العلم بين التأصيل والتجديد

Cover Image for العلم بين التأصيل والتجديد
نشر بتاريخ

العلم النافع

إذا كان العلم وطلبه من أولويات الجهاد وذروة السنام بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات، وإذا كان العلم مفتاحا لكل خير ومغلاقا لكل شر، فلابد لهذا المفتاح من أسنان تفتح مغالق القلوب كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى، وأسنان مفتاح العلم النافع سلوك وتربية لنيل رضى الله عز وجل، ينفتح القلب إثرها لمعرفة الله ومحبته عز وجل، وأن يشبع الحاجة الحارة المحرقة ويجيب عن السؤال الملح: من أنا ولماذا جئت وإلى أين أمضي وما معناي ومعنى الوجود؟

فالتربية في عرف الثقافة المادية لا يعدو هدفها إعداد المواطن الصالح والعامل المنتج والاختصاصي الكفء، لا تعدو آفاق الدنيا ولا تخرج من بئر الغفلة عن الله، تربية خلقية ليكون المواطن مسالما فلا يحدث الفوضى في المجتمع، تربية علمية أدبية لتنمية الثروة الفكرية والقدرة التكنولوجية في المجتمع 1.

أما التربية القرآنية فهي إيقاظ قلب الإنسان وعقله بالعلم والإيمان ليكون عبدا لله. والعلم الحق، هو العلم المنجي والضامن من كل انحراف يصيب العلم والعالم كالدمار والتكبر والاستعلاء وبيع الضمير.. علم لا يجعل غايته الكبرى المعرفة ثم المعرفة، بل علم يؤسس لعهد مع الله، يقدم أهدافا تتجاوز وجوده، حددها الله سبحانه وتعالى، أهمها الدعوة إليه والجهاد في سبيله، وهو علم يؤسس لمجتمع تسوده علاقات أخوية لا علاقات سلطوية استبدادية، يقول سبحانه في سورة النمل: بَلِ اِ۪دَّٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِے اِ۬لَاخِرَةِۖ بَلْ هُمْ فِے شَكّٖ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَۖ (68)؛ أي “سفُل علم القوم بالله عز وجل، بل انعدم واضمحل، ادارك علمهم بالآخرة، فهم في عماهم عن العلم الحق. وفتح الله عليهم بلاء العلوم والصنائع والتكنولوجيا تجري بهم وبالعالم. هي تتحكم لا هم. الله سبحانه يجريها ويرسيها، ادارك علمهم بالآخرة فهو في أحط المحطات” 2.

علم الحق النافع دنيا وأخرى هو ما جاءنا من الوحي في الكتاب والسنة، وكل العلوم الكونية الأرضية إنما تنفع إن استعملت لإبطال الباطل وإحقاق الحق، فالعلم  فهم العقل الخاضع لجلال الله، ونور في قلب من أيده بالإرادة الجهادية، وليس العلم النافع ما تكدست فيه النقول، وقل الفهم، وانتكست الإرادة 3.

ومن خصائصه: اقتران العلم بالعمل، هو علم خطوة لا علم خطبة. عِلم يشرق في القلوب إيمانا وتصديقا، وفي العقول تدبيرا وتطبيقا، علم يقربنا إلى الله تعريفا بالطريق. يكون العلم خطوة إن تلا التعريفَ تصديق، وتلا التصديقَ عمل وجهاد، وما دام العلم إمام العمل فإن أول خطوة أن نصحح المفاهيم ونطهرها مما علِق بها من الفهم المادي الدنيوي.

طلب العلم وبذله

طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ومن البذل إنفاق الوقت والجهد والمال في طلبه، والعلم بالله عز وجل وبكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هو العلم بما فرض الله وسن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو العلم المفروض طلبه فرضا بنص الحديث: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”.  

ولقد أمر الله عز وجل ببذل العلم وإنفاقه، وتوعد الذين يكتمون العلم بالوعيد الشديد حيث قال تعالى في سورة البقرة: اِنَّ اَ۬لذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ اَ۬لْبَيِّنَٰتِ وَالْهُد۪يٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِے اِ۬لْكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلْعَنُهُمُ اُ۬للَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اُ۬للَّٰعِنُونَ (158) إِلَّا اَ۬لذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا اَ۬لتَّوَّابُ اُ۬لرَّحِيمُۖ (159).

