العبادة الغائبة

Cover Image for العبادة الغائبة
نشر بتاريخ

استيقظت “أمينة” صباح الثامن من شتنبر هذا العام، متأخرة كعادتها، فهي تعاني منذ زمن من أرق حاد يمنع عنها النوم، ويبعده عن مآقيها.

تعيش “أمينة” في منزل كبير، يتكون من ثلاثة طوابق. لديها ثلاثة أولاد، اثنان منهم مهاجرين في الديار الكندية، والثالث يقطن في نفس المدينة التي تسكنها، ويفكر في الهجرة هو أيضا. الثلاثة متزوجون ولديهم أطفال.

تعاني “أمينة” من الفراغ والوحدة القاتلة، فقد استوحشت البيت بعد وفاة زوجها وسفر أولادها. أصابتها الكآبة، واستسلمت للأحزان، وأصبحت رهينة الذكريات الجميلة عندما كان زوجها على قيد الحياة، وأولادها مازالوا صغارا…

كانت تعاني من العديد من الأمراض النفسية التي أثرت على صحتها الجسدية فأصابتها بالخمول، وجعلتها لا تغادر البيت إلا نادرا؛ إما لقضاء غرض مُلحّ، أو أداء واجب عائلي، وما سوى ذلك لا شيء يذكر.

فتحت التلفاز، وأخذت تنتقل من إذاعة لأخرى، حتى ثبتت يدها على قناة مشهورة، فكانت الصدمة، لقد ضرب الزلزال البارحة العديد من المناطق في المغرب.

ارتشفت بضع جرعات من قهوتها الصباحية، وأخذت هاتفها وشغلته بعد أن كان خاليا من الشحن طيلة ليلة البارحة، لتجد كمّاً هائلا من المكالمات والرسائل من طرف ولديها، يريدان الاطمئنان عليها.

هالها منظر الخراب والدمار الذي أصاب العديد من المنازل والدور.

أرعبتها أرقام الموتى، واستبد بها الخوف وهي ترى الجرحى.

اتصلت بمعارفها لتجد بعضهم أحسَّ بالهزة الأرضية، ومنهم من تضرر منها.

وتوالت المقاطع والفيديوهات تحكي حجم الكارثة، وهول المصيبة، وكمَّ الدمار.

نظرت إلى جدران البيت التي أودعت فيه مال عمرها، وكان منتهى آمالها، ومجمع أحلامها.

تمَلَّت فيه بكل جوارحها وقد أصبح موحشا، خاليا إلا من أثاث فاخر يعلوه الغبار.

تأملت الأفرشة الغالية التي اختارتها بكل حب وعناية.

تمعَّنت في صور أولادها منذ الولادة إلى حين لحظة زفافهم، وكذا صور أحفادها، افتقدت وجودهم، وقد كانت أول من شجعهم على الهجرة من أجل بناء مستقبل أفضل وحياة أجمل.

شاهدت منظر القبور الجماعية التي حُفِرت من أجل مواراة جثث الموتى؛ فتراءت لها الحياة متناهية في الصغر، قصيرة المدة، عابرة كما قطار سريع.

استهلكت حياتها في البناء والتأثيث والتحضير، دون أن تقف مع نفسها لحظة واحدة تتأمل فيها مصيرها ووجودها في هذه الحياة.

على عتبة الستين تنظر ماذا صنعت من أجل حياة حقيقية سعيدة، ليس كحياتها هي؛ كئيبة، حزينة، موحشة..

بنت سعادتها على أشخاص وأماكن، لتجد البناء هشاًّ، سيتداعى مع أول زلزلة.

أجل؛ هكذا كان بناء نفسها، فصلاتها كانت في عمر متأخر، صلاة من يؤدي واجبا..

أما اهتماماتها فكانت منحسرة في دوام كامل خارج البيت، واهتمام بالبيت وما يلزمه بعد عودتها من العمل..

كانت، كما الجميع، تسعد بعطلتها خارج الوطن أو داخله، بالنتائج العالية التي يجب أن يحرزها أولادها، ثم اختياراتهم الدراسية والجامعية..

كان كل ذلك يؤنس روحها ويفرحها. أما الآن فتأرق عيناها ليلا كاملا، وما اهتدت روحها إلى ركيعات في جوف الليل، تسأل فيهن الملك الوهاب أن يرزقها السكينة والطمأنينة المفقودين وقد تقدمت بها السنون.

أما وهي تنظر إلى صور الزلزال ومخلفاته، فقد استشعرت نعم الله العديدة التي تكتنفها من كل صوب؛ منزل يأويها، وتقاعد مريح يكفيها، وأولاد تسعد برؤيتهم بين الحين والحين..

لقد تعلق قلبها بالفاني وغفل عن الباقي، وعين العقل أن يتعلق قلب الإنسان بالله وحده، مع تحقيق العبودية له دون سواه، من دنيا زائفة..

لا شيء ثابت في هذه الحياة.. لا شيء. وما الزلزال إلا صورة عن ذلك. ولا شيء أبدي أيضا.

لملمت أمينة شتات أفكارها وشعث روحها وتوضأت، وكأنه وضوؤها الأول، وانطلقت نحو غرفتها، حملت مصحفها ومسحت عنه غبار الأيام، ووقفت عند آخر آية قرأتها: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ.

بكت حتى ارتوت روحها، وتبين لها حجم عدم امتنانها للنعم التي تكتنفها، وضآلة ما تستشعره من عدم الرضا، والحمد للمنعم، مع الإحساس بتفاهة مصابها وضآلة مشاكلها مقارنة بمآسي الناس وحاجتهم وفقرهم ومصابهم.

وصلت بخشوع من يبحث عن تعسيلة يختم بها ما بقي من حياته، فكان القرار بالانشغال بحلقات الذكر وحفظ القرآن، وتكريس أيامها للعمل التطوعي؛ ترضي به الرب، وتسلي القلب الحزين الذي أضاعه الفراغ وطول الأمل، فأكرمه الله بعبادة جليلة كان قد أخطأها، وغابت عنه، ألا وهي شكر النعم.