السعادة إنجازات ورضا

Cover Image for السعادة إنجازات ورضا
نشر بتاريخ

تمهيد

السعادة  كلمة تطرب لها الروح وتهدأ لسماعها النفوس وتستلذّها الآذان، وهي مطلب الفقير والغني، الصغير والكبير، ذو المكانة والمغمور من النّاس، وكأنها مطلب سرابيّ في صحراء متاعب الدنيا ورصيف همومها.

إنّ مفهوم السعادة أصبح في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة تعريف وتقديم، بعد أن أصبح مبتذلا لحدّ الندرة، فالكل يمتلك مظاهر السعادة وأشكالها وقليل من يعرف حقيقتها ويتذوق رحيقها، نعلن جميعا وخصوصا عبر وسائل التواصل المتعددة سعادتنا، لكن حين يسألنا شخص سؤالا بسيطا “ما هي السعادة؟” نلوك مفاهيم عدّة بعضها متناقض وبعضها جزئيات وجزيئات متكاملة، أو حين نجلس مع ذواتنا في لحظات معدودة نفتش عنها لا نكاد نعثر على إجابة ولا على ذواتنا، لأن المفاهيم اختلطت وتعقدت، ما بين السعادة والرفاهية وتحقيق الإنجازات والمتمنيات، وما إذا كانت السعادة قناعة وصناعة أم قدر ورضا.

كل هذا قد شوش على “السعادة” كمفهوم وذوق وحال نستحق أن نحيا به ومن أجله، فإن لم يكن في حياتنا من المتعة والرضا ما يضفي عليها معنى خاصا فما فائدة الحياة إذن؟

السعادة في الثقافة الغربية

حسب التصور الليبرالي والقيم الكونية التي نتجت عنه، المال هو القيمة العالمية الوحيدة، إنه مقياس الترف الباذخ والرفاهية اللاهثة وراء عولمة التجارة وأجندات الحروب والمنافسة والتسابق والتباري في المظاهر والموضة، وهو ميدان للتسابق مع غزو هذه الثقافة الاستهلاكية التي تكرس دوابية الإنسان وتنحو به بعيدا عن القيم الأخلاقية والروحية، حتى أصبح الأشخاص أرقاما في آلة الرأسمالية المتوحشة، وأصبحت الرفاهية والفردانية التي تركز على المادّيات صوى للسعادة. لكن الاقتصار على المادّة من خلال إباحية الجسد ورفاهية الاستهلاك والإفراط في ذلك، خلق وما يزال معاناة وشقاء نفسيا وروحيا ومشاكل اجتماعية متناسلة لا حصر لها. 

في الفكر الاشتراكي يذهب الفيلسوف ألان باديو، الذي كان من أشدّ المؤمنين بالفكر الشيوعي في ستينيات القرن الماضي، وهو أقرب إلى فلاسفة العالم الحالي في رؤيته لمفهوم السعادة، إلى أنّ هذه الأخيرة قائمة في جوهرها على عدم الرضا وعدم القناعة بنظام العالم كما هو، أي التمرّد والسعي الدائم لتغيير الواقع، ولن يتحقق ذلك إلا بتبنّي فكرة التغيير. فالسعادة بهذا المعنى الشيوعي تحمل معنى الصراع والعنف مع عالم رأسمالي في محاولة لإنقاذ الإنسان من التشييء، يقول في كتابه “ميتافيزيقا السعادة الحقيقية”: “إننا في حاجة ماسّة إلى فكرة ما أو قيمة ما نسمّيها الحقيقة، بها يمكن أن نخاطر من أجل إيقاف هذه السرعة المجنونة لحضارة البضاعة المطلقة. وهذا يعني أنّه علينا التمسّك بفكرة جديدة عن الحقيقة وعن الكونيّة معا، وذلك من أجل المراهنة على شكل جديد من الكونيّة ضدّ كونيّة الرعب التي لم تنتج غير الفاشيّات”. فالسعادة هنا كونيّة الفكر الثائر الرافض اقتصاديا وسياسيا للرأسمالية، وللبديهيات والمسلّمات الاجتماعية الناتجة عنها.

السعادة في الفكر الإسلامي

في الثقافة الإسلامية، والفكر الصوفي على وجه التحديد باعتباره أعمق ما في هذه الثقافة، يرى الإمام الغزالي أن السعادة محلّها القلب، فيقول: “إن اللذة والسعادة عند بني آدم هي معرفة الله عز وجل”، ويكمل: “اِعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، كل شيء خلق له، فلذة العين الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأن القلب مخلوق لها” 1.

أين السعادة إذن؟ ما مصدرها؟ وما وعاؤها؟ أهو الجسد وحده؟ أم الفكر وحده؟ أم القلب وحده؟

إن القلب في المفهوم القرآني عاقل مفكّر، وقائد يضبط باقي العناصر حينما يصدّق أن الإنسان عبد لخالق قادر، عبد خلق ليسعى للتغيير، ويستمدّ القدرة في ذلك من الله لتغيير ما بالأنفس من رذائل وما بالآفاق من ظلم، رفضه للرذائل والظلم لا يجعله يتخذ العنف مطيّة يتوسّل بها لتسريع التغيير لاعتبارين اثنين؛ أولهما: القناعة أنه لا يمكن العيش في ظل المدينة الفاضلة يوما ما، وأن تحقيق العدالة رهين باستمرار التدافع بين الحق والباطل. وثانيهما: أن السعي الدائم للتغيير له غاية أخرى هي أسمى الغايات بالنسبة للعبد المومن تتعلّق بالمصير الأخروي ورضا الخالق سبحانه.

