الصيام والتـقــوى

Cover Image for الصيام والتـقــوى
نشر بتاريخ

مــقدمــة

التقوى صفة من الصفات الحميدة التي يوصي بها الله جل وعلا في كتابه العزيز حيث يقول في سورة النساء وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ (131)، وأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه معاذ بن جبل؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن” (الإمام أحمد والترمذي) والحديث من جوامع الكلم. والتي يجب أن يتحلى بها خلق الله عامة وكل مسلم على وجه الخصوص.

وردت كلمة التقوى في القرآن الكريم بجميع مشتقاتها نحو مئتين وخمسين مرة، وهي كلمة جامعة لخصال الخير في الدنيا والآخرة. ومن بين هذه المواضع نجد في سورة البقرة الآية 182، يقول فيها الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، والتي تدل على عبادة من أجل العبادات توصلنا إلى التخلق بهذا الخلق الرفيع. فماذا تعنى كلمة التقوى؟

معنى التقــوى

التقوى لغةً: اسم من اتقى ومعناها الوقاية، وهي ما يحمي به الإنسان نفسه.

التقوى شرعاً: خشية الله سبحانه؛ أي أن تجعل بينك وبين ما يغضب الله تعالى وقاية، ولا يكون ذلك إلا بامتثالِ الأوامرِ واجتناب النواهي، أن يراك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك .

في الآية الكريمة يخبرنا الله جل وعلا أنه سبحانه فرض الصيام على المؤمنين فرضا وإلزاما كما فرضه على من كان قبلهم من الأمم (اليهود، النصارى..). وليس المقصود من الصيام الجوع والعطش المجردين من تأثيرهما على المسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (رواه البخاري)، فالصوم مراتب ثلاث كما صنفه الإمام الغزالي رحمه الله:

– صوم العموم: وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف بقوله: رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش” (رواه الإمام أحمد).

– صوم الخصوص: وهذا الصنف ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله أحد فليقل إني صائم” (متفق عليه).

– صوم خاصة الخاصة: وهو صوم القلب والجوارح والعقل، والإقبال على الله بالكلية المنصرف عما سواه، متمثلا كل ذلك في قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (الأنعام، 91)، وهذه رتبة الصالحين والمقربين والمخلصين والأنبياء.

وإنما بين الله تعالى أن القصد من الصوم بلوغ التقوى، وجعلها صفة ملازمة للمسلم، تجعله شديد الحرص على اجتناب المعاصي صغيرها وكبيرها، مسارعاً للطاعات والعبادات، وكثير التوبة. فالذين يخشون ربهم ويخافونه هم الأتقياء الأنقياء سراً وعلناً؛ فالتقوى محلها القلب والقلب مضغة بصلاحها يصلح الجسد كله وبفسادها يفسد الجسد كله، وما إن تستقر التقوى في القلب حتى. يظهر أثرها على بقية الأعضاء قولاً وعملاً، إذ لا فائدة من القول دون عمل.

وقد جاءت عدة تعريفات للتقوى على لسان الصحابة الكرام، منها قول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما سئل عن التقوى قال هي: “أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر”. أي:

1. أن يطاع فلا يعصى:  يقول الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال، 24)، أن يفعل العبد ما أمر الله ورسوله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده، ويترك ما نهى الله ورسوله عنه إيمانا بالنهي وخوفا من وعيده، يقول صلوات ربي وسلامه عليه: “ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فانتهوا” (رواه أبو هريرة في صحيح مسلم)، وقال ابن القيم: “وأصل التقوى معرفة ما يتقى ثم العمل به، فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه ثم يلتزم طاعة الله ورسوله. كما قال طلق بن حبيب إذا وقعت الفتنة فاطفئوها بالتقوى قالوا: وما التقوى قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

2. أن يذكر فلا ينسى: يقول سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (الأحزاب، 41)، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الحشر: 19). وهذه العبادة تستلزم، بلا شك، ذكرَ الله تعالى واستحضارَه الدائم في كل ما يقوم به العبد أو يترك؛ ذكرًا يتجاوز كلمات اللسان إلى حال الجوارح وسلوكها. وذكر الله هو سلوك فردي وجماعي وفي جميع الأحوال.