ولقد كان العلماء مركز إشعاع بالمساجد، يهرع إليهم السائل وتطرح عليهم قضايا الناس فيتقون الله عز وجل ويخافون أن يكتموا العلم، فيعلمون الناس ويجيبون عن الأسئلة، فكان شغل يومهم وليلهم تحصيل العلم وبثه، وكان البذل والتطوع والمسارعة إلى الخيرات والتكفل بطالب العلم هي البواعث وهي الفواعل. “إسلام قاعد في المسجد محوقل، خير منه ألف مرة إسلام مجاهد، فقه هذا الإسلام هو الفقه والعبادة صلبه وروحه” 4 فخلف من بعدهم خلف أضاعوا العلم وبخلوا به واتبعوا الشهوات.

العلوم الكونية

إن كان كسب العلم الضروري للعبادات الفردية فريضة على كل مسلم ومسلمة، على كسبه وبالاستقامة عليه تتوقف سعادته في الآخرة، فإن كسب العلوم والجهاد في تحصيلها قضية حياة أو موت في حق الأمة. وتحصيل هذه المعارف مرتبط بالعلم الأول وهو العلم بالله. “تَنفَع الأمةَ في الدنيا علومُ الكون لأنها قوة، وجهاد المؤمنات لاكتساب هذه العلوم مساهمة في الجهاد. لكن السعيَ باطِلٌ ضالٌّ إن انقطعتْ منقطعة عن الوحي، وكانت قِسمتها من العلم الشريف حقا، ومن الإيمان بالله واليوم الآخر، صفرا. مهما كان تحصيلها من علوم الكون ومهارات الدنيا، وصناعات التقنية، كبيرة، فنفع ذلك لها في الدنيا إن ترقت في السلم الاجتماعي وكسبت مالا وشهرة لا يزن عند الله شيئا” 5.

ومن العلوم العينية كتاب الله عز وجل تلاوة وحفظا وفهما، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دراسة واتباعا، وإتقان لغة القرآن لمحاربة الهيمنة الثقافية الأجنبية واحتلالها عقول أبنائنا وميادين حياتنا. ومن علوم الكفاية اللغات الأجنبية، والعلوم التجريبية التقنية وعلوم التنظيم والإدارة، وعلوم السياسة والاجتماع، وسائر العلوم الكونية الأرضية النافعة بشرط تجريدها مما علق بها من مباشرة الجاهلين لها وما تنطوي عليه مما يسمونه بعلوم الإنسان والإيديولوجيات من فلسفة كافرة وتصور مادي.

واحتكار هذه العلوم والاحتفاظ بأسرارها من طرف المستكبرين، جعل الأمة تعيش حصارا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتكنولوجيا، حيث لا مناص اليوم للمؤمنين والمؤمنات من اكتساب هذه العلوم المحتكرة هناك المشرفة المحتفظ بأسرارها في بلاد المتعلمين الأوروبيين، الغائبة هنا الغريبة، مساهمة في إعادة نهضتها وفي جهاد البناء والتغيير، إذ “لا مسكن للأمة على وجه الأرض ولا مستقبل لها إن لم تجاهد، وفيها عبقريات المومنات، لاكتسابها وترويضها والتسلح بها، عريانة أمة ليس لها قدم تزاحم الأقدام في هذه المواطن، جوعانة، عزلاء، نكرة، بلهاء، غثاء 6.

وتسلحنا بهذه العلوم الأرضية وحكمة الأمم لابد منه حتى لا يبقى علم الحق في نظر الغير مجرد نظريات وأساطير، وحتى نستطيع تجسيد ما نؤمن به من الحق على أرض الواقع.

والحمد لله رب العالمين.


[1] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2018/2، ص 135.
[2] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، ط 2018/4، ص 145.
[3] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 2022/5، ص 235.
[4] المنهاج النبوي، م. س. ص 246.
[5] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، ص 62.
[6] تنوير المومنات، م. س. ص 62.