السعداء (3)

Cover Image for السعداء (3)
نشر بتاريخ

يعجز القلم في بعض الأحيان عن كتابة ما يملي عليه الجنان؛ لعلّه يرفض، أو لعله يعتذر. وتفعل الشيءَ نفسَه لوحةُ المفاتيح على الحاسوب ممتنعةً معتذرة معترضة حينما تضغط عليها الأنامل لكتابة آلامٍ وأحزانٍ وأحداثٍ تكاد السماوات يتفطرن منها أسىً، وتنشق الأرض شجىً، وتخرّ الجبال شجنا.

ما تلكّأتِ اليومَ لوحةُ المفاتيح عن كتابته هو قصّة صديقي “السي علي” 1 الذي واريناه التراب قبل بضعة أيام.

بدأت القصة قبل أربعين عاما حينما ولد في بيت من بيوت البادية؛ حيث شظف العيش وقسوة الحياة والنَّصَب. لم يولد وفي فمه ملعقة ذهب، لكن كان في انتظاره ما هو أغلى من الذهب؛ الحنان والعطف والحَدَب، والأخلاق والتربية والأدب. وحينما فتح عينيه استقبلته بحرارة سعادةُ إخوة، ورحمةُ أمّ، وعطفُ أب.

وما إن بلغ الخامسة من عمره حتى أخذه أبوه إلى “السي إسماعيل” معلّم القرآن في القرية، فقضى ما شاء الله من سنوات مع شيخه هذا يتعلّم كلام الله، حتى أتمّ حفظه عن ظهر قلب. وهنا بدأت مسيرته مع المساجد متنقلا من مسجد إلى آخر، باحثا عن لقمة عيش هنية من حلال طيب.

كان البحث مضنيا، وكانت التنقلات كثيرة، فالمساجد في البوادي خاوية على عروشها، لا يزورها النّاس إلاّ في الأعياد وفي رمضان، والمدارس العصرية نالت كلّ الاهتمام وتفرّدت بالصبيان، فمن ذا يعلّم ابنه القرآن، ليصبح إماما يستجدي الإحسان.

من مسجد إلى جامع، ومن قرية إلى أخرى، ظلّ “السي علي” يبحث عن مكان يجد فيه راحته، وينيخ فيه راحلته، حتى انتهى به المطاف في قرية من قرى مدينة أكادير؛ هناك استقر، ووجد رفيقة العمر.

تزوج وأنجب، وأصبح لديه بنت وولد. كان راضيا بقسمة الله، حامدا لأنعمه، شاكرا لآلائه، قانعا بعطائه، لا يطلب زينة الدنيا، ولا يستهويه زخرفها، راضيا منها بالكفاف.

ومرّت سبع سنوات منذ أن استقر بأكادير، يزور أهله في المناسبات، ويزورونه إذا اشتاقوا إليه. حتى كان ذات يوم اتصل به أخوه الوحيد “حسن” فوجده طريح الفراش. فحمل أمّه وانطلقا إليه ولم يطيلا النقاش.

بعد سبع ساعات من السفر الشّاق بلغوا إلى بيت “السي علي”، دلفت أمّه أولا، فوجدت صغيرها في حالة يرثى لها. هوت صريعة من هول ما رأت، انخفض سكّرها، انشغلوا بها عنه سويعة ثمّ قرروا بعد تشاور أن ينقلوه إلى بيت أبويه.

عارض “السي علي” ولم يشأ أن يترك منزله، لكن أمام إصرار أمّه وتودّد أخيه أذعن وقبل. فاستقلّوا نفس سيارة الأجرة التي جاءت بهم من الجرف الأصفر، وعادوا به إلى مسقط رأسه ومعهم زوجه وأولاده.

لمّا وصلوا إلى قريتهم، كانت الجموع الغفيرة في الانتظار، كان المشهد وكأنّه مأتم أحد الأعيان.

في اليوم الموالي بدأت رحلة العذاب في المستشفيات؛ بدأ الحلْب أو إن شئت قل العصر – فالحلْب يدرّ الحليب، والعصر لا يأتي إلا بالدم والصديد – إنّه عصر وحصر؛ تحليلات باهظة الثمن، بعدها الماسح الضوئي الذي يقصم الظهر، ثم أدوية خاصة تشتريها بأجرة شهر. ثمّ عود على بدء. بعد أسبوعين قضاهما “السي علي” في مصحّة بمدينة الجديدة، تحسّن قليلا وعاد إلى البيت. لكن سرعان ما انتكس، وبدأ يهزل يوما بعد يوم، فلم يستطيعوا الجلوس دون فعل شيء -رغم أن “حسن” كان يعلم خطورة المرض-، لذلك حمله إلى المستشفى الإقليمي بمدينة الدار البيضاء. مكث معه خمسة أيام، ثمّ شعرت الأمّ الحنون بحرقة في كبدها، ولوعة في قلبها -وقلب الأم جسّاس حسّاس- فطلبت من الأب الصابر المحتسب أن يذهبا لزيارة فلذة كبدهما.

حينما وصل الأبوان وجدا صغيرهما قد يبس كما ييبس العشب، قالت الأم لابنها البكر اذهب أنت إلى البيت، استحمّ وغيّر ثيابك، ها أنا ذي سأبقى معه حتى تعود.

عاد حسن إلى بيته في البادية، فاستقبلته عند الباب “خديجة” -بنت أخيه ذات الأربع سنوات- وقالت: ” عمّي، أين أبي؟ ألم تحضره معك؟”

أجابها والقلب يتفتت لوعة: ” لا، لم آت به الآن، لكنّه سيشفى من المرض ويعود إليك”.