وكما أُمرنا بذكر الله، فإننا نُهينا عن نسيانه والغفلة عنه. فنسيان الله هو تلخيص جامع دقيق لأزمة الإنسان، ولسبب بلائه في الدنيا وشقائه في الآخرة.

3. أن يشكر فلا يكفر: يقول الله عز وجل فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي ولَا تَكْفُرُونِ (البقرة، 152). وشكر الله تعالى يكون بالأمور الآتية:

– شهادة القلب على نِعَم الله -عزّ وجلّ- وفضله على الإنسان، والتذلّل له بالخضوع والمحبّة.

– ذكر اللسان لنِعَم الله -تعالى- وشكره عليها لفظا، والثّناء عليه والتبرّؤ من حول الإنسان وقوّته فيما عنده من نِعم. ويحمده كثيرا على ما أجزل له من النّعم والعطايا، ويحرص ألّا ينسب النّجاح والتفوّق والعلم والإنجاز لنفسه؛ لأن ذلك جحوداً لفضل الله ونعمه، وإنّما ينسبها لله -عز وجل- ليكون من الشاكرين.

– تسخير نِعَم الله -تعالى- على الإنسان بما يرضي الله تعالى، والبُعد عمّا يغضبه. وإن أراد المسلم شُكْر الله عز وجل فلا بد له من الاعتراف بفضله؛ بأن يعلم ويُوقن أنّ كلّما يحصل له من خير أو يتجاوزه من سوء نعمة من الله -تعالى- فيكون ذلك يقيناً متمكناً في قلبه.

كما يجدر بالمسلم ليتم شكره على أكمل وجه أن يستخدم النعم بما يرضي الله؛ فلا يجوز للإنسان أن يستخدم جسده وحواسه وأمواله للقيام بالفواحش والمنكرات والمعاصي والآثام.

– ومن صور شكر الله -عز وجل- شكر الناس على إحسانهم وتقديمهم المعروف والبر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “مَن لا يَشْكُرُ الناسَ، لا يَشْكُرُ اللهَ” (رواه أحمد وصححه الألباني).

بعض ثمار التقــوى

بين الله تعالى أن أفضل ما يتزود به الإنسان في سفره إلى الله والدار الآخرة هو التقوى لقوله سبحانه: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (البقرة، 197).

– ومن ثمار التقوى أن الله عز وجل وعد المتقين بالبشرى في الآخرة حيث قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة (يونس، 10).

– وجعل لهم محبته فقال: بلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين ( آل عمران، 76).

– ومن كرامته عليهم أعد لهم جنات عريضة لا يقدرها حق قدرها إلا الذي خلقها فقال: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران، 133).

– ومن كرمه على عباده أنهم يحشرون إليه وفدا، يقول عز من قائل: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (مريم، 85).

– وهي سبيل إلى سعة الرزق، حيث يأتي من حيث لا يتوقع، قال تعالى: ‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (الطلاق، 2-3).

– وفي تقواه تعالى تكفير السيئات وتعظيم الثواب، قال عز وجل: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (الطلاق، 5).

فمن أراد الدنيا عليه بتقوى الله، ومن أراد الرزق عليه بتقوى الله، ومن أراد الذرية عليه بتقوى الله، ومن أراد المال… ومن أراد الفرقان بين الحق والباطل عليه بتقوى الله، وما أحوجنا إلى هذا في أيامنا هذه ونحن نعيش الفتن حيث اختلط الحلال بالحرام، ومن أراد النجاة والسعادة فعليه بتقوى الله، ومن أراد الآخرة فعليه بتقوى  الله، ومن أراد جوار ربه فعليه بالتقوى؛ يقول سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ  (القمر، 54 – 55).

خاتمــة

إنها  منح عظيمة وعطايا ربانية في شهر الصيام، شهر التقوى والقيام ومدارسة القرآن، شهر الجود والإحسان، نعيشه بخيره ومِنَحِه وبركاته. فاللهم ارزقنا إقبالا صادقا نقدر هذا الشهر حق قدره، وأوبة وتوبة يمحو الله بها الخطايا ويقيل بها من العثرات ويقي من الزلات، ونكون بها من المتقين. اللهم اكتب لنا ذلك واجعلنا من أهل التقوى.

آمين والحمد لله رب العالمين.