الدين المعاملة

Cover Image for الدين المعاملة
نشر بتاريخ

“الدين المعاملة”؛ عبارة جامعة يعتبرها بعض الناس حديثا نبويا وهي ليست كذلك، إنما مضمونُها مبثوث في آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة، وهي من صميم ما دعا إليه الدين وحث عليه الشرع.

فما مكانة المعاملة في شريعة الإسلام؟

أولا: أهمية المعاملات في شريعة الإسلام

اعتنى القرآن الكريم عناية شديدة بالمعاملات والأخلاق، إذ إن عدد آيات المعاملات يفوق الألف والنصف بينما عدد آيات العبادات يتجاوز المائة وبضع العشرة على اختلاف العلماء..

مما يدل على أن المقصد من العبادات تغييُر باطن الإنسان وتعديُل سلوكه، وتزكيةُ نفسه وتهذيبُ أخلاقه وتحسينُ معاملاته.

فالعبادات في الإسلام إنما شرعت لما تحدثه من أثر طيب في المعاملات، فهي توجه السلوك وتقومه وتغرس في النفوس التقوى والاستقامة والصلاح، وهذا ما يؤكده الحديث النبوي الشريف “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (رواه أحمد)،  وتشير إليه آيات كثيرة منها قوله عز وجل: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (العنكبوت، 45)، وقوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها (التوبة، 104).

إذن فالمقصد الأسمى من الصلاة والصيام والزكاة هو تخليصُ النفس من الرذائل والقبائح والمنكرات، وتقويةُ الإيمان وتحقيقُ التقوى والرقيُ في مدارج الكمال، كما جاء عند الإمام الغزالي رحمه الله: “فالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما أشبهَ هذه الطاعات من تعاليم الإسلام هي مدارج الكمال المنشود”.

فكيف وجه القرآن الكريم والسنة النبوية إلى حسن المعاملة؟

ثانيا: مظاهر حسن المعاملة من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية

إن حمل أمانة الدعوة والتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشرَ بشارة الإسلام وتطبيب أمراض المجتمع مهمةٌ جليلة يلزمها من الأخلاق وحسن المعاملة القدرُ الكثير…

من القرآن الكريم نقف مع قوله تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا (البقرة، 83)؛ ما المراد بالقول الحسن؟

يقول الإمام السعدي: “ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام والبشاشة.. وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أُمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهيُ عن الكلام القبيح للناس، وحتى للكفار، ولهذا قال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (العنكبوت، من الآية 46). ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده أن يكون نزيها في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء ولا شاتم ولا مخاصم، بل يكونَ حسَن الخلق، واسع الحلم، مجاملا لكل أحد، صبورا على ما يناله من أذى الخلق امتثالا لأمر الله ورجاء لثوابه”. إذن هي دعوة صريحة إلى حسن معاملة الناس والتخلق بجميل الأخلاق وامتلاك النفس والصبر على مخالطتهم..

وهذا السلوك الحسن منبعه قلب صادق محب، ولا يجب أن يكون مجرد مجاملة لفظية ومداهنة، وهنا يربط ابن عاشور بين ما ينطق به اللسان وبين ما يعتقده القلب، يقول “فهم إذا قالوا للناس حسناً فقد أضمروا لهم خيراً، وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق”، وتلك هي حقيقة الإيمان؛ ما يعتقده القلب يصدقه العمل.

ومن حسن المعاملة أيضا لزوم الرفق واليسر، وهي من مواصفات عباد الرحمان، قال تعالى وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلَّذِینَ یَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَـٰهِلُونَ قَالُوا۟ سَلَـٰما وَٱلَّذِینَ یَبِیتُونَ لِرَبِّهِمۡ سُجَّدا وَقِیَـٰما (الفرقان، 63-64).

المشي هنا مخالطة الناس كما قال أبو إسحاق الزجاج: “(يَمْشُونَ) عِبارَةً عَنْ تَصَرُّفاتِهِمْ في مُعاشَرَةِ النّاسِ فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِانْتِقالِ في الأرْضِ”، وصفة هذه المخالطة الهَون، ويراد به اللين والرفق والسكينة وليس المهانة أي الضعف والذل، يقول ابن عطية الأندلسي: (هَوْنًا) بِمَعْنى أمْرُهُ كُلُّهُ هَوْنٌ، أيْ لَيِّنٌ حَسَنٌ، قالَ مُجاهِدٌ: بِالحِلْمِ والوَقارِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: بِالطاعَةِ والعَفافِ والتَواضُعِ.

ويتضح أن التَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ ثمرة العبادة والوقوف الدائم بين يدي الله.. فعمل الليل يظهر فضله في النهار. هذا التحلي بكمال الأخلاق وجميل الآداب مع الناس تجلٍّ لاستقامة السر وعبودية الليل..

وبالوقوف مع السنة النبوية نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد ما جاء به القرآن من الدعوة إلى الرفق في المعاملة والإحسان إلى الناس، قال في  وصية جامعة  لأبي  ذر رضي الله عنه “وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ” أي: عاملهم وعاشرهم بخُلق وسجية وطبع حسَنٍ.

فما صور هذه المخالقة؟

جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليم وسلم أنّه قال: “أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا”.

فإدخالُ السرور، وكشفُ الكربة، وقضاءُ الدين، ومنعُ الجوع… أعمال جليلة ترفع الضيق والمَهلكة النفسية والاجتماعية والانكسار عن الناس،  وتبث فيهم الأمان والثقة، وتبشرهم بالفرج، لهذا أحب الله هؤلاء، وتلك منزلة عظيمة فمن أحبه الله أحبه أهل السماء والأرض.

