمراض الشك والشرك والذنوب والغفلة والحسد والبغضاء وحصول الهجران والقطيعة.. وغير ذلك من الأمراض التي يكون سببها فساد القلب ومرضه، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: (القرآن شفاء لما في الصدور ورحمة للمومنين، على تلاوته وحفظه ومدارسته والعكوف عليه مدار طب القلوب وإعدادها لتمتلئ إيمانا، هو النور).

فهو شفاء بإذن الله عز وجل لجميع الأمراض النفسية والقلبية والبدنية لمن أحسن التداوي به ووضعه على دائه بصدق ويقين وإيمان، فإذا استوفى شروطه لم تقاومه الأدواء أبدا، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها، وعلى الأرض لقطعها، كما يقول الله عز وجل: لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الحشر، 21). فإذا كان هذا تأثيره في الجمادات والحجر، فكيف سيكون في النفوس والقلوب التي في الصدور؟

فهو إذن دعوة سامية لتحقيق الصحة والسلامة النفسية والبدنية، ومعالجة اضطرابات النفس البشرية من خلال إرشادها إلى أسس سليمة في تعاملها مع كتاب الله عز وجل، تثمر تأثيرا إيجابيا في تكوين شخصية إيمانية ذات نفس مطمئنة، يكون لها القرآن الكريم نفعا طيبا وشفاء تاما. ويتجلى ذلك في المحافظة على الورد القرآني الذي يعتبر الطاقة المتجددة والخير الذي لا ينضب، فيحافظ المؤمن على ورد التلاوة اليومي الذي به يتجدد العهد والصلة بكتاب الله ليغترف هداه وشفاءه، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: “أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الحال المرتحل، قيل: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل” (رواه الترمذي).

فيحافظ المؤمن على تلاوة حزبين كل يوم ويستقيم على ذلك حتى يختمه، ثم يبدأ ختمة أخرى، وهكذا.

ثم يسعى بعد ذلك أن يكون له ورد للحفظ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الحفاظ وأولهم، وأصحابه رضي الله عنهم تسابقوا إلى هذا الخير، فحفظ منهم القرآن جم غفير. ويكفينا موعظة في هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح). والبيت الخرب هو البيت المهدم الأركان الذي يكون مرتعا للشياطين والقاذورات، وكذلك القلب الخالي من القرآن يكون قلبا مريضا مرتعا لوساوس الشيطان والخوف والقلق والحيرة وغير ذلك من الاضطرابات والأمراض.

ومما يؤثر على النفس ويكسبها فرحا وسعادة وسكينة وطمأنينة الاستماع إلى القرآن الكريم الذي به ترجى رحمة الله، قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الأعراف، 204).

كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمعه من غيره فيتأثر حتى تذرف عيناه الشريفتان عليه الصلاة والسلام.

والمواظبة على الورد القرآني تلاوة وحفظا واستماعا، له آثار عظيمة النفع في القدرة على مواجهة الصعاب والمشاكل، والتخلص من الخوف والقلق والحزن، كما يجد المواظب على الورد توفيقا من الله في شؤون حياته وبركة ورزقا ونجاة وعصمة من كل أذى، وأفضل من ذلك الفوز برضوان الله وجنانه وشفاعة القرآن.

بالإضافة إلى هذه القراءة الكلية لكتاب الله عز وجل هناك ورد آخر حثنا عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لما فيه من تحصين ودفع للشر والأذى؛ وهو السور والآيات الفاضلة، فنجده صلى الله عليه وسلم بين لنا فضل هذه الآيات والسور، من بينها: الفاتحة وهي الشافية الواقية، آية الكرسي، الإخلاص، المعوذتين.. إلى غيرها من الآيات والسور العظيمة، والقرآن الكريم كله عظيم.

ففي فضل المعوذتين والإخلاص يقول صلى الله عليه وسلم: (قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء) (أخرجه النسائي).

ونجده يقول عليه الصلاة والسلام: (الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأهما في ليلة كفتاه) (أخرجه مسلم)، أي تكفيانه من كل سوء. ونجده يقول من قرأ آية كذا لم يصبه وأهله شيطان، ومن قرأ كذا كفاه الله كل ما أهمه، ومن قرأ سورة كذا نجاه الله وحفظه… الخ.