إن القلب ليسعد في مسيرته لتحقيق التغيير ولا ينتظر السعادة في نهاية الطريق، فالطريق ممتعة والإنجازات أمتع، لذلك فرفض المؤمن للواقع ليس رفضا مرَضيا مرفوقا بالخوف والقلق والتوجّس، إنه رفض الغضب لله والسعي لإرضائه وتقديم دلائل المحبّة والقرب له سبحانه.

ولأن الحياة ومسيرة التغيير ليست دائما إنجازات ونجاحا، ففيها من المطبّات القدر غير اليسير ومن الفشل وخيبات الأمل والجروح والفقد ما تنكسر أمامه فلسفات الشرق والغرب، ولا يصمد إلا القلب المصدّق الذي يسلّم قيادة النّفس لخالق قادر جبّار حكيم عليم، القلب المنضبط انضباطا يرحم كل عناصر الآدميّة فيه، ولا يؤمن باليأس لأنه لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ اِ۬للَّهِ إِلَّا اَ۬لْقَوْمُ اُ۬لْكَٰفِرُونَۖ (سورة يوسف، الآية 87).

إن السعادة في فكرنا سعي وإنجاز مستمرّين دائمين، ورضا ممزوج بالأمل في تغيير ما يمكن تغييره، وانتظار الفرج فيما يعجز الإنسان عنه، مع الدّعاء، فالإنسان ليس على كلّ شيء قدير، هذه صفة الخالق سبحانه، فمهما بلغت قدراتنا المادّية والمعنويّة نقف عاجزين أمام قدرة الخالق الحكيم. ولا يعني ذلك البتة تضييق مساحة الممكنات، فالتغيير في أحايين كثيرة يحتاج للضرب في الصخر وطلب المستحيل، سواء تعلّق الأمر بتغيير الذات أو الواقع، ودون ذلك مصاعب جمّة ومكابدة أشفقت منها السماوات والأرض والجبال.

لكن حينما يبصر القلب يرى المصائب والمصاعب من طينة الحياة وليست طوارئ عليها؛ لَقَدْ خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ فِے كَبَدٍۖ (سورة البلد، الآية 4). ومن شروط الإيمان: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّيٰ نَعْلَمَ اَ۬لْمُجَٰهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّٰبِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمُۥٓۖ (سورة محمد، الآية 32)، ولا يبقى إلا أن يسعى الإنسان لاستثمارها لصقل تجاربه، وبناء شخصيته، ورفع درجات عبوديّته بالإيمان بقدر الله وقضائه.

إن ما يميّز الفكر الإسلامي رؤيته الشمولية للإنسان؛ جسدا وروحا وفكرا، قوّة وضعفا، حياة دنيا وحياة أخرى، وذلك بالذات ما يصنع الشخصية المومنة المتوازنة الساعية المنجزة لكل ما يبهج، الراضية والفرحة بفضل الله ورحمته. أما السعادة فتطلق مجازا في الحياة الدنيا للتعبير عن سكينة الروح والشعور بالرضا والامتنان، وهي عطاءات من الله يقذفها في قلوب من يشاء، وتترجم حياة طيبة ترتشف بين يدي العناية الربانية، أما في كتاب الله تعالى فلا توجد هذه الكلمة إلا في حياة أخرى للمومنين الذين عاشوا لله وبالله: وَأَمَّا اَ۬لذِينَ سَعِدُواْ فَفِے اِ۬لْجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اِ۬لسَّمَٰوَٰتُ وَالَارْضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۖ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٖۖ (سورة هود، الآية 108).

محليا؛ احتلّ المغرب سنة 2022 المرتبة المائة عالميا في مؤشر السعادة الذي يصدر سنويّا بإشراف الأمم المتحدة في 20 مارس من كل سنة، وجل البلدان العربية ترتيبها متأخر نتيجة الأوضاع الجيوسياسية والضغوطات السوسيو اقتصادية. ففي عالم يكاد ييأس من قدرته على السعادة، بما يحصل فيه من ضروب البؤس والتعاسة وخاصة في العالم العربي الإسلامي، تبقى السعادة رهينة بتغيير رؤيتنا للمفهوم، فالفكر رسول الروح ومرآة الفعل. ونجدّد القول إن السعادة كفاح ومكابدة ورضا، تنبع من ذواتنا ولا تستورد من خارجنا إلا كأدوات ووسائل مكمّلة لبناء قائم الأركان، مشدود لأرض الإيمان واليقين بالله تعالى.                                                 


[1] أبوحامد الغزالي: كتاب كيمياء السعادة. مطبعة السعادة. مصر 1924. ص 139.