السراج المنير

Cover Image for السراج المنير
نشر بتاريخ

أشرقت الأرض بنور ربها عند ميلاد الهادي محمد، فأضاء نوره جميع الأرجاء، كما أخبرت بذلك مولدة أمه آمنة. فكان بركة ونورا أينما حلَّ وارتحل. حتى أذن الله تعالى ببعثته عندما بلغ الأربعين من عمره، فجعل الله تعالى بعثته رحمة للعالمين وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (سورة الأنبياء آية 107).

في غار حراء حدث اللقاء بين السماء والأرض، فكانت ضمَّة جبريل عليه السلام له إيذانا ببداية الوحي والتلقي عن رب العالمين، فرجع وجِلا خائفا مفزوعا إلى زوجه خديجة التي دثرته وطمأنته. فكان كلامها البلسم والشفاء: “كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق”.

فكان الأمر كما قالت رضي الله عنها، فما أخزاه الله أبدا، بل أعلى مقامه وأخزى أعداءه وأيَّده بنصره وبالمؤمنين؛ وَإِن يُرِيدُوٓاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ ۚ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِۦ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ (سورة الأنفال آية 62).

نعم، أيَّده الله تعالى بالمؤمنين؛ برجال ونساء صادقين استنارت قلوبهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكأنَّ نور السماء قد سرى في أوصالهم وبلغ مشاش عظامهم، وملئت كؤوس أرواحهم بفيض المحبة والرحمة حتى فاضت في أرجاء المعمور. فكانوا رضوان الله عليهم مصابيح الهدى، ومنارات ترشد الإنسانية إلى أنوار الهداية. كانوا سُرجا تضيء بأنوار المصطفى الذي وصفه الله تعالى بالسراج المنير؛ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (سورة الأحزاب آية 46)

بفضل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم نالوا شرف هداية الخلق إلى الله تعالى، فكان لهم عليه الصلاة والسلام القدوة والمثال. وكان هَواهُم وحبهم تبعا للمحبوب صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخر وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا (سورة الأحزاب آية 21).

كانت المحبة والصحبة متلازمتين، وتوالت المواقف وتتابعت لتؤكد هذا التلازم، وكلها تفتِل في حبل المحبة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه. حتى أن أحد أصحابه من فرط حبه لرسول الله قال: “وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عينيَّ مِنْهُ إِجْلالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عينيَّ مِنْهُ” (أخرجه مسلم في كتاب الإيمان).

وها هُم الأنصار يفرحون بعودة رسول الله معهم إلى ديارهم عقب غزوة حنين، حيث قال لهم صلى الله عليه وسلم: «أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم».

وهذا عمر بن الخطاب يعلن محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عَبْدِ الله بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي”. فَقَالَ النَّبِيُّ: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ». فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: “فَإِنَّهُ الْآنَ والله، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي”. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْآنَ يَا عُمَرُ» (رواه البخاري).

والدليل على عِظم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِن وَالِدِهِ ووَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (رواه البخاري)، ومعنى هذا أن المحبة والتعظيم للجناب الشريف علامة على كمال الإيمان الذي يؤدي إلى اتباعه والوصول إلى مرتبة نيل محبة الله تعالى؛ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  (سورة آل عمران آية 31 ).

لم تنقطع محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن تنقطع، فأنواره تشِعُّ في قلوب أتباعه وأتباع أتباعه ومن تبعهم إلى يوم الدين؛ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (سورة التوبة آية 100).

والطريق الموصلة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم والمفضية لحسن الاتباع والاقتداء به هي الصحبة الصالحة المؤمنة، والرفقة الحسنة التي تشَرّبت معاني الإيمان. ففي حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»  (رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح).

والصحبة الحسنة مفتاح كل خير، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالجليس الصالح وحذَّر من جلساء السوء، وذلك لما للجليس من أثر في سلوك وأخلاق من يجالسونه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة» (متفق عليه).

ومما قيل في الحرص على الصحبة الصالحة ما ورد عن الإمام مالك بن دينار حيث قال: “إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجار”.

رزقنا الله تعالى الصحبة الصالحة وجعلنا من أحباب رسول الله الذين يتبعون منهاجه ويقتفون أثره، ويغرفون من كأس محبته، ويذودون عن سنته، ويكثرون الصلاة عليه. آمين.