(إن الذي يقرأها يوميا كيف يمسه شيطان من ألف ألف مسافة، نقرأها بهذه النية وبالنية العظمى وهي القرب من الله عز وجل) كما يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله.

لكن كيف ننتفع بقراءة القرآن الكريم؟ وكيف يكون لآياته الكريمات الشافيات الكافيات تأثير على النفس في تزكيتها وتطهيرها وشفائها؟

هنا لابد من استحضار منهج الصحابة والسلف الصالح كيف كانوا يقرؤون القرآن ويتدبرونه ويعملون به، وكيف كانوا يستحضرون عظمة المتكلم فيتلقون كلامه عز وجل رسائل يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار، وكانوا يقرؤون عشر آيات لا يتجاوزونها إلى غيرها حتى يعملوا بها، وهو المقصود بقوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص، 29).

(ففهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان، وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر فيفعلها البر والفاجر والمؤمن والمنافق كما قال صلى الله عليه وسلم: “ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر”) (ابن القيم رحمه الله).

فمجرد التلاوة بدون تدبر ومعرفة لا يجعل القرآن عرشا لمعاني القرآن، بل سيكون عرشا لوساوس الشيطان، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (الزخرف، 36).

ولن يستشعر القلب تلك الطمأنينة التي قال عنها الحق سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد، 28).

فالآية ترسم سورة شفافة للقلوب المؤمنة في جو الطمأنينة والأمن والبشاشة والسلام، وتطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه. تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن  بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضرر ومن كل شر إلا بما يشاء مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته إلى الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة، ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم كما يقول سيد قطب رحمه الله.

فلا خروج من الظلمات ولا يقظة من الكبوات إلا بتدبر القرآن الكريم.

ومن تدبر القرآن كذلك وسبل الانتفاع به حضور القلب وترك حديث النفس، “فإذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليك، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله. قال تعالى: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ” (ابن القيم رحمه الله).

وتلاوة القرآن حق تلاوته كما يقول الإمام الغزالي رحمه الله، هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب؛ فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر، فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ.

وذكر كذلك كلاما نفيسا في التأثر بالقرآن في كتابه إحياء علوم الدين: (فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، وأن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر فإنه قال: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون، فكما أن جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهرا، فباطن معناه أيضا محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهرا من كل رجس ومستنيرا بنور التعظيم والتوقير. وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد، فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان، ولا لنيل معانيه كل قلب).

وأختم بنقطة أخيرة وهي الإيمان قبل القرآن، حيث كان الصحابة يفرقون بين من أوتي الإيمان قبل القرآن وبين من أوتي القرآن قبل الإيمان، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين قال للجيل التابع: (أوتينا الإيمان قبل القرآن وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فأنتم تنثرونه نثر الدقل). ووقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتدبر قوله تعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ (هود، 17). فقال: البينة الإيمان، والشاهد القرآن، والإيمان يسبق القرآن، ليبين لنا أهمية المحل القابل الذي هو القلب ليتزين ويترقى ويتزكى لاستقبال أنوار القرآن وهدايته، فيزداد إيمانا وإقبالا على كتاب الله عز وجل، كما قال سيدنا عثمان رضي الله عنه: (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم).

ومما يهيئ أرضية الإيمان في القلوب ذكر الكلمة الطيبة: فـ(النبع لا إله إلا الله والفيض نورها حتى يستطيع المومن وجماعة المؤمنين تلقي شمس القرآن ومدد القرآن وبركة القرآن وحتى يستطيعوا العمل بمقتضى القرآن).

هكذا كان منهاج الصحابة في تعاملهم مع كتاب ربهم، فجمعوا بين الحفظ والفهم والعمل والتدبر والتبليغ. لذا ينبغي أن نتلقى القرآن بنية التنفيذ لأنها هي المطلوب.

فإذا واصلت النفس رحلتها مع القرآن وبالقرآن وأعمال البر والإحسان، أصبحت آمنة مطمئنة واستقرت في مقام السكينة، فلا ترى غير الخير بديلا، فأمنها مع الحق سبحانه وأملها فيه تعالى عز وجل، وهنا تسمى بفضل الله النفس المطمئنة.

نفعنا الله بالقرآن العظيم، وجعله لنا دواء وشفاء وهدى ورحمة ونورا، وبارك لنا في شهر القرآن والصيام ورزقنا شفاعتهما، والصلاة والسلام على خير من علم القرآن وعلمه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.