ومن ثمرات نفع الناس وحسن معاملتهم أن كريم الخلق يحرم الله عليه النار ويرفع قدره، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ، عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ»؛ وتلك بشارة عظمى لمن كان حسن الخلق مع الناس.

قال أبو الحسن علي القاري: “قريب أي: من النَّاس بمجالستهم في محافل الطَّاعة، وملاطفتهم قدر الطَّاعة. سهل أي: في قضاء حوائجهم، ومعناه: أنه سمح القضاء، سمح الاقتضاء، سمح البيع، سمح الشِّراء”.

وهكذا ربى الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام على حسن المعاملة وطيب الأخلاق مع خلق الله جميعا، فتشربوا منه صلى الله عليه وسلم معاني الرحمة والرفق  في كل شيء، وغرس فيهم جميل الخصال في القول والعمل، وحثهم على حسن المعاشرة  مع الناس، والتلطف بهم، وإنزالهم منازلهم، والتودد إليهم، والصبر على أذاهم، ومعاملتهم بالود والرحمة واللين وإفشاء السلام. وأوصى صلى الله عليه وسلم بالبر والإحسان إلى الوالدين والأهل والولد والجار والرحم؛ فهذا سيدنا جعفر بن أبي طالب يتحدث بلسان المهاجرين الأولين إلى الحبشة عندما سأله ملكها عن الإسلام قال: “كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الموتى ونأتي الفواحش ونقطع الرحم ونسيء الجوار..”، فقه سيدنا جعفر وسائر الصحابة رضوان الله عليهم أن قطع الرحم وسوء الجوار من أمور الجاهلية، وأن الإسلام جاء ليخرج الناس من ظلماتها بدعوته إلى حسن الجوار وصلة الرحم وإكرام الضيف… وجعله هذه المعاملات برهان صدق الإيمان بالله واليوم الآخر لعظم شأنها عند الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: “من كان يومن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه” (رواه البخاري ومسلم).

تعلم الصحابة  هذه المعاني الجليلة بصحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ من حاله وسلوكه وأخلاقه الكريمة التي أثنى الله عليها في قوله: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم، 4).

علم الحبيب المصطفى صحابته الكرام أن أساس الدين وقوامه؛ الإحسان إلى خلق الله، وجلب الخير لهم، وإسعادهم، وإدخال السرور على قلوبهم، وتفريج كربهم، وحفزهم على ذلك بالأجر والثواب والقرب منه يوم القيامة. وجعل أفضل الناس لما سئل عن ذلك “كل مخموم القلب صدوق اللسان” (صحيح ابن ماجة، 3416) ومخموم القلب كما أخبر صلى الله عليه وسلم هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد.

فكيف السبيل إلى هذا  الأمر؟

يؤكد السلوك النبوي الشريف أنه من حسنت معاملته مع الله عز وجل حسنت معاملته مع الخلق؛ ذلك أن الإحسان في العبادة مع الله بإخلاص النية والقصد، وإظهار التذلل والانكسار له، ودوام الوقوف ببابه، وأداء العبادات بقلب خاشع ذاكر شاكر، من شأن ذلك كله أن يطهر القلب من الغلظة والجفاء، ويفجر ينابيع الخير فيه، وأن يزكي النفس من الشر والآثام، وأن يقوم السلوك ويهذبه، ويحسن الأخلاق ويجملها، وإلى هذا أشار الأستاذ عبد السلام ياسين (في كتاب التنوير، الجزء 2، ص 56-5 7) عندما اعتبر حسن الخلق والمعاملة شكرا لله على الهداية للدين والإيمان: “تشكر ربها على نعمة أن هداها للإيمان، فتتفجر ينابيع الخير في قلبها، تترجم الشكر والخير عطاء من مالها وحنانها ووقتها واهتمامها ووقوفها بجانب اليتيم والمسكين والمقهور”.

وعلى هذا يجب أن نربي الأجيال وبه ينبغي أن يعاملوا؛ فحسن المعاملة سلوك يتربى عليه الأبناء في بيوتهم  بالقدوة الحسنة والمثال الرفيع؛ فالآباء والأمهات يصلحون من أحوالهم ويتخلقون بمكارم الأخلاق، ليتعهدوا البذرة الطيبة في الأبناء ويورثوهم  الأخلاق الفاضلة والمعاملة الطيبة من خلال ما يتعاملون به هم أنفسهم.

ختاما

نخلص إلى أن المعاملة برهانُ صدق إيمان الفرد، وأن أخلاقيات المسلم تتكشف على محك التجربة ليتضح مدى صدق ما ندعيه لأنفسنا من جميل الصفات، فالله تعالى يريد لنا صلاحا متكاملا دينا وخلقا وعلما وحلما، يقول الإمام عبد السلام ياسين: “إن البكائين في المساجد العاكفين على التلاوة والذكر لن يكونوا هم أهل النور والربانية إن لم يكن سلوكهم العملي مع الناس، الأقرب فالأقرب، سلوكا أخلاقيا مروئيا، يزنون بميزان العقل واللياقة والكفاءة والجدوى وحسن الأداء كل أعمالهم” (سنة الله، ص 281).

أسأل الله تعالى أن نكون ممن يديم العكوف في المساجد، ويداوم على الذكر، ويحسن معاملة الخلق، لأن “الدين المعاملة”.