ولما ولج البيت تلقّاه حمزة -ابن أخيه- وقال: “جئت وحدك وتركت أبي؟ أين تركته؟ لم تركته؟”.

دمعت عينا العمّ وقال: “حالما يشفى من مرضه سيعود إليكم. لقد سلّم عليكم كثيرا”.

استحمّ حسن وغيّر ملابسه التي نَتُنت ريحها بسبب العرق والنوم ورائحة المستشفى، فغيّر كلّ ذلك الخليط ريح تيك الثياب، إضافة إلى ريح الألم والحزن المنبعثة من قلب أخ يرى أخاه يذهب أمامه رويدا رويدا، دون أن يملك له شيئا.

لم يتركه الناس يرتاح، فبمجرد معرفة أهل القبيلة برجوعه، حتى بدأوا يتقاطرون زرافات ووحدانا يسألونه عن حال أخيه. كان يجيبهم بتفاؤل كبير، إذ إنّ أحد الأطباء أعطاه أملا كاذبا وأوهمه أنّه سيقوم في الأيام القادمة بإجراء عملية جراحية لأخيه تكون الشفاء بإذن الله.

في هذه الأثناء -وحسن يردّ متفائلا على أسئلة الناس واتصالاتهم- كان الأجل قد حان، وملك الموت حلّ ضيفا بالمستشفى الذي كان يرقد فيه “السي علي”. كان أبواه عند رأس فلذة كبدهما حينما شعرَ بالموت يلتهم جسده الضّامر، طاشت دمعتان حارّتان كبيرتان من عينيه الغائرتين وارتطمتا بعظام خدّيه التي نتأت من شدّة العجَف، قالت الأمّ والأسى يعتصر قلبها: “ما يبكيكَ يا كبدي؟” أجابها بشجن: “أولادي يا أمّاه، أولادي أمانة عندكم”. أجابته المسكينة باكية وقالت: “أشقُّ قلبي يا بني، وأدخلهما فيه ثمّ أطبق عليهما”.

قال الأب والألم يعتصر حشاه: “لا يا بني، نحن ما زلنا نريدك، ستقوم إن شاء الله وتعود إلى بيتك وأولادك ومسجدك، وستصلي بالنّاس التراويح في رمضان كما تمنّيت”.

أجابه بأدب وإشفاق: “انتهى أمري يا أبي، هذا أوان الرحيل”، ثم أخذ يتلو القرآن، يتلو والموت يدنو، هو يتلو وملك الموت يدنو. اتكأ على جنبه الأيمن فانسكب من فمه الدم، ثم انقلب إلى جانبه الأيسر فانهلّ الدم أيضا… ما زال يتلو، تشهّد وصعدت روحه إلى بارئها، وتركت لنا جثّة طاهرة عاش صاحبها مع القرآن طيلة ثلاثة عقود ونصف.

صعقت الأم، صرخت… ذاع الخبر، وصل إلى حسن.

بات حسن ليلته على أحرّ من الجمر، ففي الغد أمامه يوم عصيب مُرّ. إذ عليه أن يعود إلى مدينة الدار البيضاء ويقوم بالإجراءات الإدارية، ثمّ العودة بأخيه إلى البادية حيث سيتمّ الدفن.

وفي الغد يسّر الله كلّ تلك الأمور، وحمل حسن أخاه وعاد به في صندوق مختوم من خشب. وفي الطريق كان همّ كبير يشغل باله: “ماذا أقول للصغيرين وقد وعدتهم أنّي سأعيده إليهما سالما؟ كيف ستنظر عيني في أعينهما؟”.

وصل الجثمان، وحضرت جموع هائلة من النّاس كلّهم يثنون على الفقيد ويسألون له الرحمة والغفران. واريناه الثرى وسقينا قبره بدموع سجام، تُليت ترحّما عليه آيات القرآن، ووعظنا شيخ من القرّاء وذكر مناقب “السي علي” فوجلت القلوب وخفق الوجدان.

لا قَضى اللَه بيننا بالفراقِ

إنَّ طعمَ الفراق مُرُّ المذاقِ

غُصَصٌ الموتِ ساعة ثم تفنى

وفراق الحبيب في الصدر باقِ

يا فراقَ الحبيب أنت عذابٌ

قاتلٌ للمحبِّ حتّى التلاقي

كلّ يومٍ أموتُ من ألفِ لونٍ

وأرى الموتَ لذةً للفراقِ

وفي حفل التأبين جاء “مقدّم القرّاء” يحمل مائة درهم إلا خمسة عشر درهما، فأعطاها لحسن وقال له: “مذ جئتَ بـ”السي علي” مريضا، جعلنا له سهما في كلّ مناسبة نحضرها، وهذا نصيبه من آخر المناسبات”.

هتن دمع عيني وأنا أسمع الرجل يقول هذا الكلام. قلت: “يا سلام، يا سلام، نِعمَ القوم أنتم، ونعمَ أهل القرآن”.

 نَعَمْ، المبلغ قليل، لكنّ الفعل عظيم جليل.

أشعريون في زمن الأنانية!

ألا سلام على قوم كان القرآن العظيم ربيعَ قلوبهم، تلوه آناء الليل وأطراف النهار، تعلّموه وعلّموه وعملوا به، فاستناروا وأناروا للنّاس دروبهم.

ألا سلام على قوم ما زال لديهم إحساس، في زمن فقد الناس فيه كلّ إحساس.

ألا سلام على أناس لديهم قلوب من ماس، في عصر تحجّرت فيه قلوب النّاس.

وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.


[1] “السي” في العرف البدوي تعني السيد، وهم يعطون هذا اللقب لكلّ شريف أو حامل قرآن.